الوضع (درس10)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 10 التاريخ : 2008/12/25 بسم الله الرحمن الرحيم كيف يحصل الترادف والاشتراك؟ اختلاف البلاد والأماكن هو الذي أدّى إلى تبلور ظاهرة الترادف في اللغة، وإلاّ فالاشتراك خلاف حكمة الوضع، والترادف بمثابة اللغو؛ لأنَّ هدف الواضع هو تسهيل التفهيم، وبالاشتراك يصعب التفهيم، لذلك احتجنا في باب الاشتراك إلى القرينة، كلفظ (العين) الذي يُستخدم في الذهب والفضة ومنبع الماء وغيره، فإذا لم نأتِ بقرينة عند استعماله كان معناه مردداً بين عدة معانٍ. إذا وضع شخص لفظاً لمعنًى ما تحقق الهدف من عملية الوضع، فإذا وضع اللفظ لمعنًى آخر كان عمله بمثابة اللغو. فلا بدّ ـ لدفع اللغوية ـ من القول بأنَّ تعدد الوضع حصل بهذه الكيفية: في بلدٍ استخدم لفظ (إنسان) للإشارة إلى الحيوان الناطق، وفي بلدٍ آخر استخدم لفظ (بشر) للإشارة إلى ذات المعنى. أو: استخدم (عين) في بلدٍ ما للإشارة إلى الذهب، واستخدم ذات اللفظ في بلدٍ آخر للإِشارة إلى الفضة، وبالتقاء الطائفتين حصلت عملية الاشتراك. نعم، قد يحصل الترادف لمناسبات خاصة، كوضع لفظ (الإنسان) للحيوان الناطق، ووضع لفظ (بشر) لذات المعنى، مع أنَّ الواضع واحد وقد وضع هذين اللفظين لمناسبات خاصة وللحاظ حيثيات مختلفة في معنى الإنسان، فكأنّه يُراد باستخدام (بشر) الإشارة إلى ظاهر الإنسان وشكله المختلف عن باقي الحيوانات، ويراد باستخدام مفردة (الإنسان) النظر إلى جانبه الاُنسي، وكذا الحال عند تسميته (آدمياً) فإنه يُراد بذلك الإشارة إلى أبيه المخلوق من الطين، وللحيلولة بينه وبين غروره بنفسه، فاختلفت الحيثية الملحوظة في التسمية. لكن هذا الأصل ليس كليّاً، والغالب في الترادف والاشتراك هو اختلاف البلدان والأمكنة والأزمنة. هذا ، مع أنَّ الترادف الأخير ليس ترادفاً في الحقيقة، بل تسميات متعددة باعتبارات وحيثيات مختلفة. هل يمكن الاشتراك؟ إنَّ البحث في هذا الموضوع يُعدَّ لهواً: لأنَّه بعد أن أقررنا بوجود الاشتراك كان أقوى دليل على إمكانه هو وقوعه، فلا داعي في البحث في إمكانه، وفي الزمن الذي نثبت إمكانه تتبلور اشتراكات كثيرة في اللغات، لذلك كان البحث في ذلك دون جدوىً. تعريف الوضع للوضع تعاريف ثلاثة: أوّلها: ما جاء به المرحوم الآخوند الخراساني في (كفاية الاُصول) حيث قال: (نحو اختصاص للفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما، ناشٍ من تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعماله فيه اُخرى. وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيّني كما لا يخفى). ثانيها: وهو لبعض كبار العلماء: (جعل اللفظ للمعنى). ثالثها: (وضع تعهدي). التعريف الثاني والثالث لا يشملان الوضع بالتعيّن؛ لأنّه بناءً عليهما عبارة عن جعل وتعيين وتعهد من قبل الواضع ، مع أنّه في التعيّني لا يوجد واضع خاص ليصدر منه جعل وتعهد، بل الاستعمال الكثير هو الذي جعل اللفظ حقيقة في معناه. أمّا التعريف الأوّلأ فيشمل كلا قسمي الوضع، كما صرّح بذلك صاحب (الكفاية). إيراد السيّد البروجردي على الآخوند الخراساني أشكل المرحوم البروجردي على صاحب (الكفاية) بعدة وجوه: الأوّل: أنَّ تعريفه ليس تعريفاً: وذلك لكون التعريف بيان لحدود الشيء وثغوره، بينما بناءً على تعريف الآخوند يبقى الشيء مجهولاً؛ فهو يقول في التعريف: (نحو اختصاص) ولم يبيّن ذلك النحو. الثاني: يقول في التعريف: إنَّ هناك طريقاً ثالثاً للوضع غير التعيين والتعيّن وهو استعمال اللفظ بداعي الوضع. ونحن نقول: إنَّ هذا ليس وضعاً، فالوضع هو جعل شيءٌ لشيء، أما هنا فيستعمل شخص لفظاً لإرادة معنًى خاص، ولم يبلغ الاستعمال الكثرة لكي يصبح وضعاً تعيّنياً. الثالث: أنّه تعريف بأثر الوضع لا لنفس الوضع: لأن اختصاص اللفظ بالمعنى من آثار الوضع لا نفس الوضع، بل مسبّباً عنه، فبعدما يوضع اللفظ يحصل الاختصاص، أمّا قبل الوضع فلا اختصاص؛ لأنّ نسبة جميع الألفاظ إلى جميع المعاني نسبة متساوية ولا امتياز فيما بيّنها. الرد على السيّد البروجردي يبدو أنّه لا أحد من هذه الإشكالات وارد على تعريف الآخوند: فيما يخصُّ الإشكال الأوّل نقول: التعريف ليس تعريفاً إذا بقي المعرَّف على ما هو عليه من مجهولية، لكنّه بيّن ورفع ما احتوى عليه من إبهام، حيث قال: (نحو اختصاص للفظ بالمعنى بالتعيين أو بالتعيّن)، ليس كلّ نحو، بل النحو الذي يحصل بالتعيين أو بالتعيّن نحو الجلّ للفرس، فهو نحو اختصاص للفرس، أو لا بالتعيين ولا بالتعيّن، نحو اختصاص الدار بساكنيها. فلو كان الآخوند اكتفى بعبارة (نحو اختصاص) كان إشكال البروجردي وارداً، لكنّه أضاف وشرح وبيّن بحيث لا يبقى إبهام. هذا، مضافاً إلى أنّه وفقاً لمبنى صاحب (الكفاية)، فالتعاريف جميعها من قبيل شرح الاسم، وإذا كانت كذلك فلا وجه للإشكال، فهي من قبيل (سعدانة نبت) فلا يمكن الإشكال هنا على هذا التعريف بأنّه لم يوضّح نوعية النبت؛ وذلك لأنَّ التعريف شرح للاسم فحسب. وفيما يخصُّ الإشكال الثاني، فإنَّ بعض الأعاظم صرّح بكون ما تحدّث عنه الشيخ الآخوند هو نحو تعيين من واضع، لكنّه تعيين عملي مثل بيع المعاطاة الذي هو إنشاء بالفعل لا بالقول، عكس ما عليه البيع حيث يحصل من خلال صيغة: (بعت). وفيما يخصُّ الإشكال الثالث بأن التعريف تعريف بالمعلول والمسبَّب لا العلّة والسبب، فهذا مصادرة وأوّل الكلام؛ لأنَّ باب التعريف باب الاصطلاحات، وصاحب (الكفاية) يدّعي أن الوضع جعل لهذا المعلول، وأنت تدعي أن الوضع يعني العلّة، ولا يمكن فعل شيء عندما يكون باب التعريف باب الاصطلاحات. من هنا يظهر ضعف ما في كلام سيدنا الاُستاذ الإمام ـ رحمه الله ـ على ما هو منقول عنه في (تهذيب الاُصول)، حيث اعتبر تعريف الآخوند غير شامل لعمل الواضع بل يخصُّ ما يتسبّب عن عمله. ويرد عليه نفس ما ورد على البروجردي من أنَّه مصادرة؛ لأنَّ الإمام يدَّعي أن عمليعرب بن قحطان هو الوضع، بينما الآخوند يعتبر مسبّب عمله أو معلوله هو الوضع. وفي النتيجة نقول: إنَّ الباب باب التسمية والاصطلاح ولا يمكن الإشكال فيه. والمختار هو كون تعريف صاحب (الكفاية) أحسن التعاريف، إن لم نقل بأنَّه صحيح وغيره غير صحيح؛ لأنَّ تعريفه جامع بين الأفراد، أي ما دلّ من الألفاظ على معنًى من باب التعيّن وما دلّ من الألفاظ على معنًى من باب التعيين. أمّا إذا عرَّفنا الوضع بكونه عبارة عن تعيين لفظ لمعنًى أو جعل لفظ لمعنًى، فعندئذٍ سوف لا يكون التعريف شاملاً للوضع التعييني، مع أنّه من مصاديق الوضع. وبالمعنى الذي ذكره الآخوند صحَّ تقسيمه إلى تعييني وتعيّني، وهذا دليل على أنَّ المقسم هنا جاء بمعناه الحقيقي، والتقسيم هذا ممّّا أقرَّ به القوم.
|