موضوع علم الاُصول (درس6)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 6 التاريخ : 2008/12/26 تمايز العلوم بسم الله الرحمن الرحيم الأمر الآخر في: الشيء الذي تتمايز من خلاله العلوم، بأي شيء تتمايز العلوم؟ هناك رأيان في هذا المجال: أحدهما: هو الرأي المشهور القائل بأن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، فموضوع علم النحو الكلمّة، وموضوع علم الاُصول الأدلّة الأربعة مثلاً. ثانيهما: تتمايز العلوم بتمايز الأغراض لا الموضوعات. وهو مختار صاحب (الكفاية)، خلافاً للرأي المشهور. وقد استدل على رأيه بوجوه ثلاثة: الأوّل: ربّما لا يكون لموضوع العلم عنوان خاص واسم مخصوص، أي قد يكون مجهولاً وإذا كان مجهولاً كيف يمكنه أن يكون مميّزاً للعلم؟ نعم، يكون مميّزاً فيما إذا كان معلوماً ومحدّداً، لكنه لا يكون هكذا دائماً. الثاني: قد تتداخل موضوعات العلوم ومسائلها، فنرى موضوعاً واحداً يُبحث عنه في علمين أو أكثر، مثل المجاز الذي يُبحث في علم البيان وفي علم الاُصول، وكذا الأمر في كونه ظاهراً في الوجوب، فيُبحث عن ذلك في اللغة وفي علم الاُصول. وإذا كان التمايز بالموضوعات كان المفروض عدم تداخل هذه الموضوعات، بينما نرى الواقع خلاف ذلك. الثالث: إذا كان التمايز بالموضوعات لزم أن يكون لكلِّ باب ـ بل لكلِّ مسألة ـ علم على حدة، فيكون لباب الأوامر الذي موضوعه الأمر علم، لباب النواهي علم، بل لكلِّ من مسائله علم خاص؛ لأنَّ في بعض المسائل يصبُّ البحث في الأوامر، وفي بعضها الآخر في النهي أو في شيء آخر. لا يقال: رغم تعدد وتنوّع موضوعات المسائل وموضوعات الأبواب، إلاَّ أنَّ ذلك لم يؤدِّ إلى تعدد العلوم؛ لكون الموضوعات يجمعها جامع واحد جعل من مسائل كثيرة وأبواب عديدة مجتمعة في علم واحد. لأنَّا نقول: الجامع منكشف بوحدة الغرض، وإذا لم تكن وحدة للغرض لا يكون هناك جامع؛ وذلك من باب (الواحد لا يصدر إلاّ من واحد)، وإذا بلغ الأمر إلى الغرض كان هو بذاته مميّزاً دون غيره. والوجوه الثلاثة التي ذكرها صاحب (الكفاية) غير تامة: يرد على الوجه الأوّل بأنّه رغم جهلنا أحياناً باسم الموضوع، إلاّ أنَّ الاُمور إذا لم تعرف باسمها تُعرف برسمها، فهو ليس مجهولاً مطلقاً، بل المجهول فيه هو الاسم فحسب دون غيره؛ ولهذا نقول: موضوع علم الاُصول هو الشيء الذي تعرض عليه محمولات المسائل، وهو دخيل في الاستنباط، أي أنّه يُعرف برسمه لا باسمه. نعم، إذا اعتبرنا موضوع علم الاُصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله فلا يمكننا اعتباره مميّزاً؛ لأنَّ الأساس هنا هو معرفة انطباق الكلّي أو عدم انطباقه على الأفراد، ولا فائدة في تحديد المسألة هل هي من مسائل علم الاُصول أو لا. ويردّ على الوجه الثاني بأنَّ التداخل بين موضوعات العلوم يرتفع بلحاظ الحيثيات والجهات المختلفة، فاللفظ من موضوعات علم اللغة، وهو من موضوعات علم الاُصول كذلك، والاختلاف في الحيثيات الملحوظة في كلّ من الموضوعين؛ ففي اللغة يُبحث عن اللفظ من حيث فهم المعنى المستعمل فيه، بينما يُبحث اللفظ في الاُصول من حيث دخله في عملية الاستنباط. وبذلك يرتفع التداخل. وبعبارة اُخرى: رغم أنَّ الأمر من مصاديق اللفظ ومن مصاديق الكتاب والسنّة، لكنه يختلف من الجهات المنظور إليها في كلٍّ من العلمين، فمن حيث المفهوم والمعنى من مصاديق اللفظ ومن مسائل اللغة، ومن حيث دخله في الاستنباط يُعدُّ من مسائل علم الاُصول، ومن حيث كيفية آخره يُعدُّ موضوعاً لعلم النحو، ومن حيث الصحة والاعتلال يُعدُّ موضوعاً لعلم الصرف. والتداخل هذا يرتفع باختلاف الجهات والحيثيات. أمّا الوجه الثالث، فتامٌ بناءً على الرأي القائل بأنَّ موضوع كلِّ علم هو الجامع بين موضوعات مسائله وفقاً لقاعدة: (الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد). أمّا وفقاً لمبنىالسيّد البروجردي رحمه الله ـ وهو الأفضل في هذا المقام ـ حيث ذهب إلى أنَّ موضوع علم الاُصول هو الجامع بين المحمولات بناءً على الارتكاز وبناء العقلاء، فلا يرد الإشكال. إذنّ، ليست كلّ مسألة علماً؛ لأنّ كلَّ مسألة مصداق للجامع بين مسائل الاُصول وهو (الحجة) في الفقه، كما أنَّ الجامع بين مسائل النحو هو (كيفية آخر الكلمة). فكل مسألة تدخل في العلم لا بما هي هي، بل بما هي مصداق لذلك الجامع الكلي. ولا يأتي الدور للغرض، فلا مقام له هنا. بعبارة اُخرى: تدخل المسألة في العلم إذا كان محمولها مصداقاً لمحمول الكلّي الجامع ، فخبر الواحد حجة، وهذه الحجة مصداق للحجة الجامعة، لذا تدخل في علم الاُصول. لكنَّ هذا المبنى غير تام كذلك، وينبغي طرحه إلى جانب. التحقيق: هو أنّ في الأمر تفصيلاً، فالتميّز على نحوين، فقد يكون التميّز في المسائل وللجاهل والمتعلّم، وقد يكون التميّز في التصنيف والتدوين. والتميّز بحسب الواقع يحصل كما لو كنت في مقام تدوين كتاب في الاُصول فأفرزُ المسائل الاُصولية عن غيرها لأحشرها في الكتاب. وإن شئت قلت: التميّز قد يكون في مقام الإثبات، وقد يكون في مقام الثبوت. وللأوّل طرقٌ: أحدها: الفهرسة، ففي بداية الكتاب يُكتب الفهرس ليعرف المتعلّم ما سيتعلم. ثانيها: الجامع بين المحمولات، فيقال: كلّ محمول في المسائل هو مصداق للحجة في الفقه، ويدخل في المسائل الاُصولية. ثالثها: الجامع بين الموضوعات. رابعها: الغرض، فيقال: كلّ مسألة تدخل في عملية الاستنباط تكون اُصولية، وإلاّ فلا. وهذا التميز للمتعلّم، ويأتي بعده التدوين، وله طرق أربعة. يبقى التميّز بالغرضَ، فإنّ لكلّ علم غرضاً خاصاً، وهو أوّلاً معلوم بالبداهة، فمجرّد أن يقول شخص: أريد الكلام في علم الاُصول، أو: أريد كتابة كتاب في علم الاُصول، يُسأل: ما غرضك من ذلك؟ فيجيب: الإلمام بالقدرة على الاستنباط. فيقال له : كلّ مسألة دخيلة في عملية الاستنباط ضمّنها كتابك. نعم، إن قلنا: بأنَّ الموضوع هو الجامع بين محمولات المسائل، وقلنا أيضاً بأنَّ الجامع بين المحمولات معلوم للجميع في الجملة، بناءً على هذين الأمرين يمكن أن يكون الموضوع مميّزاً في هذه الحالة، يمكننا القول بأن موضوع العلم مميِّز له، أي يمكنه أن يجد تعيّناته، وكلّ ما كان من تعيّنات الجامع كان جزءاً من العلم، وكلّ ما لم يكن من تعيّناته لم يكن جزءاً من العلم. يقول المرحوم السيّد البروجردي: (كون موضوع علم الاُصول هو الجامع بين المحمولات، والمحمول معلوم في الجملة من حيث إنَّ لله حجة واحدة، ولذلك يكون الموضوع في النهاية (الحجة) في الفقه). وبهذا يظهر أنَّ النزاع بينالسيّد البروجردي وصاحب (الكفاية) نزاع لفظي؛ فصاحب (الكفاية) يقول: (تشخيص المسائل لا يتمُّ عبر تشخيص الموضوع). ومراده من الموضوع هو الجامع بين موضوعات المسائل بواسطة الموضوع؛ لأنَّ الجامع بين المحمولات موضوع. إذن النزاع لفظي. فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنَّ مسائل علم الاُصول عبارة عن القضايا التي تدخل في غرض هذا العلم. والغرض عبارة عن كشف الحجة في أحكام الله. والمراد من الحجة ليس معناها الاصطلاحي ـ أي ما يقع في وسط الشكل الأوّل وحد الوسط ـ بل مرادنا معناها المتعارف، أي ما يُحتج به.
|