موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: بمناسبة حلول ذكرى يوم الأربعين الحسيني ألقاه على طلاّب بحثه الخارج
خطاب سماحة آية الله العظمى الحاج الشيخ يوسف الصانعي (دام ظلّه الشريف)بمناسبة حلول ذكرى يوم الأربعين الحسيني ألقاه على طلاّب بحثه الخارج أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ نعزّي إخواننا وأحبّاءنا الأعزّاء بهذا اليوم الجلل نبتهل إلى الله سبحانه أن يتقبّل منّا هذا القليل، ويشدّ من عزمنا على المواصلة في كلّ ما يزيد من حبّنا لأبي الشهداء عليه السلام، والإخلاص لمسيرته الإلهية. وإذا لم يحالفنا التوفيق لزيارته عليه السلام، والتبرّك بقبره الطاهر ذي الزوايا الستّ في يوم الأربعينية، ولم يكتب لنا شرف الحضور مع الزائرين والطائفين حول ضريحه الشريف، فعلى الأقلّ بإمكاننا التوجّه بقلوبنا لزيارته عن بُعدٍ، وقراءة الزيارة المباركة المأثورة، والمنقولة عن الإمام الصادق عليه السلام، والمسماة بزيارة الأربعين، وترويها كلّ كتب الأدعية المشهورة. لكن الملاحظ فيها أنّه عليه السلام يقول في وقتها: «وليكن ذلك في صدر النهار، قبل أن تزول الشمس» أي: أنّ وقت زيارته بعد أن تظهر الشمس بمقدار وينتشر نورها، ويطلع النهار ويشعّ. أمّا لماذا هذا الوقت بالتحديد وهي زيارة مفتوحة منذ الصباح وحتّى آخر الليل طالما يصدق ذلك اليوم يوم الأربعين؟ ولماذا لم يقل ـ مثلاً ـ بعد الزوال أو عصراً أو...؟ لعلّه عليه السلام أراد من هذا الوقت بالتحديد، الذي تزيد عادةً فيه حركة الناس لطلب حاجاتهم ومعاشهم، ويكثر وجودهم في الطرقات، لإحداث نوعٍ من التبليغ لرسالة أهل البيت عليهم السلام، ونشر أفكارهم بين الناس، ويكون هذا الوقت مناسباً أكثر من غيره في طرح الأفكار والقيم والمظلومية التي كان عليها الإمام الحسين عليه السلام. ويحتمل أيضاً أنّه عليه السلام أراد حشد أكبر عدد ممكن من المواسين والمعزّين لفاجعة كربلاء، والمصائب التي حلّت بأهل البيت عليهم السلام بعد قتل الحسين عليه السلام، وأسر أهل بيته ونسائه وأطفاله وسوقهم إلى هنا وهناك، وقراءة الزيارة بحدّ ذاتها تثير فيهم الأحزان كما أثارت بجابر الأنصاري وعطية اللذين جاءا إلى قبر أبي عبدالله عليه السلام رغم المشقّة، واجتمعا، وصار جابر يقرأ الزيارة وعطية يستمع. وهذه التحليلات ليست بعيدة، وقد وردت في بعض كتب علمائنا وهم يشرحون هذه الزيارة. أنظروا إلى مفاتيح الجنان، أعمال اليوم الثامن والعشرين، وزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث يذكر الشيخ المفيد قدس سره ـ أستاذ السيد المرتضى، وأستاذ شيخ الطائفة ـ أنّ من المناسب والحسن أن يعمّر واجهة القبر. ذلك أنّ القبر يرمز إلى نبي الإسلام صلى الله عليه وآله، والإنسان حينما يقف أمام القبر فهذا يعني أنّه يقف أمام نبي الله صلى الله عليه وآله وسيد المرسلين، وأنّه في حالة زيارة ودعاء وخشوع، وتعمير وترميم القبر كما أنّه يثير هيبةً في نفس الإنسان، كذلك يعدّ فنّاً وذوقاً رفيعاً يجلب قلوب الزائرين. فالشيخ المفيد ـ وكذا باقي علمائنا وفقهائنا ـ ومنذ 1100 سنة مضت كان يحثّ على الاهتمام بالقبر والزيارة، وضرورة الوقوف بخشوع أمام صاحب القبر. بل ويؤكّد بعض المحقّقين والمحلّلين أنّ هذا العمل ضروري، ويستدعي التوجّه المطلق في كلّ خطواته. وهناك مسألة أخرى وهي أنّ الشيخ المفيد لم يرد هذا المعنى، وإنّما أراد الحثّ على الاهتمام بالقضايا والحوادث التي مرّت على صاحب القبر المزار، والتأسّي به، واعتباره قدوةً في إصلاح حالنا وحياتنا، كي لا يأتي يوم نجد مرارته. وذلك لا يتمّ إلاّ باستذكار سيرة صاحب القبر وشمائله، وليست هناك طريقة أشدّ أثراً من الاهتمام بمجالس العزاء التي تقام على حبّ صاحب القبر، كما في إقامة العزاء والمآتم على أبي عبد الله عليه السلام، وهي وسيلة فعّالة أيضاً لإيجاد التقارب بين الناس وأهل البيت عليهم السلام، وخاصة أبي عبدالله سيد الشهداء الحسين عليه السلام، وتوثيق الصلة بينهم وبينه. فالشيخ المفيد لربّما أراد من ذلك الترغيب في زيارته بهذا المنظار. ولا يقتصر الترغيب على مجالس العزاء فحسب، بل يشمل أيضاً مواكب التشابيه، وقراءة القصائد الحسينية بألحان حزينة، والتي تصوّر حادثة كربلاء وآلام ومصائب أهل بيت النبوة بأبلغ تعبير. وكذلك ما يقوم به أهل قم، من تهيئة الجمال والمشاعل ونصب الهوادج ضمن موكب حزين يسير في الطرقات، وأهل إصفهان ـ كما سمعت ـ قام بعض أهل الفنّ منهم بتصوير الواقعة الأليمة في أعمال فنّية رائعة وجذّابة يحكي للمشاهدين الحالة التي كانت عليها نساء الحسين عليه السلام وأولاده وهم يطاف بهم من ديار إلى أخرى. إنّ هذه الأعمال التي يقوم بها بعض الناس في إقامة كلّ ما يؤدّي إلى إثارة الحزن والبكاء على الحسين عليه السلام وأهل بيته، هي كلّ موضع رضا ولي العصر والزمان الحجة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه، وهي وسائل تقرّب الناس نحو مظلومية أئمة أهل البيت عليه السلام وشيعتهم، وتعرّفهم ببعض المصائب والآلام التي حلّت بهم. إذن عندما يرغّب الشيخ المفيد في عملٍ ما، فهو قطعاً مفيد، وموضع رضا إمام زماننا عجل الله فرجه، وما الأشعار التي نقشها الإمام على قبر إلاّ وفيها دلالة على رضاه عنه. هذا ولعلّ الشيخ المفيد أراد من ذلك أنّ يشدّ فينا العزم على حفظ حركة أهل البيت عليهم السلام على طول التأريخ، ولنطّلع على مظلومية هذا البيت أكثر فأكثر، من خلال الوقوف على مظلومية أبي عبدالله الحسين عليه السلام، ومظلومية أمير المؤمنين عليه السلام، بل ومظلومية سائر الأئمة المعصومية عليه السلام، واستيعاب الدروس من ذلك. والطريف أنّ أبا الصلت الذي هو من أصحاب الثقة، وقبره في مشهد إلى جنب قبر علي بن موسى الرضا عليه السلام، وكان يعتبر خادم بيت الإمام الرضا عليه السلام، ينقل رواية «مامنّا إلاّ مقتول أو مسموم»، لكن الشيخ المفيد يخدشها، ثم يعود هو فينقلها ! ومسألة أخرى أحبّ أن أشير إليها وهي دور السيدة زينب الكبرى عليها السلام في حركة أهل البيت عليهم السلام، ونشر مظلومية وقضية أبي عبدالله الحسين عليه السلام وقد يسمع أحدكم بحادثة أسرها وعيال الإمام الحسين عليه السلام، لكنّكم لو سمعتم بخطابها وسلوكها أمام الطواغيت، بل أعتى الطواغيت وهي المرأة الضعيفة لملككم العجب! هذا لأنّكم تسمعون بالأسر وأحواله، لكنّكم لا تدركون مفاهيمه العميقة، كما أنّكم لا تبلغون ما بلغته هذه السيدة العلوية الجليلة من منزلة في العرفان. لقد فقدت في يوم واحد جميع إخوانها وأبنائها وأبناء أخيها، وأبناء عمومتها، مقتولين مجزّرين، ممدّين على الأرض بلا رؤوس! وأطفال أيضاً منحورين كما تُنحر الإبل..، وشهدت الخيول المعادية وهي تجري على أجسادهم، وتدكّ بحوافرها صدورهم ! والنساء من أهلها وشيعة أخيها يتراكضن هنا وهناك بحثاً عن ركن يلتجئن إليه، وأطفال رُضَّع في بكاء وعويل يدورون من حولها، خائفين مرعوبين من هول الموقف، والثكالى لا يعرفون ماذا يفعلون سوى الإمساك بعبائتها! ثم بعد ذلك تؤخذ قسراً مع حشد من النساء والأطفال إلى الكوفة مدينة أبيها ومركز شيعته، أسيرةً على إبل ليس لها وطاء ولا غطاء، كما يؤخذ الخوارج وأسرى الحروب، وتدفع قهراً إلى مجلس ابن زياد الحاشد، فيواجهها حينما أُدخلت عليه والنساء والأطفال: «من هذه المتنكّرة ؟» يريد الإشهار بها والشماتة! ثم بعدها تؤخذ ضمن قافلة الأسرى إلى الشام، حيث مجلس يزيد الذي راح هو الآخر يشمّت بها، بل ويحرّض الناس على الشماتة قاصداً التشفّي، ويذكّرها بما رأته ليزيد من آلامها، ورأس أخيها أمامه ينكته بعصاه اللئيمة! لكنّها ورغم كلّ ذلك لم تفقد من صبرها شيئاً وواجهته بالقول: «ما رأيت إلاّ جميلاً» هذا هو أوج العرفان! وهذا لا يعني أنّها غير مبالية بما حدث، وإنّما هو الصبر والعرفان، وإلاّ ففي فسحة من الزمن انتهزتها ـ كما في رواية ـ بكت بكاءً شديداً، وكانت بقرب المحمل (الهودج) فضربت رأسها بخشبته بقوة، يقول الراوي: «رأيت الدم قد سال على المحمل»، فرغم صبرها وصلابتها، إلاّ أنّها إنسانة امرأة لها طبيعتها المودعة فيها. فليس من الحكمة أن نأتي اليوم ونحكم ونشكل عمّا صنعته السيدة زينب عليها السلام، ونسأل: لماذا ضربت رأسها بالمحمل ؟ كيف وهي عمود الصبر وأهله! إنّ زينب هي الصبر، والصبر يعني زينبا ! وهذه الأسرة الشريفة تمتلك العاطفة كلّها، والإنسان العظيم يمتلك صبراً عظيماً، وكذلك يمتلك عاطفةً عظيمة، لأنّ الصبر لا يعني الجفاء واللاعاطفة! يقول الراوي أنّها لمّا رأت الرأس المطهّر (رأس الحسين) مقطوعاً ومنفصلاً عن البدن، انتبهت إلى أنّ هناك طفلة بجانبها محدقة برأس أبيها، لم يسعها أن نادت أخاها: «يا أخي ! فاطمة الصغيرة، كلّمها، فقد كاد قلبها ينفطر...» قالت ذلك وهي في أوج الألم، حيث تكلّ الألسن، وتجيش العواطف، وتنعدم الإرادة، فعندها ضربت رأسها بالمحمل. ولمّا ضربت رأسها لم تعي ألمها آنذاك، حيث اصطدم رأسها بشيء صلب وسال دمها ؛ لأنّ كلّ أفكارها ومشاعرها كانت موجّهة نحو أخيها الحسين عليه السلام. وكذلك الأمر كان حينما أُخرج السهم من قدم أمير المؤمنين عليه السلام وهو في حال الصلاة، فلم يعِ ألم ذلك ؛ لأنّ ذهنه ومشاعره كانت تحلّق في عالم آخر، فلم يحسّ بألمه، ولا بالدم الذي سال عنه، بل كأنّما لم يكن هناك جرح ولا سهم ولا ألم، وهذا لأنّ أفكاره كانت متوجهة إلى شيء آخر. والآن، فمن لم يرد أن يغرق في بحر العزاء والعاطفة الحسينية الجياشة، ولا يلج هذا العالم، فلا ينبغي عليه أن يشغل باله، ويهدر وقته، بما هو مشكل أو غير مشكل، صحيح أو غير صحيح... ونحن إذا لم نكن نملك إحساساً جيّاشاً، ولم نكن نعشق أبا عبدالله عليه السلام بقلوبنا وعقولنا، وصحنا معاً: «يا حسين» ثلاث مرات، فم يتأثّر قلبنا بشيء من حزن أو إحساس خاص، فمن المعلوم أنّنا لسنا بشيعة خالصين ! وإذا لم نكن بشيعة خالصين، فما لنا وذاك الذي انطلقت أحاسيسه، وجاشت عواطفه نحو الحسين عليه السلام ؟ ولماذا نعترض ونشكل على عمله؟ فهو غارق في إحساساته وعواطفه النبيلة، وراح يضرب وجهه وصدره بشدة حتّى يحمرّ ويزرقّ! هذا هو العزاء الذي أوصى به أئمتنا عليه السلام بوجوب حفظه، وهو المظهر الذي يجب على فقهائها الترغيب فيه، لأنّه فضلاً عن كلّ ذلك فهو بمثابة الرمز إلى المظلومية والكرامة المهدورة. إنّ أيّ غراء يقوم به الإنسان، وبأيّ نحو يوقعه تحت تأثير حبّ الحسين عليه السلام، هو موضع رضا الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله، ويترتب عليه ثواب جزيل. وقد ذكرت في مرات عدّة قصة السيدة سمّية أم عمار، والسبب الذي دفعها إلى أن تترك العمل بالتقية، في وقت كانت التقية في محلّها كما أقرّها العقلاء، فلم تذكر النبي صلى الله عليه وآله بسوء أبداً، وكان يحلّ لها فعل ذلك عندما هدِّدت بالقتل وسفك دمها وجميع أفراد عائلتها، ورغم ذلك، ولم تعمل الصواب من العمل، فقد عدَّت وزوجها من الشهداء، حتى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قال في حقّها: «أول من دخل الجنّة». ومع ذلك ظهر من يدّعي أنّ هذه المرأة انتحرت بفعلها ذلك، وكان باستطاعتها التقية ولم تعمل بها! لقد سفكت دمها بيدها! والمشكلة أنّ هذا الشخص الذي يطلق مثل هذه الدعوى لم يدرك حقيقة العلاقة التي كانت تربط الناس بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله آنذاك، ولم يفهم الأحاسيس التي تملّكت أم عمّار (سمية) نحو شخص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، ومدى الحبّ والوفاء الذي غمر آل ياسر تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله. نعم، أنا وأنتم لم نستطع أن ندرك الأحاسيس التي كانت تمتلك هذه المرأة وزوجها في حبّهما للنبي صلى الله عليه وآله، لدرجة أنّهما غرقا فيه، ولم يعودا يشعرا ما الذي يجب عليهما فعله حينذاك، ولم يدركا لحبّهما الغامر هل يجب عليهما إجراء التقية أم لا، ولم يلحظا ذلك. والأمر نفسه يحدث في مسألة إقامة العزاء والمآتم على أبي عبدالله عليه السلام، فإذا بلغ المشاركون هذا الحدّ من المشاعر والأحاسيس الجيّاشة، فسوف لم يشعروا بأيّ شيء يحدّهم ويقطع عليهم مشاعرهم تجاه أبي عبدالله عليه السلام، بل حتّى التكاليف ـ لو فرضنا أنّ تركها لا يوجب حراماً ـ على فرض وجودها وتزاحمها معها، فهي تسقط بفعل هذه الأحاسيس الجياشة. ونقطة أخرى جديرة بالذكر، وهي أنّنا لو أردنا إتمام معرفتنا بأئمتنا، ونكثر من الإحاطة بهم وبسيرتهم، فلا يجب الغلو في ذلك. ولقد ذكرت مرةً أنّ إمام الأمة سلام الله عليه يقول في كتاب أسفاره: لقد بلغ أمير المؤمنين عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله مقام الكمال أبلغه، ومن دون تفاوت بينهما. هذا الكلام هو كلام الإمام، وليس لكلامي لتشكلوا عليه، ويعني أنّه لو ولد علي بن أبي طالب قبل النبي الأكرم لصار هو النبي، ولو كانت ولادة النبي الأعظمَّ بعد ولادة علي عليه السلام، لصار هو الإمام الأول ولا شك. وقصة جابر الأنصاري، الصحابي الجليل، ليست ببعيدة عن أذهاننا، فهذا الصحابي الذي كانت معارفه محدودة، ولم يكن محيطاً بالأشياء، لكن كان له موقف مشرّف في يوم الأربعين الحسيني، ففي زيارة الأربعين كما هو في زيارة النصف من رجب الواردة في كتاب المفاتيح، يقول جابر من قبل 1350 إلى 1360 سنة مضت: «أشهد أنّك تسمع كلامي، وتردّ سلامي، وترى مقامي». وقراءة هذا المقطع من الزيارة قد يسهل تلاوته، وقد يؤثّر فينا، لكن تصديقه بالنسبة إلينا قد يصعب، وإن لم يكن كذلك عند جابر آنذاك وهو مقابل قبر الحسين عليه السلام، وتستعرض أمامه كلّ ذكريات الحزن والمصيبة الواردة من واقعة كربلاء وإن مضت عليها أربعون يوماً. لقد كان جابر وأمثال هذا الصحابي يرون في الحسين عليه السلام أشياءً ربما نعجز نحن عن رؤيتها، وليس كلّ شيء يجب أن يراه زيد يجب أن يراه عمرو، ولا يجب أن نرى كلّ شيء بمنظار عصر اليوم الذي هو عصر الفضاء والاتصالات السريعة. وتحظر ببالي الآن قصة ذلك الرجل الجليل الذي كان رحمه الله مخالفاً لنا، وقد وجه الكثير من الكلام ضدّنا، ولا شك لم يكن ذلك عن تقصير منه، حيث كان ينظر إلينا بمنظار خاص، وبنى على أساسه معلوماته عنّا، ولذلك خالفنا. ولقد التقاني قبل وفاته في مكة أثناء الحجّ، وبالتحديد في صحراء عرفات، وأظهر الندم على كلّ ما صنعه وقاله عنّي، وهو مخلص ومؤمن بالأئمة المعصومين عليهم السلام. واذكر أنّني قد رأيته مرة في حرم الإمام الرضا عليه السلام، وهو واقف في الرواق المقابل للضريح الشريف، مبتعداً عن الزحام والتفاف الناس حول القبر المطهّر، وهو يتلو الزيارة بخشوع، ولم استطع منع نفسي فمددت يدي على كتفه وقلت له، نسألك الدعاء، وعفواً على هذا القطع من تلاوة الزيارة، لكنّي أردت أن أقول أنّك إنسان معروف، وشخصيتك محبوبة عند الناس، وكلّ ما تقوم به يعدّ أسوة لغيرك وقدوة، لذا من الأفضل أن تتقدم أكثر وتقترب من الضريح الشريف، وتقف وسط الزحام مع الناس فتتلو الزيارة، فأجاب متعجّباً: أذهب إلى وسط الزحام والتدافع وأتلو الزيارة؟! فقلت له: نعم، فالشهيد الأول قال في كتابه الدروس:«كلّما قرب كان أفضل». فهل التزاحم حول الضريح المطهّر لتقبيله والتبرّك به فيه إشكال شرعي أو عرفي؟ وهل الاصطفاف للانتظار لمسّ الضريح والبكاء عنده يتضمن إشكالاً شرعياً أو عقلياً؟ كيف وفي صلاة الجماعة يستحبّ الاصطفاف والتزاحم في الوقوف، وإلصاق الكتف بالكتف كالبنيان المرصوص لأدائها! إذ إنّ في هذا التراصّ والتزاحم معانٍ كثيرة! ولذا لا إشكال من التزاحم والاقتراب من الضريح، والمزدحمون حول القبر لم يكونوا ليفعلوا ذلك لولا مشاعرهم وحبّهم الذي دفعهم إلى التزاحم، وإبراز أدبهم لصاحب القبر الشريف، وبثّ أنينهم وحزنهم لفراقه، ودعوته أن يشفع لهم في الآخرة. ونحن إذا لم نملك مشاعراً مثلهم، ولم نصنع ما يصنعون فعلى الأقلّ لا نتذمّر، ولا نبدي ذمّنا واعتراضنا على ذلك. وكذلك ما يجري في مواكب وحسينيات العزاء الحسيني، ترى الناس يضربون على رؤوسهم وصدورهم، ويصرخون: يا حسين يا حسين ! ويئنّون من الألم والحزن على مقتل سيد الشهداء، والمصائب التي حلّت بأهل بيته ونسائه وأطفاله وشيعته، تراهم يفعلون ما بوسعهم، وبلغ ما بلغ. ففي العزاء الحسيني يكون الإنسان المحبّ تحت تأثير الأحاسيس الجياشة، ووطئة العواطف الغامرة، يبلغ به الأمر ما بلغ، فلم يجد من بدّ إلاّ الاستمرار من دون حدّ محدود يمنعه عن ترجمة حبّه وحزنه. وكذا ليس هناك من تكليف في البين، لأنّهم وأبا عبد الله عليه السلام في علاقة خاصة، وهم ورسول الله صلى الله عليه وآله، أيضاً، وهم وأبا الحسن الرضا عليه السلام كذلك... فإذا لم يكن عشق الناس وحبّهم بهذا الشكل والقوة والشدة في مراسم العزاء والبكاء، لما أعطوا شهيداً واحداً في سبيل الثورة والإسلام؛ وقوافل الشهداء والمضحّين لم تكن لتوجد لولا ذلك الحبّ الحسيني الصارخ، بل لم تكن ثمة نهضة ولا ثورة، ولا مساهمة شعبية ضدّ العدوان الصدامي. إنّ الحبّ الحسيني شيء معنوي يغمر قلب المؤمن ويشدّه، ويضخّ فيه الحياة والعاطفة النبيلة. أمّا أن أجلس وأمارس عملي فحسب، ولا أشارك الناس في شعائر الحبّ والعزاء والبكاء، على اعتقاد أنّ من يمارس عملاً ثقافياً خير ممّا يقوم به عوام الناس، ولا أساهم معهم في تعظيم شعائر الله التي هي من تقوى القلوب، ولم أشاركهم في الجبهة، ولا شغل لي في مسائل النهضة والثورة والحرية، ولم أصنع شيئاً سوى الانتظار حتّى بلغت الثورة مداها وانتصرت، ومن ثم أزاحم الناس على المقدّمة، والجلوس على مائدتها... فهذا شيء ليس بحسن. نعم لا مانع من الجلوس على المائدة الحسينية، وتذوق طعامها، ولكن دون إظهار التذمّر والنقد الذي لا طائل منه. مرّة أخرى يا إخوتي وأبنائي نعزّيكم وجميع الناس وعشّاق ومحبّي آل بيت محمد صلى الله عليه وآله، بيت العصمة والطهارة، بمناسبة حلول يوم الأربعين الحسيني، ونحن إذ نبتهل بالدعاء والزيارة، نسأل الباري عز وجل أن يوفقّنا لما فيه مرضاته، وأن يجعلنا وإياكم حماة الحقّ والحرية الحسينية ودعاتها، وأن ندرك المفهوم الواقعي لكلمة «العزاء»، وما هو وظيفتنا نحوه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته... التاريخ : 2007/08/29 تصفّح: 10208