Loading...
error_text
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: البيانات
حجم الحرف
۱  ۲  ۳ 
التحميل المجدد   
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: الإمام الخميني (سلام اللّه عليه) أسوة للناس وللحكومة
خطاب سماحة آية اللّه العظمى الحاج الشيخ يوسف الصانعي(مد ظلّه العالي) ألقاه في اليوم العاشر من شهر خرداد (الشهر الايراني الثالث) ألقاه على جمع من العلماء والروحانيين الإمام الخميني (سلام اللّه عليه) أسوة للناس وللحكومة
بسمه تعالى

السادة الأعزّاء والإخوة الأجـلاّء.. السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
يبدو أنّنا على أعتاب العطلة الصيفية الطويلة، الممتدة إلى مابعد ثلاثة أشهر حارة، ويطيب لنا اليوم الذي هو آخر يوم من أيام السنة الدراسية الحالية أن نتحدّث عن بعض المسائل التي فيها نفع وفائدة لإخواني وأبنائي، في دنياهم وآخرتهم، إن شاء اللّه تعالى.
إنّ بداية العطلة الصيفية قبل الخامس والعشرين من شهر خرداد لم تكن معهودة ولاسائدة في الوسط العلمي قبل انتصار الثورة الإسلامية، بل حتّى لم تكن بالمستوى المعروف قبل زمان آية اللّه السيد البروجردي ولا بعده، حتّى عام 1342 ش (1963م)، وبالتحديد قبل الخامس عشر منه، فحدث حدث صار من جرّائه أن اختلف أساتذة الحوزة العلمية في قم في تحديد بداية العطلة الصيفية، مابين الخامس عشر منه ومن استمر كسابق عهده، أي حدّده في اليوم الخامس والعشرين منه .
والسبب في هذا الاختلاف يعود إلى ماحدث في اليوم الخامس عشر من هذا الشهر من حدث هزّ بلادنا، لدرجة أن شكّل انعطافة كبيرة في حياة شعبنا وطلبتنا والحوزة العلمية برمّتها، حيث وقعت في هذا اليوم المؤلم المجزرة الدموية العظيمة التي قام بها جلاوزة النظام البائد ضد طـلاّب وأساتذة وفضلاء الحوزة العلمية، وبالتحديد مجزرة المدرسة الفيضية المباركة، والقتل العمد الذي مارسه عناصر الشاه، وحصد الأرواح البريئة التي لم ترتكب مخالفةً ولاشيئاً سوى أنّها آمنت باللّه ورفضت الطاعة للطاغوت، وأعلنت عدم رضاها للأوضاع الجارية.
وبعد هذه الحادثة المروّعة آثر بعض الأساتذة التزام الصمت المطبق، وإعلان قبل الخامس عشر ابتداء العطلة الصيفية للطلبة; تفادياً لوقوع مثل تلك المجزرة، أمّا البعض الآخر فقد كان يرى أنّ المقاومة يجب أنّ تستمرّ، ولاينبغيّ التقهقر بأول صدمة من نظام وحشي ظالم لايعرف معنى الرحمة ولا الحوار، كان هذا البعض يصرّ على أن تستمرّ الدروس حتّى يوم الخامس والعشرين كما هو معهود .

الحوزة في مواجهة القمع والتنكيل
والسرّ في ذلك أنّ الطائفة ا لأولى التي آثرت الصمت كان تبرّره بالقول: إنّ الحادثة كانت مؤلمة على جميع الناس المؤمنة، ولاسيّما أفراد وفضلاء الحوزة العلمية، وقد وضعت الحوزة برمّتها في مواجهة القمع والتنكيل الرسميين، ولأجل الحفاظ على سلامة الآخرين المتبقين، وحياتهم وحياة عوائلهم المهدّدة، يجب رفع كلّ مايعرقل حركة الحوزة العلمية ويسبّب أذاها، وذلك بمنع كلّ عذر ومبرّر قد تتخّذه السلطات لقمع حركة الحوزة العلمية والتنكيل بأفرادها، طلبة وأساتذة. ولهذا يجب أن تبدأ العطلة الصيفية قبل هذا التاريخ ولو بيوم واحد، منعاً لكلّ مايمسّ سلامة وحياة الطـلاّب والحوزة معاً.
ولا أعلم أنّ هذا القول الصادر من هؤلاء هل هو قصور منهم أم تقصير؟ وآمل أن يكون قصوراً منهم إن شاء اللّه.
وأمّا الآن بعد انتصار الثورة المباركة، وانهيار النظام الفاشي تبدّلت الأوضاع، لكن شاء اللّه أن يشهد هذا الشهر حدثاً مؤلماً آخر على هذا الشعب المؤمن، حيث شهد رحيل الإمام (سلام اللّه عليه) وفراقه عنا في الرابع عشر منه، حيث استقبلته ملائكة السماء، واستقرّ بجوار ربّه الكريم. فصار هذا الشهر من الشهور المهمة عند شعبنا، فكما أنّ الرابع عشر منه يوم الرحلة الملكوتية للإمام القائد، كذلك اليوم الخامس عشر منه قد اتّخذ يوماً وطنياً وثورياً بارزاً، لكونه يمثّل معلماً مميزاً في حياة الثورة والشعب الإيراني، فاتّخذ هذا اليوم عطلة وطنية رسمية، تعطّل كلّ البلاد أعمالها .
وتأسيساً على هذين اليومين اللذين اتّخذا كمناسبتين مهمّتين، واحتراماً لروح إمامنا القائد، وأرواح الشهداء الذين سقطوا على مذبح الحرية والتضحية والفداء، وتجليلاً لوجه المرجعية والفقاهة والزهد والعرفان التي مثّلها الإمام الراحل، صار الأمر أن تختم السنة الدراسية قبل الرابع عشر من هذا الشهر، وبداية العطلة الصيفية الطويلة.
وهاهنا ـ يا إخوتي وأبنائي ـ نقطة جديرة بالإشارة إليها، وهي أنّ مانفعله ليست هي دعوى احترام للإمام (سلام اللّه عليه)، أو احترام لشهداء الخامس عشر من خرداد في قم وطهران وورامين وجمكران وشيراز وسائر أنحاء البلاد، فهم أسمى من ذلك، وإنّما هي دعوى لاحترام الزمان الذي اكتسب شرفاً وقيمةً بهم، ولولاهم لماكان له شرف ولا حظّ من الاحترام. نحن بحاجة إلى معرفة الإمام، ليس فقط معرفة اسمه الكامل وتاريخ ولادته، ومعرفة أمه وأبيه ونسبه الشريف وإن كان ذلك حسناً، إذ تعدّ المرحلة الأولى من معرفة الشيء، ولكنّها ليست هي من باب العلّة التامة، يعني المعرفة بأصل الشخص والوقوف على نسبه وحسبه هي جزء من مقتضيات معرفة الشخصية، بل إنّ الأثر الجيني والوراثي في شخصية الإنسان يعدّ عاملاً أساسياً في تكوين الشخصية، من وجهة نظر العلم والدين، بل في منظار القرآن والروايات من الأمور المسلّمة التي لايشك فيها.
فمن الأشياء الحسنة أن نقف على العوامل الوراثية التي أثّرت في شخصية الإمام الراحل (سلام اللّه عليه)، كما هو الحال إذا ما أردنا الوقوف على حياة وسيرة ائمتنا العظام (عليهم السلام)، ألم نقرأ في زيارة وارث: «أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمّات ثيابها...»، لكنّه ليس أساسياً، بل الشيء الأساسي في هذا المضمار هو معرفة علمه وعمله، وأفكاره ومواقفه، وإذا أحطنا علماً بهذه الجوانب، نكون قد وقفنا على شخصيته بكلّ أبعادها المختلفة، وصار موضع ثقة واطمئنان عندنا، وعندئذ فلا مانع من اتّخاذه أسوة وقدوة في حياتنا وأعمالنا .

الإمام... القدوة الحسنة
والشهادة على كون الإمام الراحل (سلام اللّه عليه) قدوةً حسنةً لاتحتاج إلى مجهود لإثباتها، ولاتتطلّب بحثاً طويلاً، فإنّ كلّ قطرة من دماء شهدائنا تشهد بأنّه إمام وقدوة حسنة، وأنّه إنسان سام ورفيع، كما وأنّ ملايين الساعات التي قضاها شعبنا في سجون النظام البائد الرهيبة بكلّ صبر وسلوان رغم أساليب التعذيب النفسية والجسدية التي كان تمارس ضدّه، وكلّ أنّة أطلقها السجناء وهم يلتوون ويكتوون تحت سياط جلاوزة الحقد والبغض... تشهد على أنّ الإمام يستحقّ أن يكون أسوةً حسنةً ومباركة بكلّ جدارة واقتدار.
وليس هذا فحسب، بل إنّ كلّ إنسان نبض قلبه بحبّ الإمام والثورة، ورفض الركوع للطاغوت، وأبى التأييد للنظام البائد ولرموزه الظالمة، ومال إلى طاعة الإمام من دون قيد أو شرط، أقفل دكانه إذا أمره الإمام، وفتحه إذا دعاه الإمام إلى ذلك، وواجه الاستكبار لمّا أمره الإمام، وجلس لمّا طلب منه الإمام ذلك.... كلّ هؤلاء يشهدون بعظمة وقداسة وسموّ الإمام ورفعته (سلام اللّه عليه).
وأمّا على صعيد أفكاره فيمكنكم قراءة كتبه ومؤلّفاته الفقهية والأصولية والعرفانية وغيرها... فإنّ كلّها تشهد بجلالة مواقفه، وسلامة أفكاره، وحصافة آرائه. إقرأوا إن شئتم كتاب «الأربعين حديثاً» فهو ليس كتاباً يعنى بالحديث فحسب، بل هو كتاب عرفاني كسائر مؤلّفاته، إذ كانت له علاقة صميمية مع العرفان، لكنّه ليس العرفان الكسول الذي يدعو الناس إلى الجلوس والانعزال والتوحّش بكلمات خالية ومتكلّفة، بل العرفان الذي يعني النهضة والانطلاق مع الناس المؤمنة نحو الأمام حيث السمو والارتقاء، وتهذيب النفس من كلّ الأدران .
إنّ من يطالع كتابه هذا يجد فيه بعض الإشارات التي تدلّ على نظرته إلى الحياة والآخرين، فقد يجده يصف شخصاً من أساتذته وهو المرحوم شاه آبادي ويقول بعد ذكر اسمه: «روحي فداه»! ترى لماذا يقول ذلك؟ إنّه يقول ذلك لأنّه يصفه بأنّه «رجل مجاهد» إنمّا العلم والجهاد اللذان كان يتحلّى بهما هما اللذان جعلا منه موضع تجليل واحترام الإمام. إنّ معرفته بهذا الرجل كانت عميقة، فهو أستاذه في العرفان، كان يحضر حلقة درسه التي كان يعقدها في إحدى المساجد لمدة سبع سنوات، وليس هذا بقليل، إذا علمنا أنّ درسه كان يتّصف بالعمق والتأمل لدرجة أنّه لم يكن يستوعب كلامه إلاّ القليل المواظب، ولذا كان طـلاّبه قليلين جداً .
فالإمام مشرق كالشمس، كلّ شيء في بلادنا يشير إلى حسنه وشرفه وجلاله، أحبّه الناس حتّى أعداؤه، وسعوا إلى احترامه وتجليله كرجل دين وإنسان مثقف ومتكلّم مفوّه بارز، اتسّم بالاتزان والاعتدال وحبّ الآخرين، أحبّوه كمفكر إسلامي حصيف، وثائر على قوى الاستعمار والاستكبار العالمي و... إنّنا لانريد أن نروّج له هنا أو أن نعرّفه للناس، فالناس جميعاً تعرفه جيداً، سواء بداخل بلادنا أو بخارجها، وصار كلّ فرد من أفراد شعبنا، من علماء وفقهاء، وعمّال وتجار وأطباء، ومهندسين وجامعيين ورؤساء، و... كلّ قطاعات وشرائح شعبنا أضحت أجهزة تبليغ وترويج لشخصية الإمام بصورة أو بأخرى. بل بلغ الأمر بالبعض أن اعتقد بأن ليس ثمة أفضل منه وأسمى من وطأ الأرض.
وكلّ ماذكرنا هنا يبقى قليلاً ـ أيها الأخوة ـ بالنسبة إلى شخصية الإمام وتطلّعاته وسيرته الحسنة، ولا تفي بالأمر حقّه الأوفى. على أنّنا نريد هنا التأكيد على شيئين :
1. إنّ البحث عن كونه أسوة وقدوة ممّا لانقاش فيه ولا كلفة. فالناس جميعاً تعرفونه، ولا حاجة إلى البحث عمن يروّج له .
2. إنّ الإمام كان يمتلك شخصية مرموقة فذّة، لذا يجب أنّ نتّخذه أسوةً وأنموذجاً في حياتنا العملية .

الإمام... والجيل الجديد
وأمّا الجيل الجديد فأقول له: إقرأوا كتب الإمام وطالعوها بإمعان لتقفوا على أفكاره، وما كان يريده أن يقوله لكم وللأجيال التي ستأتي بعدكم، طالعوا كتابه (الأربعين) ودقّقوا بكلامه وتعليقاته، والتقطوا معانيه، واستوعبوا أفكاره وبلّغوها أصدقاءكم وأترابكم. إننّا لاندّعي أن ذلك سهلاً يسيراً، إذ إنّ فيه مطالب عسيرة الفهم، إنّما نؤكّد على المطالب التي تقفون عليها وتحيطون بها علماً .
دعوني أروي لكم بعضاً منها هنا كمثال على مانقوله، وهو الحديث (29) من الأربعين حديثاً مختاراً، وهو وصية رسول اللّه ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ لأمير المؤمنين (عليه السلام)، يذكر فيه أنّ لهذا الحديث الوارد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أهمية كبيرة، وذلك لأنّه (صلى الله عليه وآله) اختار علياً دون غيره ليفيض عليه بهذه الوصية، وهي دلالة جليّة على عظمة ومكانة أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وإلاّ لما اختاره لموضع اهتمامه ووصيّته، ولاختار غيره. هذا أولاً.
وثانياً: أنّ علياً كان يحمل من الصفات التي يشهد لها القريب والبعيد، العدوّ والصديق، بأنّه ولم يكن بالشخص الذي يتوانى عن أداء عباداته أو يضعف دونها، فكيف أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) يختاره هو دون غيره ليوصيه بوصيّة هي على درجة كبيرة من الأهمية؟ إنّها نقطة جديرة بالاهتمام!
بعد ذلك يسعى الإمام (قدس سره) إلى الإجابة عن هذا السؤال فيقول: إنمّا خاطبه النبي (صلى الله عليه وآله) دون غيره من باب (إيّاك أعني واسمعي ياجارة) وهو أسلوب دارج في لغة العرب في مواضع العتاب والوصية والنصيحة و... وجملة (في نفسك) في قوله (صلى الله عليه وآله): (ياعلي! أوصيك في نفسك بخصال...) قرينة على ذلك. أي يريد أن يقول له: ليس إياك أعني، بل الذي في نفسك. وهذا الأسلوب جار في الوصية بين الناس أيضاً تحاشياً عن أسلوب المواجهة الذي لايثمر شيئاً. فالفقيه إذا أراد طرح بحث فقهي تتخلّله موعظة ونصيحة لطـلاّبه، فيقول لهم: تعلّموا كيف تتعاملوا مع الناس ولايصيبكم الخجل إذا ماسئلتم ولم تعرفوا الجواب، ولا تكونوا كالببغاوات تنطق مايملى عليها... ولا تفعلوا كذا... إلى آخر هذا الكلام المباشر الذي يثير في النفس النفرة والتحفّظ ; لأنّه بذلك سوف يشعرهم بضعفهم وقلّة إمكاناتهم، بل هو اتهام لهم بالنقص والتخلّف... والمستمعون سيقابلون قوله هذا إمّا بالفرار من كلامه أو الضحك والاستهزاء منه !
أمّا لو استعمل أسلوب (إيّاك أعني واسمعي ياجارة) كأن ينقل له حكاية وصيّته لابنه أو أخيه، أو يروي روايةً عن إمام يوصي ابنه، كهذه الرواية التي نتحدّث عنها، أو رواية وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام) لولديه وهما سيدا شباب أهل الجنّة التي مطلعها: «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي...» ففي هذا المقام ليس المراد من وصيّته ولديه المعصومين، إذ هما بنصّ جدّهما النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إمامان إن قاما أو قعدا، وإنّهما سيدا شباب أهل الجنّة، فلا شكّ أنّ الوصية تعني غيرهما ولا تخصّهما، فالأمر مختلف تماماً.
إذن فالوصية إلى علي (عليه السلام) إنمّا تعني غيره، ولا تخصّه، واختيار النبي (صلى الله عليه وآله) له يدلّ على كماله وجلالته وعظمته، وأنّه استخدم أسلوب (إياك أعني واسمعي ياجارة) لحاجة الأمة إلى مثل هذه النصيحة، وعلى الكلّ تطبيقها، إذ إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس بحاجة إلى أنّ يقول النبي (صلى الله عليه وآله) وهو الذي ربّاه، وسقاه العلم سقاً: احذر.. راقب نفسك... إفعل كذا.
ونقطة أخرى تتعلّق بوصية النبيّ (صلى الله عليه وآله) تجدر الإشارة إليها، وهي أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد استعمل في كلامه الشريف (وصيّته) نون التأكيد الثقيلة، يقول (صلى الله عليه وآله): «... أمّا الأولى فالصدق، ولايخرجنَّ من فيك كذبة أبداً...» لم يقل: (لا تكذب أبداً) مثلاً ، أو: (دع الكذب) فهي أساليب مباشرة في الحديث، لاتفي بالغرض، ولا تأتي بالأثر المطلوب للمستمع، لكن لمّا استخدم الأسلوب غير المباشر ـ كما هنا ـ فقد أثار في النفس شيئاً عميقاً، وهو تحفيزها على استيعاب الأمر وأهميّته، لكن من دون توجيه الإهانة لها، فتعزف عن الأمر .
هذا الحديث قد قرأته شخصياً مراراً، لكنّني لم التفت إلى ماالتفت إليه الإمام من نقاط خفية ولطيفة، ولا تظنّوا أنّه (قدس سره) كتب هذه النقاط وهو في عمر الستين أو السبعين سنة، كلا بل ألّف هذا الكتاب القيّم وكان سنّه تقريباً 38 سنة. وفي هذا دلالة كبيرة على عمق تفكيره، وسعة تأمّله .

الإمام.. وتدوين الملاحظات اعتاد الإمام (سلام اللّه عليه) أن يدوّن كل ملاحظاته ـ أثناء مطالعاته المتعدّدة ـ في كتيب صغير، ولم يكتف بهذا، بل يحاول أن يضع عليها تأريخ ذلك. وهي مسألة مفيدة جداً لشبابنا، إذ إنّ في ذلك إفادة كبيرة لهم ولمن يأتي بعدهم من الأجيال اللاحقة، فإنّ الإنسان إذا دوّن ملاحظته عن مسألة معيّنة، ووضع عليها التأريخ، فإنّما يسجّل بذلك مستوى تفكيره، وعمق تأمّله في تلك المرحلة من مراحل عمره، فلو تسنّى له مطالعتها بعد سنين عديدة، فسوف تظهر له ملاحظات جديدة طبق إدراكه ونظرته الجديدة، وعندما يقارنها بالنظرة القديمة له سيقف على الفارق بينهما، وسيدرك أيضاً كيف كان تفكيره، وما هو مستوى تأمّله إذا ماقارنها بنظرته الجديدة .
كما أنّه إذا ما دوّن ملاحظاته وأرّخها، فإنّه بذلك سيدع للجيل الآخر فرصة مطالعتها، وربّما استفاد من تلك الملاحظات في تطوير الأفكار المفيدة .
إنّ هذه السيرة التي كان عليها الإمام الراحل تنبو عن فكر وقّاد وثاقب، وتحفّز فينا العمل على الاقتداء بها :
أولاً: ضرورة مطالعة كتب ومؤلّفات الإمام الراحل، لاسيمّا كتابه «الأربعين»، بدقّة وإمعان، والوقوف على أفكاره من خلال قراءة النصوص والمتون والحواشي المدوّنة لما فيها من فوائد جمّة. لكن النقطة الأكثر أهمية هو تطبيق كلامه، وإطاعته، والعمل على الاقتداء به، وخاصة شجاعته التي تنطق عنها كتاباته، حيث كان (قدس سره) يواجه بقلمه كلّ ذلك الموج الهائل من الطغيان والجبروت الحكومي بكلّ إمكانياته وآلاته، وهذا مايؤكّده تاريخ تدوينه لكتابه (الأربعين) الذي يعود إلى الرابع من محرم الحرام من عام 1358ش (1979م) عام الانتصار والنشوة، لكنّه لم تأخذه النشوة عن الكتابة والتأليف، ترك الاحتفال بالنصر كعادة القوّاد والزعماء في العالم، ترك كلّ ذلك وعكف على الكتابة والدرس والتدوين. إنّها دعوة لكلّ الروحانيين والطلبة والأساتذة والمثقفين أن لايدعو القلم والكراس يوماً ولو ساعات النشوة والفرح .
إنّها الشجاعة ياأبنائي وأعزائي، في مقاومة النفس ورغباتها التي هي أعظم عدوّ للإنسان. فحاولوا ترويضها وتهذيبها إلى أبعد الحدود .
إقرأوا هذا الكتاب بإمعان، وقفوا على مافيه من معان وإشارات تنفعكم في دنياكم وآخرتكم، ولا ضير أن تخصّصوا وقتاً له فتجدون فيه مايزيد من معارفكم، ويكفي الاطمئنان إليه إذا طالعتم سلسلة سنده في أول الكتاب، حيث يأتي بأسماء مشايخه فرداً بعد آخر حتّى يصل بهم إلى الشيخ الكليني صاحب كتاب الكافي، ولا شكّ عند أهل العلم والاختصاص أنّ الوقوف على هذه السلسلة يورث الطمأنينة في العمل بمافيه، إذ أتى بأسماء مشايخ عرفوا بالزهد والورع والثقة والصدق. هذا من جهة، ومن جهة فإنّ الإمام حينما أتى بسلسلة مشايخه في روايته الأخبار أراد أنّه لم يخالف السنّة الجارية في نقل ا لحديث، وأنّ اهتمامه بها لم يكن بأقلّ من اهتمام علمائنا وفقهائنا المتقدّمين بها.
إنّنا حينما ندعوكم إلى مطالعة هذا الكتاب; إنمّا هو لما فيه من مطالب مفيدة لكم، تزيد من معارفكم، وتضيف إليها أشياء جديدة لم تكونوا من قبل ملتفتين إليها. فمن الأمور المفيدة ـ على سبيل المثال ـ أنّه يذكر مسألة كثيراً مانسمعها ونردّدها على ألسنتنا، وهي مسألة أنّ العبادات توقيفية، يعني أنّ صلاة الصبح ـ مثلاً ـ ركعتان، ولايمكن أن تكون أربع ركعات، وكذلك سورة الحمد تقرأ مرتين في الركعتين الأوليتين، في كلٍّ منهما مرة واحدة فقط، ولا يمكن أن تقرأ في كلّ ركعة مرّتين، فإذا سئلنا: لماذا؟ نجيب: هي عبادة توقيفية، لكن لم نسأل أنفسنا يوماً: لماذا توقيفية؟ ولو سئلنا يوماً لانستطيع الإجابة أكثر من أن نقول: لأنّ اللّه سبحانه عالم بالمصالح والمفاسد، فقد صارت صلاة الصبح ركعتين وليس أربع ركعات، وكذلك (الحمد) مرة في كلّ ركعة وليس مرّتين .
غير أنّ الإمام (قدس سره) يجيب عن ذلك بعبارات جميلة، يذكر علّة ذلك فيقول: إنّ العبادة تعني المدح والثناء للّه سبحانه، ولاشكّ هو أعرف للسبيل الذي به يبلغ ثناءه ومدحه، فلو أردت مدح شخص نظرت إلى مايحبّه هو من الصفات فتأتي بها إليه في مدحك، وإلاّ لم تعدّ مادحاً له بالنسبة إليه. فلو حصل أن أردت مدح شخص أميٍّ، فلو وصفته بالعلم والمعرفة، فسوف يعلم كذبك وتزلّفك، وكذلك الشخص الضعيف تصفه بالشجاع القوي القاهر! إنّ من يسعى ا لى مدح شخص يجب عليه أن يدرك مايصبوا إليه هذا الشخص من شعور، وعندئذ يمكنه أن ينال رضاه بهذا الطريق، والأمر نفسه لو أردت الثناء والمديح لربّ العزّة والجلالة، فإنّك لاتنال ذلك إلاّ إذا أدركت مايريده هو سبحانه من ثناء، لأنّه عزوجل أعرف بصفات نفسه، وطريقة مدحه.
على أنّ ربّ العزّة لايعامل كما يعامل بعضنا البعض ونحن مخلوقاته، فإنّنا إذا أردنا إبداء الاحترام للغير وضعنا أيدينا على صدورنا، وأتينا بانحناءة خفيفة بالرأس إشارة منّا ـ نحن المسلمين ـ إلى عرض الاحترام والأدب لذلك الشخص، وهو أيضاً ماجرت عليه بعض الشعوب الشرقية غير المسلمة أيضاً، لكنّنا في تعاملنا مع ربّ العزّة والجلالة لايكون كذلك; لأنّه هو نفسه لايريد ذلك. فقد جاءت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) عن جدّهم الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنّ التكتّف في الصلاة غير صحيحة، ولا يجب أن يكون فيها، إذ لاتعني بالضرورة أنّها إبداء الاحترام له عزّ وجلّ كما عليه بين البشر .
ثانياً: أنّ نتعلّم من سيرة الإمام (قدس سره) أن ندع اليأس جانباً، والإيمان بقضيتنا وبصحّتها، وبأنّها قضية إلهية، ولذلك فعاقبتنا على خير، وذات أجر وثواب في الآخرة. فقد آمن الإمام بصحة قضيته وسلامة مسيرته، وداوم عليها حتّى آخر لحظات عمره الشريف، وعلى حدّ قول الشهيد المطهري: «آمن بهدفه». فهو لم يصبه اليأس قطّ رغم كلّ المعاناة التي واجهها، وكلّ مامارسته الحكومة البائدة من إجرام ووحشية وضغوطات ضدّه وضدّ أتباعه ومحبيّه، ولعلّ أبرزها حادثة مذبحة الفيضية عام 1342 ش (1963 م) التي قام بها أزلام الشاه المدجّجون بالسلاح والعتاد، وهاجموا المدرسة الآمنة والقابعة بجانب حرم السيدة فاطمة بنت موسى بن جعفرالكاظم (عليه السلام)، وراحوا يقتلون كلّ من وقع تحت أيديهم، ومن كان في الطابق العلوي كانوا يمسكونه بعنف ويرمونه إلى الأرض بوحشية مطلقة، كانوا لايطيقون رؤية العمامة، فكانوا يمزّقون كلّ عمامة وعباءة، ويدوسونها، بأرجلهم، إشارة منهم إلى حقدهم على كلّ ماله صلة بالدين وعلماء الدين ورموزه الشريفة .
إنّا لم نحظ بذلك الشرف العظيم من الشهادة، إذ كنّا حينذاك ممّن كانوا في بيت الإمام (قدس سره) لحمايته، وفجأة سمعنا ضجةً وضوضاء، وإذا بطلبة بثياب رثّة ممزّقة وملطّخة بالدماء قد دخلوا بيت الإمام للنجاة من وحشية قبضة أولئك الظلمة والقَتَلة، وحينما دخلوا على غرفة الإمام لم يبد فزعاً ولا توتراً، بل قام يهدّئ من روعهم وهو مستبشر، وقال لهم كلمات كأنّ الطمأنينه حلّت بقلوبنا وفاضت علينا، قال: «هنيئاً لكم بالأجر، ومرحباً بكم! أبشروا إنّ هذه الحكومة قد بدأت تعدّ أنفاسها الأخيرة».
والحكومة المتغطرسة لم تكتف آنذاك بارتكابها هذه الجريمة البشعة، بل استمرت على التجاوزات وإراقة الدماء، من اعتقالات بالجملة، وتهديدات بالجملة، وتفزيع بالجملة، وحتّى عام 1357 ش (1978م) كانت قد قتلت وزهقت أرواح الألوف من الأبرياء، غير الذين زجّتهم في السجون الرهيبة. ورغم كلّ ذلك كان يجيبنا ويكرّر قوله لنا: «إنّها تعدّ أنفاسها الأخيرة».
لقد استخدمت الحكومة الجائرة آنذاك كلّ وسائلها لمحاربة الإمام وكلّ روحاني يلبس العمامة ويضع عليه العباءة، فقد كانت تجنّد العديد من المرتزقة التعساء الذين كانوا يجولون الشوارع بسياراتهم، وإذا ماعثروا أمامهم على روحاني شاب أو شيخ كبير، فإنّهم كانوا يبصقون عليه، ويهزأون به، ويسمعونه كلاماً نابياً، أو يوعدونه بالقتل أو الذبح أو هتك عرضه...!! رغم كلّ هذا لم يتزحزج الإمام عن موقفه قيد أنملة، أو يتملّكه الضعف لحظة، وكان يوصي أتباعه وأنصاره بالتزام الحقّ، وعدم خشية الباطل ولو كان يمتلك الوسائل المرعبة، والناس اصطفّوا وراءه، ولم يغلبهم اليأس أو الخوف ممّا يفعل الظالمون.
وهذا مايؤكّده موقف أهل مدينة قم عندما زارها الشاه، وأراد أن يستمدّ عواطفهم ويستميلهم إلى جانبه، لكنّه تعجّب أنّه لم يستقبله أحد سوى جلاوزته وأفراد أمنه، فخطب بعصبية، موعداً لأهلها، وراح يطلق التعابير النابية بحقّ الروحانيين وطـلاّب العلوم الدينية، واصفاً إياهم بذوي اللحى الطويلة!
لم يتذمّر الناس ممّا وصفهم الشاه في خطابه، لكنّهم تذمّروا وتأذّوا ممّا وصف به الروحانيين، ومنهم من ذريّة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، من صفات ونعوت بذيئة! هؤلاء الناس لم ييأسوا، بل صمّموا عل حماية الإمام من كلّ ضرر قد يتعرّض له من قبل الحكومة وجلاوزتها، واستمروا بحمايته والدفاع عن الثورة المباركة بكلّ غال ونفيس، ولم يتوانوا لحظة في حماية نهضة الإمام حتّى بعد انتصار الثورة وسنوات الدفاع المقدس .
ثالثاً: أن نتعلّم من سيرته (قدس سره) العزم والتصميم على المواجهة، والوقوف بصلابة أمام كلّ المؤامرات التي كانت ـ ومازالت ـ تحيكها قوى الاستكبار العالمي .
كان الإمام يشير في كلّ خطاباته إلى مسألة دقيقة وخطيرة، وهي أنّ الروحانية تعني الشهادة، تعني التضحية والإيثار، تعني تحمّل المشاقّ والصعاب، إنّها تعني الثورة على الباطل، والمقاومة حتّى آخر النفس. وبذلك كان يعطي لرجال الدين دروساً شديدة وعظيمة، خلق منهم قوةً لايستهان بها بعد أن كانوا في ضعف ومحرومية، أوجد بهم واقعاً أرعب به الطغاة والمتسلّطين، وكان يسعى دائماً إلى أن يحوّلهم إلى دعاة نشطاء واعين مدركين بكلّ ماتحدث من أمور من حولهم، وجعلهم يصطفّون بصلابة بوجه كلّ تيار باطل وموج غير مستقيم، بل خلق منهم حراباً بوجه أعداء الدين والانسانية، لقد جعل منهم عقولاً مفكّرة ومدركة، وأذهان وقّادة، تعي الحياة وتنطق بالحقّ .
لقد زرع الإمام (سلام اللّه عليه) فينا الإيمان بالقضية، وضرورة التضحية من أجلها; لأنّ الإسلام بحاجة إلى التضحية، فإذا اقتضت الحاجة بالتضحية بالمال فبه، أو بالنفس فبها، وإلاّ فبالاثنين معاً. وهكذا إذا اقتضت الحاجة بدخول السجن أو التضحية بالولد وجب ذلك، ووجب عليه الصمود والوقوف طالما استطاع بذلك. وهذا ماصنعه تلميذه العالم الرباني آية اللّه الرباني الشيرازي الذي تعرّض لأشدّ أنواع التعذيب على يد جلاوزة الشاه، فشوّهوا وجهه، ونتفوا شعر وجهه شعرة شعرة! لكنّه ظلّ صامداً كالجبل، إيماناً منه بقضيته ونهضة إمامه وأستاذه، وضرورة التضحية من أجلها .
وتحضرني حادثة لابأس بالاشارة إليها، وذلك عندما حضرت طهران وارتقاء منبر كما جرت العادة للتبليغ والوعظ ، فما أن هممت لارتقاء المنبر حتّى اعترضني شخص يبدو عليه الغضب وقال: ياشيخ! عندي سؤال، فتريّثت قليلاً وقلت له: تفضّل، فقال لي: إنّكم معاشر الشيوخ في قم وضعتم سمعة الروحانية تحت الأقدام!! فأجبته: وكيف ياأخي؟ قال: تصنعون أشياء يجدها أفراد الأمن مبررّاً لدخول بيوتكم والتجسّس على عوائلكم!! فابتسمت ثم قلت له: ياأخي! إن كان هذا صحيحاً كما تقول، فالإمام الصادق(عليه السلام) قد صنع ذلك، وعرّض عائلته لذلك!! فلم يجبني ولاذ بالصمت، فاستدركت قائلاً وأنا على عجل لأصعد المنبر: لقد قام الإمام (سلام اللّه عليه) بأشياء جعلت سلطان زمانه يضع شخصاً وهو ابن الربيع الحاجب لمراقبته وأفراد عائلته، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، كان يصعد سطح بيته ليلاً لغرض التجسّس عليه. وهكذا ولده الإمام الكاظم (عليه السلام) الذي تطلّبت منه التضحية أن يكون في الحبس والضيق لمدة 14 عاماً! فإذا كان عملنا خاطئاً فعمل ائمتنا من قبلنا كذلك والعياذ باللّه! فلم ينبس ببنت شفة، ورجع إلى مجلسه .
إنّ دعوات الإمام (قدس سره) إلى الاستقامة في العمل، والصدق في النيّة، والإخلاص في القضية... هي في الحقيقة دروس واقعية لأجيالنا الصاعدة، وهي التي ساهمت في صنع النصر لإرادة شعبنا في ايران .
رابعاً: أن نتعلّم من سيرته الفقه والتفقّه في الدين، والدعوة إليه في كلّ مناسبة وفرصة.
كان (قدس سره) يثير فينا الحوافز على طلب العلم والمعرفة الدينية، ويشجعنا على حثّ الناس على سلوك هذا السبيل الشريف.
فقد كانت الحوزة العلمية تعاني الضغوطات من قبل السلطات من جهة ومن الشريحة المتحجّرة من جهة ثانية، وتواجه حملة دعائية هائلة منذ مدة طويلة، تصوّرها وكأنّها مكان خاو، ولا تضمّ إلاّ أشخاصاً معدودين، لايفهمون من السياسة ولا الثقافة شيئاً! نعم هكذا كانت الصورة في العهد البائد، وليس أمام الحوزة من فرصة لطرح نفسها، أو إظهار وجهها الناصع بسبب الضغوطات التي تمارس عليها .
لقد حظي الإمام (قدس سره) بفرص عديدة للسفر والتنقّل في بلدان ومدن إسلامية وغير إسلامية مختلفة، وقد وجد هذه الذهنية والتصوّر قابع في عقول شبابنا المسلم، لذا صار الأمر أقرب إلى الوجوب في أن ينهض لقلع ومحو هذه الصورة الخاطئة عن الحوزة وأفرادها. فواجه الأمر بصلابة ومن موقعه المتقدّم، في خطاباته وتصريحاته، من أجل تصحيح الصورة أمام الرأي العام، وأنّ الحوزة إنّما هي مؤسسة دينية ثقافية حضارية، حالها كحال سائر المؤسسات والمراكز الثقافية في العالم، لكنّها تختصّ بالعلوم الدينية وذات الصلة بالإنسان المسلم وشؤونه الشخصية والإجتماعية، وأنّها لو سنحت الفرصة للمساهمة في صنع الحياة السياسية والثقافية والإجتماعية للمجتمع الإسلامي، لأظهرت قدراتها وإمكاناتها الهائلة على هذا الصعيد .
ولأجل إثبات ذلك قام الإمام (سلام اللّه عليه) بسلسلة مقدّمات أراد من خلالها تهيئة الإجواء لتغيير هذه الصورة الضبابية عن الحوزة ونشاطاتها العلمية، فراح يرغّب الشباب على الانخراط بالحوزة، والدعوة إلى تفعيل البرامج العلمية والثقافية من أجل استيعاب طاقات شابة في هذا المضمار، كما كان يدعو إلى تنشيط الحركة العلمية داخل هذه المؤسسة العريقة، من خلال طبع ونشر وتحقيق كتب ومؤلّفات المتقدمين، ودراسة ماكتبوه ودوّنوه دراسة متمعّنة، وشرحها للاستفادة منها.
بل كان الإمام (سلام اللّه عليه) يثير فينا الحماسة في طرح الإشكالات والتساؤلات حتّى نقف على الحقيقة، وذلك أنّه كان كثيراً مايورد كلاماً منقولاً عن المرحوم النائيني ثم يعقبه بملاحظاته وإشكالاته، كان يقول: أولاً كذا وكذا، وثانياً كذا و كذا... حتّى يأتي في بعض الأحيان على العشرة! ونحن نزداد عجباً من كثرة ما يورده على هذا الرجل، حتّى أن مرّةً قام أحدهم وأشار إلى مقام الرجل الذي لمع اسمه في حركة المشروطة، ودوره في تدوين ا لقانون الإساسي للبلاد الذي أراده البعض تحريفه وجعله مايقابل ماأمر اللّه به ورسوله، وتصدّيه لأكثر من محاولة تفسير خاطئة لمفاهيم ; كالحرية والديمقراطية وغيرها، مؤكّداً على أنّ الحرية لاتعني الفوضى وخلع الحجاب، ولا تعني بيع المشروبات الكحولية في الطرقات... فكان الإمام يجيبنا قائلاً: إنّنا ننقل ونناقش آراءه لأنّه رجل عظيم، ولو لم يكن كذلك لما أبدينا اهتماماً إليه قطّ.
ومن هذا المنظار حاولوا ـ أيّها الإخوة الأعزاء ـ أن تنشطوا في تهذيب وتربية تلاميذكم وأبناءكم وإخوانكم وأصحابكم وأهليكم على هذا المنوال. أنا لاأستطيع أن أحدّد لكم تكليفكم بالنسبة إلى الآخرين، وإنّما أستطيع أن اقترح عليكم مايوافق هذا المنظار. إقرأوا ماكتبه الإمام الراحل وماطرحه من أفكار وأطروحات على صعيد تهذيب النفس وتربية الأجيال، واهتمّوا بها أيّما اهتمام، فإنّ الاهتمام بآثار العظام يعني الاهتمام بهم. ولا أظنّ أنّ الناس الآن قد ملّوا كلامه (سلام اللّه عليه) ووصاياه رغم مرور كلّ هذه السنوات على رحيله، وهذا ماتؤكده الإحصاءات لمبيعات كتبه ومؤلّفاته، بل قيل لي: إنّ نسبة مبيعات رسالته العملية (الاجتهادية) في الأحكام أكثر من سائر الرسائل المتعلّقة بالمراجع العظام، وهو مؤشّر حسن على شدة إقبال الناس على قراءة ماكتبته يراعته الشريفة.
خامساً: إنّ سيرة الإمام كان مفعمة بالحيوية والنشاط السياسي القائم على أساس الصدق والإخلاص والوفاء للشعب الذي كان أداته في النصر. لذا بعد انتصار الثورة المباركة راح يمدح ويفخر بهذا الشعب المجاهد ويثني على ماقدّمه من تضحيات كبيرة، وصار يدعو كلّ أفراد الدولة بضرورة رعاية متطلّبات هذا الشعب، إذ إنّ من مبادئه أنّ كلّ مافي هذه الدولة من أشياء وأعمال ومتعلّقات فإنّما هي مرتبطة بالشعب، لأنّه هو المالك الحقيقي لا الأشخاص ولا العوائل.
كان الإمام يبدي اهتماماً بالغاً بقيمة ودور الشعب في المسائل الحكومية والمؤسساتية، وكان (سلام اللّه عليه) يسعى إلى منحه الدور الذي يليق به، كما كان يفعل جده أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان همّه الأوّل والآخر الناس وحاجاتهم، حتّى وهو طريح الفراش والدم ينزف من رأسه! إثر ضربة المجرم ابن ملجم، لقد اهتم الإمام (سلام اللّه عليه) بحاجات الناس جلّ اهتمامه، ومن يقرأ رسائله وخطاباته وتوصياته يدرك ذلك بوضوح، فما أن يطرق سمعه أنّ ثمة مظالم وقعت في إحدى قطاعات الدولة حتّى يبادر إلى تشكيل لجنة بحث واستقصاء في الموضوع! ولا اعتقد أنّ أحداً لم يسمع بقضية البيان ذي النقاط الثمانية الذي أعلنه الإمام في صدر الثورة، والمتعلّق بمحاكم الثورة، فرغم خدمات هذا القطاع الحقوقية والقضائية، ومساعي أفراده وتضحياتهم من أجل إرساء دعائم العدل، وإعادة الحقوق إلى أهلها، فثمة أخبار بلغت الإمام بأنّه هناك مظالم تحصل في هذا القطاع، فلم يصبر حتّى يقال: إنّ الإمام قد رضي بهذه المظالم، أو ينتظر حتّى يسمع من يحلو له الكلام فيه، حتّى بادر بتشكيل لجنة تقصّي الحقائق، فآل الأمر بإعلان البيان ذي الثمانية نقاط، والذي تمّ فيه تخيير منتسبي هذا القطاع بين البقاء والعمل وفق الشروط الجديدة أو الرحيل .

الإمام... والحكومة الإسلامية
كان الإمام (سلام اللّه عليه) يولي اهتماماً كبيراً بمسألة الحكومة الإسلامية في بحوثه ودرسه، وكان يلقي على طلابه المباني العامة للحكومة، وصيغها، واتجاهاتها في درسه الفقهي، سواء في ايران أو في النجف، عدا خطاباته وتصريحاته على هذا الصعيد إبّان هجرته .
ومسألة الحكومة الإسلامية قد حظيت باهتمام فقهاء أصحابنا أيضاً، فقد ذكرت لكم الشيخ الأنصاري وبحثه عن الولاية في كتابه (المكاسب)، كما ويطرح المحقّق الميرزا النائيني في كتابه (تنبيه الأمة) هذه المسألة، ويؤكّد أنّ الحكومة الإسلامية هي التي تلتزم الشريعة منهجاً، وتقوم على أساس آراء الناس ورضاهم واستشارتهم في اتخاذ الأمور، والتصويت على القرارات، اقرأوا الكتاب وستقفون على أبرز آراء هذا الرجل في هذه المسألة، حيث يقرّر أن بلوغ هذا الأمر لايمكن من دون تضحيات .
لكن الفكر الأنضج الذي تناول هذه المسألة هو ماطرحه الإمام(سلام اللّه عليه)، سواء في مؤلّفه (الحكومة الإسلامية)، أو في حلقات درسه الشريف، أو في تصريحاته وخطاباته، وكان رأيه مشابه لما عليه المحقّق النائيني وبزيادة في التفصيلات، كان يخاطب الناس جميعاً، بكلّ طبقاتهم، وانتماءاتهم الحزبية والمذهبية والسياسية، بضرورة الوحدة والتكاتف، والعمل جاهداً في سبيل قيام الحكومة القائمة على العدل والديمقراطية والحريّة، قد يرمون بنا السجن، قد يقتلوننا، لكنّنا سنقاوم وكل الأجيال حتّى قيام الحكومة الإسلامية المطلوبة .
والذي اؤكّد عليه أنّ هذه المسألة ليست جديدة في ذهنه، بل كان لها حظّ من الاهتمام عنده منذ وقت طويل، وإن كان في حوزة قم يتحفّظ في الحديث عنها بصورة موسّعة بسبب الضغوطات الهائلة التي كان يتعرّض لها وأنصاره وتلاميذه، إلاّ أنّه كان يتنفس الصعداء في النجف الأشرف، حيث وجد فرصةً كبيرة لطرح مبانيه ونظراته تجاه هذه المسألة وتفصيلاتها، وفي وسط علمي وحوزوي جديد، فكان يطرحها حينما كان يشرح كتاب (المكاسب) للشيخ الأنصاري، وعندها دعا إلى «ولاية الفقيه».
ومسألة «الحكومة الإسلامية» لم يكن يبحثها الشيخ الأنصاري بالصورة المفصّلة، إنّما ذكر إجمالاً في مبحث «الولاية» والإشارة إلى بعض أصولها، لكنّه أعقب ذلك بقوله: «دون إثبات ذلك خرط القتاد» وهذا ماتجدونه في المكاسب، كتاب البيع، بحث الولاية. بينما الإمام (سلام اللّه عليه) راح يشرح لطلبته شرحاً وافياً، ويطرح المسألة بصورة متكاملة الأبعاد، وهو بذلك كان يبني تصوّراته للحكومة الإسلامية على أساس الشرع الحنيف، وبتأسيس فكره الوقاد ونظرته الثاقبة للأمور .
فأصل «الولاية» كان مسلّماً عند فقهاء أصحابنا، ولهم تصوّر تجاهه، لكنّه لم يكن بهذا المستوى من النضج الذي عليه المتأخّرون، وكذلك افتقدته الحوزات العلمية في العالم الإسلامي، إلاّ في حوزة قم المباركة، حيث كان الإمام يشير إلى هذا الأصل، ويحاول تأسيس مبنىً عليه، وبعد هجرة الإمام إلى النجف، وانتهازه الفرصة لطرح أفكاره في هذا المضمار، صار الاهتمام واسعاً في هذا الاتجاه، وخاصةً بين فقهاء وأعلام حوزة النجف، لكن عموماً لم يكن بالمستوى المطلوب عند بعض النجفيين، لسببين:
الأول: إنّ الظروف لم تكن مؤاتية لبحث مثل هذه المسألة على نطاق واسع، حيث الظروف السياسية لم تكن موافقة ووجود الشيعة في بلدانهم، وليس ثمة مؤشّرات على حدوث ثورة يقودها الشيعة على المدى القريب، ولذا لم تكن تشغل بال فقهاء وأساتذة الحوزات هذه المسألة كثيراً، وإذا مرّوا بها مرّوا كراماً .
والثاني: وجود التصورات السلبية تجاه حوزة قم، وإنّها ليست بالمستوىَ المطلوب! حيث كانت الدعاية جارية ضد حوزة قم في النجف، لدرجة أنّ أساتذتها كانوا يعتقدون أنّ حوزة قم غير مؤهلّة للتصدّي، وليس فيها شيء سوى مجموعة من العرفانيين وأصحاب منابر الوعظ والإرشاد! لكن حينما حلّ الإمام (سلام اللّه عليه) وسطهم، وبدأ بطرح أفكاره ومبانيه وتصوّراته في تلك الأوساط، تغيّرت النظرة تجاه حوزة قم، وأثبت لهم أنّ العكس هو الصحيح، وأنّ في قم يقبعون رجال فحول بلغوا الثريا في الدرجات، أمثال: الشيخ عبدالكريم (رحمه الله)، والشيخ محمد رضا الأصفهاني (رحمه الله) وآخرون نشطون مبدعون، يمتلكون من العلم والإحاطة الشيء الكثير، لكنّهم غير قادرين على الحركة بسبب الضغوطات الحكومية، وأنّهم كانوا عرضة للدعاية المغرضة ضدّهم، وماهي النظرة سوى من آثار هذه الدعاية والإعلام المضادّ الذي يمارسه المستكبرون ضد الشيعة وحوزاتهم العلمية .
فقام الإمام بتصحيح الصورة السلبية التي كانت عالقة في أذهان النجفيين تجاه حوزة قم وأساتذتها بصورة أساسية، هذا إلى جانب بحوثه الفقهية والأصولية التي كان يطرحها هناك ممّا أثار اهتمامهم، وكسب ثقتهم من كون مايدرّس في قم هو نفسه مايدرّس في النجف وكربلاء وسامراء... وباقي الحوزات الشيعية وبنفس المستوى العلمي أيضاً .

الإمام... والأكثرية إنّ الحكومة التي يدعو إليها أصحابنا المتقدمون والمتأخّرون، وأسّس الإمام (سلام اللّه عليه) مبانيه عليها هي القائمة على مسألة «الولاية» التي لاتعني الاستبداد والتجنّي، بل تعني التبعية للقانون الإلهي لا لغيره، وهو ماكان الإمام يبحثه في دروسه و كتاباته، ويعالجه بجملة أطروحات جديرة بمطالعته في شرحه للمكاسب (البيع)، حيث تجدونه على مستوىً رائع من العرض والمناقشة.
لكن المسألة المهمة التي أحبّ أن أشير إليها ـ يا أعزائي ـ هي أنّ المسلمين عموماً، والشيعة خصوصاً لايختلفون عن الآخرين في مسألة وجوب طاعة الحاكم من أجل استتاب الأمن والاستقرار والنظام في البلاد من جهة، والتطوير والازدهار للمجتمع من جهة أخرى، لكنّهم يزيدون عليهم بأن ذلك يجب أن يحدث وفق القانون الإلهي، لا القانون الوضعي .
كما أنّ أنصار حقوق الانسان ودعاة الديمقراطية يدّعون أنّ الناس هم مصدر القوة والقانون، فالمسلمون لايختلفون عنهم إلاّ بزيادة، وهي أنّ الناس مصدر القوة، أمّا مصدر القانون الذي يجب أن يطاع هو القانون الإلهي، وهذا ماكان يؤكّده الإمام (سلام اللّه عليه) في أكثر خطاباته ولقاءاته مع صحفيي العالم، والوفود التي كانت تتوافد عليه زرافات زرافات، كان يؤكّد على أنّ كلّ بلد و مكان فيه أكثرية مسلمة، فوفق القاعدة الديمقراطية يجب أن تكون الحكومة بيد المسلمين، وإذا حدث هذا فلابدّ أن يراعى قانون اللّه سبحانه المتمثّل بالشريعة الإسلامية السمحاء.
وهذا الكلام كان يذكره المحقّق النائيني من قبل، ويشير إلى أنّ القانون الإسلامي يجب أن يكون هو الحاكم لاغيره، وأنّ مسألة «الشعب» وحاكميته إنّما تكون في المواضع التي هي (لانصّ فيها)، ففي المواضع (مافيه النصّ) لامجال للبحث فيه، أمثال حدّ الزنا وشرب الخمر، أو موارد الزكاة والخمس، أو أحكام الديات والميراث... فالنصوص واردة فيها وواضحة، ولا مجال للبحث فيها ولا للمناقشة، وإنّما الأمر الذي يمكن للشعب أن يتدّخل فيه هي موارد (مالا نصّ فيها) وعلى حدّ تعبير المرحوم النائيني «المصالح النوعية» وتعبير الإمام «مصالح المجتمع» هي الموارد التي ينبغي للناس التداول والتشاور فيما بينهم، والتصويت عليه فيها، ويأتي دور الاكثرية في تعزيزها أو تهميشها، ولو دبّ الاختلاف بينهم وتفاوت الأصوات عُرض على لجان متخصّصة في حماية الدستور، وتشخيص المصلحة العامة للبتّ في رفع هذا الاختلاف وفق مايتواجد من أصول على هذا الصعيد .
لذا فالمسلمون لايرضون ـ عقلاً ونقلاً ـ الاستبداد مبدأً ولا شعاراً، ولا الديكتاتورية ولو من فقيه، أي أن يتصدّر رأيه الشخصي على آراء الناس وممثّليهم في المجلس، أو أن يقوم بتحقير أو تهميش آراء الناس دون رأيه، فالمسلمون عامةً، والشيعة خاصةً، لايرضون بهذا الاختيار من أحد ولو كان صادراً من الشيخ الأنصاري نفسه. فلو فرض أنّ نوّاب الناس في المجلس (البرلمان) في نقاش وتشاور للميزانية السنوية للدولة، فإنّ مايتوصّلون إليه هو الشرع والقانون لا خلافه، حتّى لو فرض أنّ الشيخ الأنصاري ظهر وقال: ليس هذا بشرع ولا قانون، بل هو حرام، فلا يؤخذ بقوله، وليس له الحقّ أن يتصدّر مارأته الأكثرية، ويفرض رأيه عليهم طالما الأكثرية تخالفه، فإنّ هذا الاستبداد بعينه .
إنّ الدين والشريعة الإسلامية السمحة ـ يا أعزائي ـ قد قامت على دعائم أساسية في تسيير أمور الناس ومعاشهم اليومي، ومن هذه الدعائم مسألة الشورى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (آل عمران / 195) تعني أنّ المشورة أولاً ثم إذا حزمت الأمر بما أرادت به الأكثرية، فعندئذ توكّل على اللّه في ذلك، وبعبارة أخرى: تشاور مع الناس وانظر الأكثرية ماذا تريد، والأقلية ماذا تريد، فاعزم على مارأته الأكثرية، وتوكلّ على اللّه في ذلك وخالف الأقلية.
لكن هذا لايعني عدم استشاره الأقلية أو تهميشها وأهمال قولها، بل إنّ ترك رأيها خلاف العقل والسيرة العقلائية، إنّ الإسلام يدعو إلى المشورة مع كلّ أحد، وتلقيح الآراء بعضها ببعض، حتّى يستقرّ الأمر في الأخذ بالأصلح، والأصلح هو مالم يخالف الشرع المقدس والأكثرية من الناس .
ومن هذا المنظار فالحاكم هو الآمر والناهي، لكن من منطلق الشرع ورضى الأكثرية، وليس له تصدّر الآراء على هواه، أو يأخذ الأمر رجماً بالغيب (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(الكهف / 110)، وقوله (صلى الله عليه وآله): «... إنّما أقضي بينكم بالبيّنات». فالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) رغم أنّه نبي يوحى له، وحوى من الكمال أوفره، لكنّه لم يحكم على أساس الغيب وحده، بل حاول أن يشرك الناس في أمور الدولة والحرب والسلم، وعقد المعاهدات وتحكيم المواثيق، وحشّد للمسلمين قواعد أساسية وأصولاً يمكنهم بواسطتها من التصدّي للمستجدات من الأمور والحوادث، هذا إضافة إلى أنّه خلف ماهو أعظم من كلّ ذلك: أهل بيته الطاهرين الذين هم الحبل المتين والعروة الوثقى، وأحد الثقلين، لذا أراد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن يعمّم للمسلمين أسلوباً ناجحاً من أساليب الإدارة في حالتي السلم والحرب، والإعمار والبناء والتطوير .
لا يشكّ مسلم واحد أنّ الإسلام لو طبقّت تعاليمه بدقّة، وجرت بحذافيرها بين البشر، فسوف تعيش البشرية بسعادة لانظير لها، وستنعم بالرفاه والطمأنينة، لأنّ الإسلام هو دين الرحمة والمحبة والإخوة واحترام الآخرين، فهو يدعو الناس إلى احترام حكّامهم، والحكّام إلى خدمة الناس، لذا لا يحقّ لأحد تجاوز الآخر، وكذلك لايحقّ لأحد أن يصنع الشنائع التي من شأنها تنفير الناس من الدين والقرآن الكريم، إذ من الخطورة أن نفعل شيئاً نجعل الآخرين لاينفرّون منّا فحسب، بل من الدين أيضاً، لذا اقتضت الضرورة تجنّب مايخلّ نظرة الناس إلى الإسلام، ويثير الاستفزاز تجاه المسلمين عموماً.
إنّ مايفعله البعض من حكّام ورؤساء الدول والحكومات في العالم من ممارسات وانفراد في الحكم، وسياسة ترهيب الآخر، لا تعدّ استبداداً فحسب، إنّما هي ديكتاتورية مقيتة لم ينزل اللّه بها من سلطان، لذا فمن الخطأ أن نطلق على أفعالهم اسماً مزخرفاً، فإنّ إطلاق الأسماء لتبرير فعالهم فيه إثم عظيم، والأعظم منه أن لانعينهم على ذلك بأعمالنا وأقوالنا، فإنّ لكلّ ذلك آثاراً سلبية على الدين والإنسان، والأخطر من كلّ ذلك لوكان يحصل باسم الدين .

الأكثرية... وتقرير القوانين
إذن فالأكثرية لها دور فعّال في تقرير القوانين، وتفعليها على نحو تخدم أبناء المجتمع الواحد. ولا يقال: إنّ الأكثرية مذمومة لأنّه (وأَكْثَرَهُمْ لاَيَعْلَمُونَ) و (وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) وما إلى ذلك من شواهد في القرآن تذمّ الأكثرية وتنكرها، وهو ماواجهه المرحوم النائيني من إشكال وسؤال البعض ممّن عاصروه، وكان يقول في معرض ردّه: إنّ تلك الشواهد التي تذمّ الأكثرية في مجال العقيدة، وليس في مجال الأمور الحياتية والإدارية. يعني أن من يريد بناء بيت له ولا يعرف البناء، وليس هو من ذوي الاختصاص، فإنّه لايذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أو إلى الإمام المعصوم (عليه السلام) أو إلى أيّ فقيه ويسأله عن بناء بيته، إنّما يسأل ذوي الاختصاص من الناس في مسألة البناء ولو كان أمّياً، فيشاورهم في ذلك وفي كلفته وكيفيته. هذا هو معنى «أمور المجتمع وبنائه» أي: أمور الدنيا والإدارة حيث (لا نصّ فيه)، فإذا اختلف الناس في إجابته أخذ برأي الأكثرية وترك رأي الأقليّة ولو كان الفقيه من ضمن الأقليّة.
دعوني أقرأ عليكم روايةً واحدةً تتعلّق بهذا الموضوع، وانظروا جيداً كيف كان الائمة (عليهم السلام) يعاملون الناس ويتعاطون مع الجميع بروح سامية لانظير لها، وتأمّلوا الإسلام وتعالميه السامية. والرواية واردة في كتاب (روضة الكافي) المتكوّن من ثمانية مجلّدات: الأول والثاني منه في الأصول، ومن الثالث إلى السابع منه في الفروع، وأمّا الثامن منه فسمّاه «الروضة» نظراً لما حواه من أخبار متفرقات ونوادر منوعة، كالروض يحوي من الأزهار المختلفة والمنوّعة.
وعلى كلّ حال فالرواية مسندة إلى بريد بن معاوية (وسندها معتبر جداً عندنا) يقول: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) في فسطاط له بمنى، فنظر إلى زياد الأسود متقلّع الرجل، فرثا له، فقال له: «مالرجليك هكذا؟» قال: جئت على بكر لي نضو (دابة هزيلة) أمشي عنه عامة الطريق، فرثا له وقال له عند ذلك زياد: إنّي ألم بالذنوب حتّى إذا ظننت أنّي قد هلكت ذكرت حبّكم فرجوت النجاة، وتجلى عني، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «وهل الدين إلاّ الحبّ؟» قال تعالى: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) وقال: ( قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وقال: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)».
يعني أنّ الدين ماهو إلاّ مجموعة من القوانين الإسلامية التي تنبع وتنشأ من عين صافية هو الحبّ، فكلّ شي فيه يقترن بالحبّ والعزّة والكرامة .
فإذا كان حفظ الدين والنظام من أبرز وأهم الواجبات الملقاة على عاتق المسلم، فحفظ النفس عن الوقوع في مظانّ التهمة أيضاً من الواجبات المهمة على المسلم، فلا ينبغي أن يفعل الشيء فيوقعه في مظنّة التهم، ويظنّ غيره أنّه يعمل خلاف الشرع، يجب على المسلم أن يعمل مايقتضيه الدين والعقل والوجدان، من محبة الآخرين، وتقديم المساعدة لهم، وحماية كلّ مايمسّ الدين، حفظاً له، ومنعاً له ممّا يراد منه.
وهذا المعنى تجدونه ـ يا أعزائي ـ بوضوح في كتاب «الأربعين» للإمام الراحل (سلام اللّه عليه) فحينما تطالعه وتصل باب «التكبّر» تجده يقول: من صور التكبّر ومصاديقه أن يشعر الإنسان بشعور فوقاني لدرجة أن يقول: لايحقّ لأحد أن يسألني عن شيء! إنّ هذا التكبّر يختصّ به ربّ العزة والجلالة، ولا يرضى أن يشركه فيه أحد من خلقه، هو الشرك في الربوبية. وهو مايتجلّى في عبارات كثير من زعماء وحكّام العالم، نسمعهم يأمرون شعوبهم بأن لايتجاسروأ أن يسألونهم عن أشياء، ويمنعونهم من المخالفة ولو كانوا على باطل، إذ يقررّون أن خلافهم هو الكفر بعينه، وهذا هو التكبّر والاستبداد.
إقرأوا الرواية بإمعان، وتأملّوا عباراته، يقول الإمام الباقر(عليه السلام): إنّي كلّما غططت بالذنوب، وظننت أنّي هالك، التجأت إلى ذكر حبّكم فأرجو النجاة، وتجلى عنيّ، فيجبيه الإمام بأنّه لاعجب من ذلك، إذ الدين هو الحبّ، وقد قال تعالى: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَانَ) فتأملوا مكانة ومنزلة حبّ أهل هذا البيت وفضله، وما يمكن أن نستشفّ منه على صعيد العلاقة مع اللّه سبحانه من جهة، ومع الناس من جهة اُخرى .
ثم ينقل الإمام الباقر (سلام اللّه عليه) نفسه روايةً عن النبي (صلى الله عليه وآله) ضمن هذا الحديث يقول (عليه السلام): «إنّ رجلاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يارسول اللّه! أحبّ المصلّين ولا أصليّ! وأحبّ الصوّامين ولا أصوم!
والرواية من جهة السند موثّقة توثيقاً عالياً إن لم يكن بدرجة الصحيح، فلو افترضنا أنّ هذا الشخص يقول لنا هذا الكلام، فلا أظنّ أنّأ نجيبه شيئاً سوى بصفعة على خدّه الأيمن واُخرى على الأيسر، أو على أبعد الأحوال نطرده من هنا بعد صفعه على قفاه!! وهل ثمة ذنب أعظم من ترك الصلاة والصوم؟ لكن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) نبي الرحمة بمكارم خلقه أجابه جواباً آخر، فقد قال له على مافي هذه الرواية: «أنت مع ماأحببت، ولكن مااكتسبت».
هكذا هم أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا هو خلقهم الكريم. وكما الإمام الباقر(عليه السلام) وهو يجيب زياد الأسود أن قال له: إنّ الدين ماهو إلاّ الحبّ، ثم قال له: «ماتبغون وماتريدون؟ أما إنّها لوكانت فزعة من السماء فزع كلّ قوم إلى مأمنهم، وفزعنا إلى نبينا، وفزعتم إلينا».
إنّنا لو وقفنا عل حقيقة أهل البيت (عليهم السلام) وخلقهم الكريم لملكنا العجب، ولعلّ هذا يجيب على من يسأل: لماذا لم يغضب النبي (صلى الله عليه وآله) من سؤال ذلك الرجل ; أو لماذا لم يضربه على قفاه لمّا قال له ذلك؟ لقد رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الرجل سلامة الفطرة، وحبّ الخير الذي فيه، وهو ماسيوصله إلى الجنّة، وبما أنّه من أهل الجنّة فلا يستحقّ الإهانة والضرب على القفا أبداً .
لقد أجابه بجواب عميق غوره وأثره، قال له مجيباً: «أنت مع من أحببت» يعني: أنّ عاقبتك مع ماتحبّه، فإن أحببت الخير كانت عاقبتك الخير، وإن أحببت الشرّ كانت عاقبتك الشر. ومحصّل ذلك أنّك ستكون على خير طالما كان حبّك هو هذا الذي ذكرته .
وثمة رواية أخرى وردت بسند لا إشكال فيه أيضاً، عن إسحاق بن عمار الصيرفي، وكان رجلاً ثرياً، ومن المحدّثين الكبار، قال: قال لي أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام): «يا إسحاق! كيف تصنع بزكاة مالك إذا حضرت؟» لاحظوا سؤال الإمام واهتمامه بهذا الجانب، فقد تظنّون أنّه يسأله عمّا يدفعه، أو لمن يدفعه، لأنّ الرواية تورد أجواء حقوقية وزكاتية، وحتماً تمتدّ إلى أبعاد اقتصادية بحتة.
تابعوا يا أعزائي معي سير الرواية، قال إسحاق: فأجبته: يأتوني إلى المنزل ليلاً فأعطيهم، أراد أنّه يعطي حسب الأصول، وأنّه مستمر على هذا المنوال ولم ينقطع عنه أبداً، فإعطاء الزكاة لاإشكال فيه، سواء كان في بيته أو في الشارع أو في المسجد، وأكّد على أنّه يعطيها ليلاً، أي بعيداً عن عيون الدولة! لكن هنالك مسألة خفية في هذا الأمر يعلنها الإمام (عليه السلام) صراحة لإسحاق ولكلّ شيعته، أن قال له: «ما أراك يا أسحاق إلاّ قد أذللت المؤمنين! فإيّاك إيّاك..» يقول له: إنّك لم تفعل شيئاً سوى إنّك أذللت المؤمنين بفعلك هذا!!
أليس هذا عجيباً؟ رجل يعطي زكاته بانتظام للناس، فماذا في ذلك؟ الحقيقة يا إخواني أنّ تصوّر أهل البيت نحو هذه المسألة له أبعاد أوسع وأعمق، فهم (عليهم السلام) لا ينظرون إلى القضية بمنظار عادي، وإنّما يرونها بمنظار أبعد، وإلى مديات مترامية لتشمل أبعاد إنسانية واجتماعية وتربوية وأخلاقية، فضلاً عن مداها الاقتصادي، لذا أراد الإمام الصادق (عليه السلام) أن يعلّم تلاميذه وشيعته نحواً من التعاطي مع أفراد المجتمع، وأسلوباً من التعامل مع إخوانه في الدين والمذهب .
بل ورد في الروايات، في باب (مانع الزكاة) مايشير إلى أنّ من يقول: أنا لا آخذ الزكاة كمثل من يقول: أنا لا أعطي الزكاة! كذلك، لأنّه لايجب على المسلم أن يعدّ الواجب الإلهي عيباً وعاراً، إنّما كلّ ذلك من أجلّ شدّ لُحمة المجتمع وتقويته. وفي الرواية يقول الصادق (عليه السلام) لإسحاق: «إياك إياك» يعني: بعّد نفسك بعّد نفسك عن كلّ مايذلّها أو يذلّ غيرها».
هذه هي تصوّرات وتعاليم ائمتنا ومايدعون إليه، لو أمعنّا النظر فيها لوجدناها عظيمة وسامية، لكن المشكلة تكمن فينا، نحن نفعل الأشياء ماتجعل أنفسنا محلّ التهمة والذلّة، أو نضع غيرنا فيها، يقول (عليه السلام): «فإياك إياك، إنّ اللّه تعالى يقول: من أذلّ لي ولياً فقد أرصد لي بالمحاربة» والمذلّة يجب أن تمحى عن المسلمين، بكل أنواعها وأشكالها، والإمام يشير في هذه الرواية شيعته إلى نوع من أنواعها التي يمكن أن تكون أبسطها .
إنّ دفع الزكاة في البيت، والناس يأتون ليلاً لقبضها، يطرقون الباب ينتظرون دورهم، ربّما تكون حاضرة وربّما لم تكن... ثم تعطى له بهذا الشكل، هذه الصورة مذمومة بمنظار أهل البيت(عليهم السلام)، لأنّها تنطوي على أذى الآخرين المؤمنين، ومن آذى مؤمناً فقد أعلن الحرب مع اللّه سبحانه وتعالى.
هذه هي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وما أعظمها من مدرسة!!
يذكر هذه القصة المرحوم آية اللّه فلسفي في إحدى محاظراته التي كان يرتقي منبره في مدينة قم كلّ ليلة، فيطرح درساً وبحثاً أخلاقياً، فذكر مرةً هذا الحديث، وكنت حاضراً آنذاك، قال: يعني أنّ الصادق (عليه السلام) كان يريد أن يقول: إحمل زكاتك بنفسك ليلاً، وترجّل الطرقات، ودع قطرات عرقك تنحدر على وجهك، وانزل بيوت أولئك الناس المؤمنين بيتاً بيتاً، وسلّم عليهم، واسأل عن أحوالهم، ثم قدّم زكاتك إليهم بكلّ تواضع، فإنّك إن لم تفعل ذلك فقد أذللتهم وأهنتهم .
اقرأوا يا أعزائي هذه الرواية وغيرها من الروايات التي تكشف عن نظريات أهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمهم السامية، وتمعّنوا فيها، واشرحوها للناس من على منابركم، وفي كلّ فرصة يتسنّى لكم الحديث مع الناس، وابرزوا خفايا الأمور من النكات اللطيفة التي تضمّنها هذه الروايات .
اسأل اللّه التوفيق والعمل الصالح في الدنيا والآخرة لي ولكم جميعاً، وصلى اللّه على سيّدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين صلوات اللّه عليهم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته
التاريخ : 2008/08/27
تصفّح: 10318





جميع الحقوق محفوظة لموقع آية الله العظمى الشيخ الصانعي .
المصدر: http://saanei.org