موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: القمار، المسابقات، التسلية دراسة فقهية استدلاليّة
نصوص معاصرةالقمار، المسابقات، التسلية دراسة فقهية استدلاليّة
القمار، المسابقات، التسلية دراسة فقهية استدلاليّة
سماحة آية الله العظمى الشيخ يوسف الصانعي(*)
ترجمة: حيدر حب الله
مقدمة
عندما رأى الإنسان أنه يعيش إلى جانب الآخرين من أبناء نوعه، وأحسّ أنّ علاقته بهم توجب راحته وتقدّمه.. صرف قسماً من آنات عمره في المسابقات والمباريات، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. ومنشأ هذا الأمر ـ إضافةً إلى التسلية، والفرح، وتمضية الوقت بالانبساط والانشراح ـ ملأ الفراغ من هذا الوقت، وكسب الدخل المادي، وربما أحياناً كسب أرباح كبيرة على الصعيد المادي، فلو لم يكن حسّ التباري والسعي للامتياز عن الآخرين والتقدّم عليهم وإبراز محاسن الذات وعناصر قوّتها موجوداً لم يحصل في حياة البشر تقدّم ولا بلوغ للإمكانات والرفاه والسعادة والاستقرار، أو على تقدير وجود هذه الأشياء لم تكن لتوجد بهذه السرعة لولا الحسّ المذكور.
واليوم يعتمد الأفراد، والشركات، والمؤسّسات الخاصة والحكومية، بل وما هو أعلى من ذلك ـ كالدول والبلدان ـ على هذا الأمر، فتسعى يوماً بيوم لجعل منتوجاتها أكثر تقدّماً ودقةً وإمكانيةً من الآخرين، لتقدّم ما عندها للمجتمعات البشرية والمستهلكين، ومن هذا المنطلق نفسه تُقام في بعض الأحيان مسابقات علمية تعطى فيها جوائز قيّمة، تهدف إلى اكتشاف النخب والعناصر الممتازة في المجتمع.
وعلى أية حال، فقد كانت هذه المسابقات فيما مضى من زمان تختصر في التباري برمي الأحجار والرماح أو في الصيد، إلاّ أنّ مرور الأيام طوّرها لتشمل مختلف ألعاب القوى واختبارها، مثل: المصارعة، والركض، ثم النبال، وركوب الخيل و.. إلى أن وصلت إلى إبداء الإنسان تميّزه في الكتابة ورسم الخط، والسرعة، والحفظ.. بحيث إنّ تعداد ألوان المباريات والمسابقات اليوم لم يعد أمراً سهلاً.
اليوم، وفي تمام أقطار العالم، ملأت المسابقات الدنيا، حيث يشارك الناس جميعاً ـ كلٌّ حسب ثقافته ومنطقته ـ بهذه المسابقات، إجراءً واستقبالاً وترحيباً و.. وهذا التعدّد والتنوّع صار أساساً لأفكار وأهداف مختلفة عن تلك التي دفعت في الماضي إلى فعلها، فالباعث اليوم على هذه البرامج والنشاطات ليس مجرّد التسلية والفرح والرياضة أو تمضية الوقت، بل صارت لها أهداف سياسية كبرى، وكذلك ثقافية، وبالأخص اقتصادية، مما يعيه أبسط الناس وأقلّهم اطلاعاً، ولماذا لا تغدو كذلك والحال أنّ عدداً كبيراً من البرامج التلفزيونية، والفضائيات، والصحف، والمجلات، وسائر وسائل الاتصال الجمعي، صار مخصصاً لها، وبأقلّ قدر من التأمل والتفكير نعرف كم هي المداخيل المالية الهائلة والأرباح المذهلة التي تحصل جرّاء إقامة هذه المسابقات، وكم ظهرت فرص عمل وأنواع شغل خاصّة بإقامة هذه المباريات، حتى أنها شغلت الكثير من المجتمعات المختلفة وشرائحها: الشاب والعجوز، الرجل والمرأة، الصغير والمراهق، المجتمعات الإسلامية وغيرها.
والأهم من ذلك كلّه، أن فريقاً من المؤمنين، من حيث شاء أو لم يشأ، صار مرتبطاً بهذه البرامج والأنشطة، وكما قيل سابقاً، فإن المجتمعات الإسلامية تعاملت مع هذه البرامج بوصفها واقعاً خارجاً عن السيطرة، وهو ما جعل رجال الفكر والثقافة والمتولّين لأمور الدين مضطرّين لدارسة هذه الظاهرة دراسةً دينية وتحليلها طبقاً لمعطيات الدين نفسه. والجدير ذكره أنّ الأديان لم تتوانَ عن التشجيع على إقامة المسابقات والمباريات، بل سعت لترويج بعضها، فقد دعم الإسلام مسابقات الإبل والرمي والفروسية، وقد وردت الروايات العديدة الكثيرة الدالّة على جوازها، كما سوف يأتي إن شاء الله تعالى.
وقد أدى ذلك كلّه ـ في الماضي والحاضر ـ إلى تداعي جملة أسئلة طرأت على أذهان المتشرّعة والمتديّنين من جهة، وشغلت عقول العلماء والفقهاء بوصفهم المتولّين للأمور الدينية، من جهة أخرى، ويمكن العثور على هذه الأسئلة من بين ما كُتب وقيل، وذلك من نوع الأسئلة التالية:
1 ـ هل يجوز الحضور إلى محلّ إقامة هذه المسابقات ودفع المال للحصول على مؤشر للدخول؟ وهل تعدّ هذه المسابقات من مصاديق اللهو واللعب؟
2 ـ هل يمكن تعميم المسابقات المنصوص عليها في النصوص الدينية والمرخّص فيها عبر تنقيح المناط وتوسعة الملاك إلى الأدوات والمسابقات المتناسبة مع العصر الحاضر، ومن ثم مقاربة مثل المصارعة، والتكواندو، والكاراتيه، والدراجات النارية، ومسابقات السيارات، والرمي بالأسلحة المعاصرة، مع مثل ركوب الخيل والرمي بالنبال والسهام والرماح، على أساس عنصر تقوية القوى الروحية والدفاعية، وعنصر الاستعداد للحرب؟
3 ـ هل تحرم المداخيل المالية التي تُجنى من وراء هذه المسابقات غبر الشرط والرهان و..؟
4 ـ ما حكم هذه المسابقات إذا كانت لها أهداف غير اقتصادية، مثل نشر ثقافة البلدان الإسلامية أو تقوية البُنية العلمية للمشاركين أو محاولة التعرّف على النخب العلمية لدعمها و..؟
5 ـ ما حكم مثل مسابقات حفظ القرآن وقراءته و..؟
6 ـ أليس من المنطقي استنتاج أنّ ذكر الرماية وركوب الخيل وعَدْو الجمال و.. في الروايات إنما جاء من باب المثال وبيان المصاديق، ومن ثم تغيُّر الظروف والأوضاع في المصاديق يمكن أن يؤدّي إلى تغيّرها؟
7 ـ هل يجوز اللعب بأدوات القمار لغير المقامرة، بل للتسلية فحسب؟
8 ـ هل يمكن اللعب للتسلية بالآلات التي لم يكن لها وجود فيما سلف من الزمان، لكنها غدت اليوم آلةً من آلات القمار؟
9 ـ إذا كان أصل الشرط والرهان والمسابقات غير شرعي، كيف يمكن أن تكون قائمة دائماً في أوساط المتدينين والمجتمعات المحافظة دينياً ونحن نراها كذلك، مع عدم وجود منع من طرف العلماء لها؟ فهل توصّل هؤلاء العلماء لحلٍّ لمثل هذه القضايا أم لا؟
سنحاول هنا في هذه المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من وجهة نظرنا؛ لنقدّم معطيات فقهية تتناسب مع تحوّل الظروف: اعتماداً على نظريات السلف الصالح، وانطلاقاً وأخذاً من الكتاب والسنّة والعقل، إن شاء الله تعالى.
معنى المسابقة لغةً وشرعاً
تشتق «المسابقة» من جذر «سبق» ويعنى التقدّم على الغير(1)، كما تختزن الكلمة مفهوم التقدّم والمنافسة في الأشياء جميعها(2)، وقد استخدمت مادة «سبق» في القرآن الكريم بهذا المعنى، وكذا مشتقاتها: فنحن نقرأ في سورة يوسف الآية التالية: (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا) (يوسف: 17)، وفي آية أخرى من السورة عينها جاء: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ)(يوسف: 25)، وفي سورة يس جاء: (فَاسْتبَقُوا الصِّرَاطَ) (يس: 66).
جاء في لسان العرب ـ نقلاً عن الأزهري ـ ما نصّه: «جاء الاستباق في كتاب الله تعالى بثلاثة معاني مختلفة: أحدها قوله عزوجل: (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ)، قال المفسّرون: معناه ننتضل في الرمي، وقوله عزوجل: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ)، معناه ابتدرا الباب، يجتهد كلّ واحد منهما أن يسبق صاحبه.. والمعنى الثالث في قوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)، معناه فجازوا الصراط وخلفوه، وهذا الاستباق في هذه الآية من واحد، والوجهان الأولان من اثنين»(3). نعم، نحن نقرأ في سورة البقرة: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)(البقرة: 148) وهو يعني السرعة.
ومن سائر الاستعمالات القرآنية للكلمة وجذرها، قولُه تعالى: (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً)(النازعات: 4)، وقوله: (لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيَما أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (الأنفال: 68)، وقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(الواقعة: 10 ـ 11).
كما أنّ استعمال هذه المفردة بهذا المعنى والمفهوم قد جاء كثيراً في الروايات، وسوف نبحثها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
أما على مستوى الاصطلاح الفقهي، فتطلق كلمة «السَّبْق» على العقد الذي يُتفق عليه لإجراء مسابقة وغلبة لطرف على طرف في موارد معيّنة من قبل الشارع، في مقابل شيء ما يُعطى للفائز في هذه المسابقات مع حفظ تمام الشروط والأجزاء. وبشكل عام، فقد قسّم فقهاء كبار مثل المغفور له الشيخ مرتضى الأنصاري(4)، وتبعه السيد أحمد الخوانساري(5)، والسيد أبو القاسم الخوئي(6).. قسّموا تمام أنواع المسابقات وألوانها إلى أربعة أقسام، وقد بحثوا في الحكم الفقهي لها طبقاً لهذا التقسيم، وهذه الأقسام هي:
1 ـ اللعب والمسابقة بالآلات القمارية مع العوض والمقامرة والرهان.
2 ـ اللعب والمسابقة بالآلات القمارية بدون عوض ومقامرة ورهان.
3 ـ اللعب والمسابقة بغير الآلات القمارية مع العوض والمقامرة والرهان.
4 ـ اللعب والمسابقة بغير الآلات القمارية دون عوض ومقامرة ورهان، أي مطلق المغالبة والمسابقة.
أشكال المسابقات وأنواعها
1 ـ المسابقة بآلات القمار مع العوض والمقامرة
قال بعض أهل اللغة: «القمار رهن الشيء على اللعب بشيء من الآلات المعروفة»(7)، وهو التعريف الذي أشار له الشيخ الأنصاري في كتاب «المكاسب»(8).
إنّ حرمة اللعب والمسابقة بآلات القمار مسألةٌ إجماعية بين علماء الإسلام، الشيعة والسنّة، كما يقول العلامة الحلّي في «منتهى المطلب»، وفقط الشافعي هو من كان مخالفاً في اللعب بالشطرنج(9). ويكتب الشهيد الثاني في «مسالك الإفهام»، فيقول: «مذهب الأصحاب تحريم اللعب بآلات القمار كلّها، من الشطرنج، والنرد، والأربعة عشر، وغيرها، ووافقهم على ذلك جماعة من العامّة، منهم أبو حنيفة، ومالك، وبعض الشافعية»(10). ويقول الشيخ الأنصاري: «ولا إشكال في حرمتها، وحرمة العوض، والإجماع عليها تحقّق، والأخبار به متواترة»(11). كما يكتب السيد أحمد الخوانساري، يقول: «اللعب بآلات القمار مع الرهن، ولا إشكال في حرمته وحرمة العوض: للإجماع، والأخبار»(12).
أ ـ المستند القرآني لنظرية التحريم
ذكرت ويعلّق الآيات الدالّة على حرمة هذا القسم من المسابقات في الكتب الفقهية على الشكل التالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَْنْصَابُ وَالاَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(المائدة: 90 ـ 91).
ويعلّق العلامة الحلي على الآية، فيقول: «وفي هذه الآية دلالة على تحريم الخمر والقمار من عشرة أوجه»(13). نعم، لا يشير العلامة إلى هذه الأوجه أبداً، إلاَّ أنه يمكن عدّها كما يلي:
1 ـ إنه رجس.
2 ـ من عمل الشيطان.
3 ـ فاجتنبوه.
4 ـ مجاورة ومقارنة الميسر بالخمر والأنصاب، وهي عبادة الأصنام، والأخيرَين من المحرّمات القطعية.
5 ـ لعلّكم تفلحون.
6 ـ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة.
7 ـ والبغضاء.
8 ـ ويصدّكم عن ذكر الله.
9 ـ وعن الصلاة.
10 ـ فهل أنتم منتهون.
يقول ابن منظور في «لسان العرب» ـ نقلاً عن مجاهد ـ: «كلّ شيء فيه قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز»(14)، أي أنَّ كلَّ ما يحتوي مقامرةً يعدّ ميسراً، وقيل: القمار هو اللعب بآلاته مع العوض، وعليه فدلالة الآية واضحةٌ هنا جداً. يقول المحقّق الأردبيلي: «ثم اعلم أنّ ظاهر الآية تحريم الخمر، وكلّ مسكر مطلقاً، وكذا كلّ قمار وميسر..»(15).
أما الآية الأخرى الدالّة على حرمة هذا القسم من المسابقات، فهي قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا)(البقرة: 219).
إضافةً إلى ظاهر هذه الآيات، ثمة روايات واصلة تتحدّث عن تفسير هذه الآيات، مثل خبر إبراهيم بن عنبسة، عن حمدويه، عن محمد بن عيسى، قال: كتب إبراهيم بن عنبسة ـ يعني إلى علي بن محمد ـ إنْ رأى سيدي ومولاي أن يخبرني عن قول الله ـ عزوجل ـ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية، فما الميسر ـ جُعلت فداك ـ ؟ فكتب: «كل ما قومر به فهو الميسر، وكل مسكر حرام»(16).
وكذلك خبر أبي الجارود في تفسير آية: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..)، حيث ينقل فيها عن الإمام الباقر (عليه السلام): «وأما الميسر فالنرد والشطرنج، وكل قمار ميسر و..»(17).
ب ـ المستند الحديثي لنظرية التحريم
يتحدّث الشيخ الأنصاري عن أنّ الروايات الدالّة على حرمة اللعب والمسابقة بآلات القمار مع العوض مستفيضة، بل إنها متواترة(18)، وإضافةً إلى الروايتين اللتين ذكرناهما آنفاً، نشير ـ أيضاً ـ إلى بعض الروايات الأخرى:
1 ـ صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما‘، قال: «لا تصلح المقامرة، ولا النهبة»(19). ولا يصحّ القول بأنّ كلمة «لا تصلح» هنا أعمّ ـ في دلالتها ـ من الحرمة والكراهة، حيث إنّ متعلّقها شيء دالّ على الحرمة، ألا وهو النهبة، أي الغارة على أموال الآخرين، فلا يمكن أن تكون دالّةً في مورده على الكراهية، فبقرينة المجاورة يحكم بحرمة المقامرة حينئذ.
2 ـ موثقة السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «كان ينهى عن الجوز يجيء به الصبيان من القمار أن يؤكل وهو سحت»(20).
3 ـ صحيحة الوشّاء، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «الميسر هو القمار»(21).
وطبقاً لما تقدّم: يتبيّن أنّ حرمة الصورة الأولى للمسابقات، وهي اللعب على نحو المقامرة بآلات القمار مع الشرط والعوض، من ضروريات الفقه، والقدر المتيقن من الآيات والروايات والإجماع.
2 ـ المسابقة واللعب بآلات القمار دون عوض ومقامرة
شكّك بعض الفقهاء في حرمة هذا القسم من الألعاب والمسابقات، مثل اللعب للتسلية بالشطرنج والورق ـ وهو أمرٌ شائع اليوم ومحلّ ابتلاء ـ وكان من المشكّكين الفقيه الدقيق المتقي المغفور له السيّد أحمد الخوانساري: فقد قال: «اللعب بآلات القمار من دون رهن قد يشكّك في حرمته..»(22).
وهكذا يتحدّث المحقق الأردبيلي فيقول: «ثم اعلم أنّ ظاهر الآية تحريم الخمر وكلّ مسكر مطلقاً، وكذا كل قمار وميسر، لكن مع أخذ الرهن..»(23).
ويقول الشيخ الأنصاري: «الثانية: اللعب بآلات القمار من دون رهن، وفي صدق القمار عليه نظر»(24).
نعم، يُستثنى من هذه القاعدة: النرد والشطرنج: حيث يحرم مطلق المسابقة واللعب بهما.
ولكي نثبت حلّية هذا القسم من المسابقات: نستند إلى قصور أدلّة الحرمة عن الشمول له، وذلك على الشكل التالي:
أولاً: قصور الآيات القرآنية عن الشمول(25).
أ ـ قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا)(البقرة: 219). تدلّ هذه الآية في نفسها على حرمة المال والعوض، لكنها ـ للوجوه القادمة ـ قاصرة عن الدلالة على حرمة الفعل، أي اللعب والمسابقة، وهذه الوجوه هي:
1 ـ إنّ المنسبق للذهن من منافع الميسر هو المنفعة المالية والمادية له، تماماً كما هو المتعارف في منفعة الخمر من النشوة والنشاط و.. رغم كون منافعهما أعمّ من ذلك، لكنّ المتبادر من منفعة الخمر هو المنفعة النفسية، والمتبادر من منفعة القمار هو المنفعة المالية.
2 ـ لا يمكن قبول القول بأن المنفعة في هذه المسابقات أعمّ من المالية والترفيهية والتسلية وتمضية الوقت، ذلك أنّ الظاهر من الميسر ـ بقرينة وحدة السياق ـ هو المنفعة المالية والمادية التي فيه، فحيث كانت الخمر عيناً فلابدّ أن يكون الميسر كذلك.
3 ـ مقتضى اشتقاق كلمة الميسر المأخوذة من اليسر، هو أن يراد به الميسر الذي يحوي منفعةً مالية، تماماً كما جاء التصريح بذلك في كلمات الأردبيلي بقوله: «على ما فهم من اشتقاقه..»(26)، وهو ما يشير إليه كلام الزمخشري في كتاب «الكشاف»، وقد أشار الأردبيلي نفسه إلى ذلك، حيث قال: «قال في الكشاف: الميسر القمار، مصدر من يسر، كالموعد والمرجع عن فعلهما.. واشتقاقه من اليسر: لأنه أخذ مال رجل بيُسر وسهولة من غير كدّ وتعب، أو من اليسار، لأنه سلب يساره»(27).
وعليه، فالأمر كما قلنا من أنّ أساس الميسر وركنه الرئيس هو ما فيه من جانبٍ مالي.
ب ـ قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)(المائدة: 91). وتعتبر هذه الآية أنّ علّة الحرمة هنا هو ما تحدثه هذه الأشياء من عداوات وشحناء وبغضاء يلقيها الشيطان، وهذا ما لا يصحّ إلاَّ مع وجود مال في البين: ذلك أنّ خسارة هذا المال أو كسبه وربحه هو ما يوقع العداوة والحقد والضغينة، وإلاَّ فصرف التسلية والترفيه لا يوجب ذلك، فتمام المفاسد يكمن في اللعب مع الرهن والعوض، كما أشار إلى ذلك السيد أحمد الخوانساري(28)؛ وعليه، فهذه الآية هي أيضاً قاصرة في دلالتها عن الشمول لحرمة اللعب بالآت القمار وأدواته دون عوض أو مقامرة.
ثانياً: قصور الروايات الشريفة عن الشمول
لا تشمل الروايات الدالّة على حرمة القمار والميسر هذا النوع من اللعب، أي اللعب بدون عوض ورهن وشرط، كما صرّح بذلك الشيخ مرتضى الأنصاري، وقد أشرنا سابقاً إلى ذلك؛ حيث يقول: «الثانية: اللعب بآلات القمار من دون رهن، وفي صدق القمار عليه نظر: لما عرفت، ومجرّد الاستعمال لا يوجب إجراء أحكام المطلقات، ولو مع البناء على أصالة الحقيقة في الاستعمال: لقوّة انصرافها إلى الغالب من وجود الرهن في اللعب بها»(29). وكما نقل عن بعض اللغويين(30)، فإنَّهم يطلقون كلمة «القمار» على اللعب بآلات القمار مع العوض والرهن لا غير.
وقد يشكل هنا بأنّ اللعب بآلات القمار موجبٌ لتقوية الباطل ووهن الحقّ، كما ينقل ذلك الإمام الخميني عن المغفور له العلامة المجلسي(31).
ويُجاب: هل اللعب بهذه الآلات للتسلية والترفيه للحيلولة دون ارتكاب القمار الواقعي (اللعب مع العوض) أو سائر المحرّمات، باعثٌ على تقوية الباطل وتضعيف الحقّ، سيما مع وجود أغراض عقلائية فيه أيضاً؟! وعليه، فمع قصور أدلّة الحرمة عن الشمول لهذا المورد، وتحكيم أصالة الإباحة، يثبت حينئذ حلّية القسم الثاني من المسابقات، أي اللعب والمسابقة بآلات القمار دون عوض ومقامرة ورهن.
3 ـ المسابقة بغير آلات القمار عن عوض ورهن
وتنقسم هذه المسابقات بدورها إلى قسمين:
القسم الأول: ما جاء على لسان الشرع المقدّس من مسابقات صرّح بتجويزها كما رخّص في الرهن والعوض فيها.
القسم الثاني: ما سكت عنه الشرع المقدّس، دون أن تتعرّض له أو تصرّح به الروايات الشريفة.
وكما نعلم، فقد واجه المسلمون في صدر الإسلام، سواء في عصر النبي’ أو بعده، حروباً كثيرة، وهذا ما فرض عليهم أن يكونوا في حالة جهوزية واستعداد من الناحيتين: الفكرية والبدنية، وكذلك من ناحية الأدوات الحربية الدفاعية، كي يتمتعوا بالقدرة الضرورية حين الحاجة للحرب أو الدفاع: من هنا، خاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين بقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَااستَطَعْتُم مِن قُوَّة وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْء فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60)، حيث يستفاد من هذه الآية قانونٌ عام ودائم يقوم على التشجيع والحث على كسب الاستعداد الحربي ورفع مستوى القدرات العسكرية والقوى الدفاعية والقتالية للمسلمين. وضرورة امتلاك القدرة في مقابل العدو مبدأ ثابت لا يتغيّر، وقد كانت هذه القدرة متجلِّيةً في الأزمنة السابقة في ركوب الخيل ورمي السهام والرماح والنبال و.. أما اليوم فقد تغيّرت الكثير من العوامل المؤثرة في قدرة المجتمعات وقوّتها، فإذا كانت هذه القدرة في يوم من الأيام الماضية متجلّيةً في عدد الجنود والفرسان والرماة، فكانت تقوى وتشتدّ بهم، فإنّ قوّة المجتمع اليوم تكمن في امتلاك الأجهزة العسكرية والآلات والعتاد المناسب لهذا العصر، كذلك في رفع مستوى التعليم والمعرفة، وبسط العلم على تمام أفراد المجتمع، وتمتع الأفراد كلّهم بخبرات فنية، وعلوم عصرية، وكذلك مكانة هذا البلد وعلاقاته وحضوره في المحافل الدولية؛ فالمسألة تبدأ من امتلاك مضاعف للقدرة العسكرية، لتصل إلى إحراز القدرة الفكرية والعلمية الأكبر، وبين هذين الأمرين ترابط وعلاقة وثيقة محكمة.
وعليه، فالذي يبدو لنا أنه مع حصول هذا التحوّل في مقتضيات الزمان والمكان ومتطلّبات العصر، تحصل مصاديق جديدة ومختلفة عمّا مضى على مستوى الاستعداد وإحراز القوّة ضد الأعداء، وبحسب المحصّلة النهائية يكون هذا اللون من الاستعداد ضرورياً ولازماً.
وهنا يطرح التساؤل التالي: هل أنّ معيار القدرة اليوم يكمن في ركوب الخيل والرمي و.. أم أنّ ذلك يوزن بمقدار وجود خبرات ـ سيما شبابية ـ في مجال الإنتاج والإبداع العصريين، وكذا استفادتهم من العلوم المختلفة لهذا العصر، ومستوى الراحة والرفاهية التي يتمتّع بها أفراد المجتمع؟
في الحقيقة، كلّ بلد تنمو فيه الإمكانات العلمية والصناعية والإبداعية ـ سيما في أوساط الشباب ـ فهو ينعم بقدرات أكبر وأرفع، وعليه فهذه الضرورة التي تشير إليها الآية الكريمة تفرض تجهيز المسلمين أنفسهم بالإمكانات والآلات والأدوات اللازمة، كما ودعم أسباب الوصول إليها ومقدّماته المهمة، مثل إقامة المسابقات مع الأخذ بعين الاعتبار وجود جوائز قيمة بغية التشجيع والترغيب أو بهدف اكتشاف الطاقات والنخب؛ وعليه، هل يمكن استفادة جواز هذا النوع من المسابقات استناداً إلى هذه الآية التي تؤصّل مبدأ ثابتاً، يقضي بلزوم الاستعداد الدائم في مقابل الأعداء؟
على أية حال، ثمة روايات كثيرة ترخّص بمسابقات من قبيل ركوب الخيل، والرمي، وهي ـ مضافاً إلى ترخيصها أصل هذه المسابقات ـ تجيز الشرط والرهن والعوض فيها، ونحن ـ ونظراً لضيق المجال ووضوح وكثرة هذه الروايات الدالّة على الترخيص ـ نصرف النظر عنها، تماماً كما قلنا في بداية هذا البحث من أنّ الفقهاء العظام قد خصّصوا لهذا الموضوع كتاباً من الكتب الفقهية، وأسموه «كتاب السبق والرماية»، وقد تعرّضوا هناك بشكل مفصّل لذلك.
والذي نحن بصدده هنا هو الجواب عن هذا السؤال الهام وهو: في العصر الحاضر، ومع الأخذ بعين الاعتبار رواج مسابقات من نوع: حفظ القرآن وقراءته، رسم الخط، المسابقات الرياضية المختلفة، كرة القدم، كرة اليد، المصارعة، التكواندو، والمسابقات العلمية المتعدّدة، بين المسلمين، ما هو حكم هذه المسابقات؟ وما هو حكم المدخول المالي الذي تحصّله؟
نظرية تحريم المسابقة بعوض في غير آلات القمار، عرض الأدلّة وتقويم المستندات
سوف نعمد إلى بحث أدلّة القائلين بالحرمة هنا، ونثبت عدم تماميّتها، ثم نقدّم حلاً لهذه المسألة الهامّة.
أولاً: الدليل القرآني على مقولة التحريم
قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَْنْصَابُ وَالاَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:90 ـ 91).
والاستدلال بهذه الاّية يتمّ عبر تقريبين:
التقريب الأول: لكي يتضح وجه الاستدلال بالآية هنا لابدّ ـ بدايةً ـ من توضيح معنى كلمة «الأزلام» الواردة فيها، فالأزلام كلمة تطلق على القمار العربي، ويقصد بها الضرب بالقداح، وهي السهام، وتسمّى أيضاً: الأقلام، أما كيفية هذه اللعبة فكانت أن يشتروا جملاً جزوراً وينحرونه، ثم يقومون بتقسيمه إلى ثمانية وعشرين قسماً، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام، ويسمّى الأول منها الفذ، والثاني التوأم، والثالث الرقيب، والرابع الحلس، والخامس النافس، والسادس المسبل، والسابع المعلي، والثامن المنيح، والتاسع السنيح، والعاشر الرغد، ويعرف الجميع أن من بين الثمانية وعشرين سهماً هناك جزءٌ هو سهمٌ لفذ، وجزءان سهم توأم، وثلاثة أجزاء سهم رقيب، وأربعة أجزاء سهم حلس، وخمسة أجزاء سهم نافس، وستة أجزاء سهم مسبل، وسبعة أجزاء ـ وهو أعلى مستوى ـ سهم معلّي، أما الثامن والتاسع والعاشر فلا سهم لها، بعد ذلك يلعبون على طريقة الحظ: فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، فإذا خرج الفذ أعطي من خرج الفذ باسمه سهماً من الثمانية وعشرين، أما إذا خرج التوأم أعطي سهمين، وهكذا، أما لو خرج المنيح والسفيح والرغد فلا نصيب لمن خرجت باسمه، مع أنّ الذين خرجت هذه الأسهم بأسمائهم قد كانوا شاركوا في دفع قيمة الجزور، وهذا العمل يقع دائماً بين أشخاص عشرة، أما تعيين من هو صاحب الفذ أو صاحب التوأم أو.. فإنّ ذلك يرجع إلى القرعة ويعيّن بها(32).
إن الاستدلال بالأزلام يكون عبر إلغاء خصوصيّتها، ليعمّ الحكم مطلق المسابقات الواقعة بغير آلات القمار لكن مع الرهن والعوض، أي أنه لا الجمل ولا السهام لها خصوصية، بل المهم أنّ هناك من يفوز بالحظ فيأخذ من لحم الجزور، فيما لا ينجح الآخر في ذلك، أحدهما يملك شيئاً والآخر يتضرّر من شيء، وفي هذه المسابقات الأخرى يقع تماماً ما يقع في الأزلام، وعليه فلابدّ أن تكون تمام هذه المسابقات محرّمة.
إلاَّ أنّ هذا الاستدلال غير تام: وذلك:
أولاً: إنّ الأزلام قمار عربي، وإنما جاء الحديث عنه في القرآن الكريم على أساس شهرته وكثرة الابتلاء به آنذاك، وقد ركّز القرآن عليه، كونه نزل في المجتمع العربي وباللغة العربية، فذكره بوصفه أحد موارد القمار، تماماً كما هو صريح كلمات العلامة الطباطبائي؛ وعليه، ففي هذه الحالة، أي عندما تصبح الأزلام من عناوين القمار البارزة، فإنّ إلغاء الخصوصية للتعدّي إلى مطلق المسابقة واللعب حتى من دون أن يكون ضمن آلات القمار، غير صحيح.
ثانياً: على تقدير إلغاء الخصوصية، لابدّ من وجود تشابه بين ما نريد إلغاء الخصوصية عنه، وما نريد تسرية الحكم إليه، وعليه لا يمكن إلغاء خصوصية الأزلام التي كانت من آلات القمار وأدواته لتسرية الحكم إلى مسابقات الخط والرسم وأنواعه، وهو من نوع المسابقة في الأعمال والأفعال، أي أنه إذا كانت هنا آلات وأدواتٌ ما أمكن إلغاء الخصوصية، إلاَّ أنَّ ذلك لا يحسن في غير هذه الحال.
التقريب الثاني: التمسّك بعموم التعليل الوارد في الآية الكريمة، قال سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (المائدة: 91)؛ وذلك على أساس أنّ حالة العداوة والبغضاء موجودة في تمام ألوان الألعاب والمسابقات، والعلّة تعمّم، كما أنّها تخصّص، وعليه تحرم تمام المسابقات الواقعة عن رهان وعوض.
والإشكال الموجود في هذا الاستدلال هو أنّ الموجود في المسابقات ليس تلك العداوات الموجودة في الخمر والميسر، فالخمر ملازم للعداوة والبغضاء، فطبع الخمر العداوة، كما أنّ طبع الميسر البغضاء والحقد، ذلك أنَّ «من يعمل بالميسر لا يترك بمرّة»، أي أنّ من يلعب القمار لا يذره حتى يقامر على زوجته وأولاده، وقد أشير إلى ذلك في الروايات أيضاً(33). وبشكل طبيعي، يستدعي هذا النوع من الألعاب عداوةً وبغضاء، وهذا مغاير لقيام بعض الخطّاطين أو لاعبي كرة القدم بإجراء مسابقات.
وعليه، نحن نقبل عموم العلّة، إلا أننا لا نراها ـ أي العلّة ـ جاريةً في هذا النوع من المسابقات، وإذا ما تحقق في مسابقةٍ ما حصول هذه العلّة ـ بحسب الطبع ـ فستكون اللعبة محرّمةً حينئذ، وعليه فالاستدلال بهذه الآية الشريفة غير تام.
ثانياً: دليل السنّة على مقولة التحريم
أما الروايات التي استدلّ بها الشيخ فهي:
الرواية الأولى: خبر العلاء بن سيابة، قال: سمعته يقول: «لا بأس بشهادة الذي يلعبُ بالحمام، ولا بأس بشهادة صاحب السباق المراهن عليه: فإنّ رسول الله’ قد أجرى الخيل وسابق، وكان يقول: إنَّ الملائكة تحضُر الرهان في الخفّ والحافر والريش، وما سوى ذلك قمار حرام»(34). ودلالة هذه الرواية غير مخدوشة، فهي كالنصّ في تحريم المسابقات مع عوض، إلاَّ أنها ضعيفة السند، لجهالة العلاء بن سيابة(35).
الرواية الثانية: خبر العلاء بن سيابة: «.. إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان، وتلعن صاحبه، ما خلا الحافر، والخفّ، والريش، والنصل..»(36). وهذه الرواية ـ مثل سابقتها ـ ضعيفة السند أولاً، كما أن تنفّر الملائكة ولعنها ليس دليلاً على الحرمة، بل هو أعمّ منها.
يقول الإمام الخميني: «وأما لعن الملائكة، وكذا لعن الله تعالى، ولعن رسول الله’، فالظاهر منه أنّ العمل الموجب له محرّم، واستعماله في مورد الكراهة.. لا ينافي ظهوره في الحرمة، وقد ورد مادة اللعن قريب أربعين مورداً في القرآن الكريم، لا يكون موردٌ منها في أمر مكروه أو شخص مرتكب له، فراجع»(37).
إلاَّ أنَّ إشكالنا هنا في:
أولاً: إنَّ تمام الموارد التي تعلّق بها لعنٌ في القرآن، كانت قد أوضحت حرمتها بشكل جلي قبل تعلّق اللعن بها، لا أنّ حرمتها ثبتت بهذا اللعن المتعلّق بها.
ثانياً: إنّ معنى اللعن هو طلب البُعد من رحمة الله، ونحن ندّعي أن طلب البُعد من الرحمة الإلهية ليس دليلاً على الحرمة، بل قد ينسجم مع الكراهية، وشاهد ذلك ما جاء في بعض الروايات من وروده في مورد المكروهات، مثل: «لعن الله ثلاثة: آكل زاده وحده، وراكب الفلاة وحده، والنائم في بيته وحده»(38)، وكذا: «إنّ رسول الله’ لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور»(39)، و «لعن رسول الله النائحة والمستمعة»(40).
الرواية الثالثة: ما عن ياسر الخادم، عن الرضا (عليه السلام) قال: «سألته عن الميسر، قال: التَّفَلُ من كل شيء، قال: الخُبز والتَّفَلُ ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم وغيره»(41).
والرواية مرسلة، مضافاً إلى عدم ثبوت وثاقة ياسر الخادم(42).
الرواية الرابعة: صحيحة معمّر بن خلاد: «وكل ما قومر عليه فهو ميسر»(43).
الرواية الخامسة: عن أبي جعفر (عليه السلام)، قيل: «يا رسول الله! ما الميسر؟ فقال: كلّ ما تقومر به، حتى الكعاب والجوز»(44).
وقد بيّن الشيخ الأنصاري الاستدلال هنا على الشكل التالي: «والظاهر أنّ المقامرة بمعنى المغالبة على الرهن»(45). ووجه الاستدلال بهاتين الروايتين هو: أنه حيث أطلقت المقامرة على مطلق المسابقة على العوض والرهن، فهذا الحديث عام في الدلالة على الحرمة حينئذ.
إلاّ أنَّ ضعف هذا الاستدلال واضحٌ جداً؛ ذلك أنَّ المقامرة ظاهرة في المسابقات القائمة على العوض بآلات المقامرة نفسها، لا مطلق المغالبة، هذا فضلاً عن أنّ خبر جابر ضعيف السند بعمرو بن شمر الضعيف(46).
وطبقاً لما تقدّم ـ وعلى نحو الاختصار ـ استدلّ بعدة وجوه في هذه الروايات:
1 ـ عمومية القمار، وأنّ هذا النحو من المسابقات من مصاديق القمار، وقد قلنا بأنّ القمار يُطلق فقط على اللعب برهن لكن بآلات القمار.
2 ـ إنَّ لعن الملائكة دليلٌ على الحرمة، وقد رددنا هذا الادّعاء.
3 ـ برواية «حتى الكعب والجوز» يُستدلّ على أنّها في مقام بيان حرمة مطلق المسابقة بأيّ شيء، وقد أجبنا بأنّ أقصى ما تريد هذه الرواية بيانه أنَّ في المسابقات بمثل هذه الأشياء إشكال، إلاَّ أنَّه لا ربط لها بالأعمال والأفعال مثل: المصارعة، ورسم الخط، ومسابقات حفظ القرآن وقراءته، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الأخبار ضعيفة السند عموماً.
وقفة مع حديث «لا سبق»
أحد الأحاديث الأخرى التي استدلّ بها على حرمة هذا النوع من المسابقات هو الحديث الوارد من طرق أهل السنّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن طرق الشيعة عن الإمام الصادق، بصورة صحيحة، وهو: «لا سبق إلاَّ في خفّ أو حافر أو نصل..»(47).
وقبل الورود في هذا البحث، نجد أنفسنا مضطرّين لذكر مقدّمة، تجيب عن السؤال التالي: كيف تُقرأ مفردة «سبق» هنا؟ هل بسكون الباء أم بفتحها؟ وحيث كان لكلٍّ من الاحتمالين معنى مختلف ومفهوم مغاير للآخر، كما صار سبباً لاختلاف الآراء والفتاوى، لذا يستدعي الأمر المزيد من الدقة والتركيز والتأمل.
يقول الشهيد الثاني: «وربما رواه بعضهم بسكون الباء، وهو المصدر، أي لا يقع هذا الفعل إلاَّ في ثلاثة: فيكون ما عداها غير جائز، ومن ثمَّ اختلف في المسابقة بنحو الأقدام، ورمي الحجر، ورفعه، والمصارعة، وبالآلات التي تشتمل على نصل بغير عوض، هل يجوز أم لا؟ فعلى رواية يجوز، وعلى السكون لا، وفي الجواز ـ مع شهرة روايته بين المحدّثين ـ موافقةٌ للأصل، خصوصاً مع ترتّب غرض صحيح على تلك الأعمال»(48).
ويقول الفيض الكاشاني في كتاب «الوافي»: «والسبق إن قرئ بتسكين الباء أفاد الحديثُ المنع من الرهان في غير الثلاثة، وإن قرئ بالتحريك، فلا يفيد إلاَّ المنع من الأخذ والإعطاء في غيرها دون أصل المسابقة»(49).
أما صاحب الرياض، فيستفيد من هذا الحديث حرمة مطلق المسابقات إلا في الموارد الثلاثة، إنَّه يقول: «لعدم إمكان إرادة نفي الماهية، فتحمل على أقرب المجازات، وهو إما نفي جميع أحكامها التي منها الصحّة والمشروعية أو نفيها خاصّة»(50).
إذ طبقاً لهذا الكلام تحرم تمام المسابقات إلا الثلاث المذكورة.
وفي مقابل هذا الموقف المتشدّد، هناك نظرية مختلفة تماماً تُستنبط من هذا الحديث، ومستنبطُ هذا الرأي الدقيق هو الفقيه المحقق المغفور له الشيخ الأردبيلي، وتبعه الفاضل السبزواري. يكتب الأردبيلي يقول: «ولا دلالة في الخبر ـ على الوجهين ـ على التحريم، أما على الأول، فلما ذكر، ولأنه قد يقال: معناه أن لا لزوم أو لا يملك السبق والعوض إلا في هذه الثلاثة من بين الأسباق والأفعال التي يُسابق عليها: فلا يدلّ على تحريم الفعل والملاعبة مع العوض والرهانة أيضاً، بل لا يدلّ على تحريم العوض أيضاً»(51).
أما المحقق السبزواري، فيكتب حول هذا الحديث: «ولا يخفى أنّ الخبر الأوّل ـ على الوجهين ـ لا يتعيّن معناه فيما ذكره، بل يحتمل غيره: فإنّه على الفتح يحتمل أن «لا لزوم» أو «لا تملّك» أو «لا فضل» للسبق والعوض إلا في هذه الثلاثة من بين الأفعال التي يسابق عليها، وعلى هذا لا دلالة للخبر على تحريم الفعل والملاعبة مع العوض أيضاً في غير الثلاثة، بل لا يدلّ على تحريم العوض أيضاً، وعلى السكون يحتمل أن يكون معناه: لا اعتداد بسبق في أمثال هذه الأمور إلا في الثلاثة، أو لا فضل لسبق إلا في الثلاثة: فلا يكون دالاًّ على التحريم»(52).
وعليه، فطبقاً لنظرية الأردبيلي والسبزواري، لا تحرم المسابقة ولا العوض في غير الموارد الثلاثة المعيّنة في النصوص، والذي يبدو لنا أنّ هذا الرأي أقرب إلى الحقيقة؛ على أساس كونه أكثر مناسبةً لسهولة الدين وسماحته، كما جاء في الحديث النبوي: «بعثني بالحنيفية السهلة السمحة»(53)، كما أنّه موافق لأصالة الجواز والحلية، بعد بطلان أدلّة القائلين بالحرمة، ومعتضدٌ بالعمومات، مثل «المؤمنون عند شروطهم»(54).
والجدير ذكره أنَّ نفي مفهوم الفضل والكمال في الرواية «لا سبق» مؤيّد لما قيل في «لا صلاة لجار المسجد إلاَّ في مسجده»(55)، حيث لا ينفي ماهية ولا صحّة ولا جواز صلاة جار المسجد في غير المسجد، وإنما ينفي الكمال والفضل لهذا النوع من الصلاة.
كما يمكن الاستناد: لإثبات الجواز والحلية، إلى الآية الشريفة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاض مِنْكُمْ) (النساء: 29)، وذلك عبر إلغاء خصوصية التجارة، لتشمل تمام الأفعال والأعمال البشرية التي يمكن أن يحصل منها دخل مادي ولا تكون باطلةً عند العقلاء، إنَّ هذه المسابقات في كثير من الموارد لم تكن باطلةً: نظراً لوجود أغراض وأهداف عقلائية فيها، وعليه فتكون جائزةً شرعاً، سيما لو كانت تلك الأغراض من نوع سلامة القوى الفكرية والبدنية وتقوية عناصر التفكير عند الإنسان.
وينظر المغفور له الشيخ النجفي ـ صاحب الجواهر ـ إلى هذا الحديث من زاوية أخرى، ويخرج من ذلك باستنتاج مختلف، وحاصل كلامه أنّ «لا سبق» في صدد بيان عدم جواز سائر المسابقات ـ غير الموارد الثلاثة ـ بوصفها عقد مسابقة: ذلك أنّ الشارع المقدّس قد حصر عقد المسابقة في هذه الثلاثة، وعليه فإذا ما أراد شخص أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان كونها مسابقة فعمله خارج عن الحدّ الشرعي، أما إذا قام بها بعنوان آخر غير المسابقة، فلا دليل على الحرمة حينئذ، ولا يكون لهذا الحديث أيّ ربط بذلك.
يقول المحقق النجفي: «لكن ينبغي أن يُعلم أنّ التحقيق، الحرمةُ وعدم الصحّة إذا أريد إيجاد عقد السبق بذلك: إذ لا ريب في عدم مشروعيته، سواء كان بعوض أو بدونه، ولو للأصل، فضلاً عن النهي في خبر الحصر، أما فعله لا على جهة كونه عقد سبق، فالظاهر جوازه: للأصل، والسيرة المستمرّة على فعله في جميع الأعصار والأمصار من الأعوام والعلماء»(56).
ويترقَّى صاحب الجواهر بعد ذلك، فيقول: «بل لا يبعد جواز إباحتهما على العوض على ذلك، والوعد به مع استمرار رضاهما به لا على أنّه عوض شرعي ملتزم»(57).
لكنّنا نعلّق على هذا الكلام:
أولاً: وحقيقة الأمر أنّ مثل هذا الاستنتاج من هذا الحديث تعبّد لا وجه له، وفهم هذا التعبّد من هذه الرواية مشكل عرفاً، إن لم نقل بأنّه لغو، فما هو الفرق بين المصارعة بوصفها عقداً فتكون حراماً، وهي عينها لا بهذا الوصف مع اجتماع تمام خصوصياتها، فتكون جائزةً وصحيحة؟ إنَّ هذا النوع من الحالات إنما هو مواضعات عقلائية، ولا مجال للتعبّد في البناءات والتعاقدات والتبانيات العقلائية، إلاَّ مع معونة زائدة، فلا يمكن ـ بلا دليل ـ القول بحرمة شيء ما، مثل الخمر: لأنّ له مفاسد، أما بيع الترياك فهو حلال، لعدم مفسدة فيه، بل له فوائد.
ثانياً: عندما يكون الفرق بين الحلّية والحرمة في عقد السبق فقط فإنّ الناس بإمكانهم القيام بما يريدون دون إيقاع هذا العقد، وهذا ما يعني اللغوية.
وشبيه هذا الكلام قاله الإمام الخميني في باب الربا؛ إذ يقول: «.. إذا كانت الحكمة في حرمة الربا ما ذكر من المفاسد: لا يجوز التخلّص عنها في جميع الموارد، بحيث لا يشذّ منها مورد، للزوم اللغو في الجعل، فتحريم الربا لنكتة الفساد والظلم وترك التجارات وتحليله بجميع أقسامه وأفراده ـ مع تغيير عنوان ـ لا يوجب نقصاً في ترتب تلك المفاسد، من قبيل التناقض في الجعل أو اللغوية فيه..» (58).
وممّا قلناه حتى الآن، اتضح أنَّ المسابقات الواقعة بغير آلات القمار وأدواته إذا صدق عليها ـ عرفاً ـ أنّها من مصاديق القمار، وصدق عليها عنوانه، مثل التباري على وجهي العملة النقدية المعدنية، أو على خروج الزوج أو الفرد، والتي يلعب بها بهدف الربح والخسارة، فإنَّ هذا النوع من الألعاب حرام تكليفاً، كما أنّ المال الحاصل من هذه الألعاب لا يكون شرعياً أيضاً، وأما إذا لم يصدق القمار وعنوانه، إلاَّ أنَّه لم يكن هناك غرض عقلائي في البين، فهنا رغم عدم وجود حرمة تكليفية، إلاَّ أنّ ذلك موجبٌ للحرمة الوضعية، فلا يخلو التصرّف في المال الحاصل من إشكال؛ أما دليل هذه الحرمة الوضعية هنا، فهو قوله تعالى: (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)، ذلك أنَّ الموارد المذكورة تعدّ من مصاديق الباطل العرفي، وأمَّا أنَّه لا حرمة تكليفية: فلأنَّ مطلق اللهو واللعب ليس بحرام، والقول بحرمتهما مطلقاً يحتاج إلى دليل خاص.
وفي محصّلة الأمر، فإنّ اللعب والمسابقة بغير آلات القمار وأدواته مع العوض إذا لم يعدّ من مصاديق القمار وكانت له أغراض عقلائية.. جائز تكليفاً، كما أنه موجبٌ للملكية واللزوم، فلابدّ من دفع حقّ السبق للفائز حينئذ.
ثالثاً: دليل الإجماع على مقولة التحريم استدلّ على الحرمة هنا أيضاً بالإجماع، كما نقل ذلك السيد علي الطباطبائي صاحب كتاب رياض المسائل، إنَّه يقول: «فالمنع أظهر: لحجيّة الإجماع المنقول، سيما مع التعدّد، والاعتضاد بالشهرة و..»(59).
والإشكال الذي يرد على هذا الإجماع أنَّه إجماع في مسألة اجتهادية، وليس من البعيد نشوؤه من تلك المسائل الاجتهادية، وكما ثبت في محلّه، فإنّ الإجماع المدركي ليس بحجة، بل لابدّ من بحث مدرك الإجماع حينئذ، وقد أشار إلى ذلك الإمام الخميني بقوله: «لكن الاعتداد بها لا يجوز..» (60).
الإشكال الآخر الذي يسجّله الإمام الخميني أيضاً على هذا الإجماع هو: لعلّ نقل هذا الاجماع حصل من الاجتهاد في كلمات الأصحاب، بمعنى أنّه جرى استظهار الحرمة التكليفية من آرائهم وفتاواهم، والحال أنهم يريدون جميعاً ـ أو لا أقل بعضهم ـ الحرمة الوضعية: وعليه: فنقل هذا الإجماع أو عدم الخلاف بهذا الشكل لا اعتبار له (61).
رابعاً: صدق مفهوم القمارمن الأدلّة الأخرى للقائلين بالحرمة هنا هو أنَّ هذه الألعاب والمسابقات من مصاديق القمار وموارده، فعنوان القمار يصدق عليها أيضاً. والمستدلّ بهذا الدليل هو السيد علي الطباطبائي في كتاب رياض المسائل(62)، وتبعه في ذلك السيد الخوئي في كتاب «مصباح الفقاهة»: حيث قال: «صدق مفهوم القمار عليه بغير عناية وعلاقة، فقد عرفت أنّ الظاهر من أهل العرف واللغة أنّ القمار هو الرهن على اللعب بأيّ شيء كان»(63).
وهنا نقول:
أولاً: يظهر لكلّ متتبع أنَّ القمار حتى لو صدق ـ فرضاً ـ على اللعب بآلات القمار دون عوض، إلاَّ أنَّه لا يصدق هنا قطعاً: أمَّا من الناحية اللغوية ـ وقد نقلنا كلمات بعض اللغويين سابقاً ـ فإنَّ القمار لا يصدق سوى على اللعب بآلاته مع عوض(64)، وقد اعتبره بعضهم شاملاً للعب بها حتى من دون عوض، وشموله لها مشكلٌ جداً. أمَّا من الناحية العرفية فلم نجد من أهل العرف من أطلق على مسابقات مثل الركض، والعدو، والمصارعة، ورسم الخط، وحفظ القرآن وقراءته.. تعبير القمار.
ثانياً: إذا صرفنا النظر عن الإشكال الأوّل، وقبلنا حرمة المسابقة مع العوض والرهن بأيّ شيء، إلاّ أنَّه يرد إشكال آخر، وهو أنّ مسابقات مثل العَدْو، وكرة القدم، والمصارعة، تعدّ من الأفعال والأعمال، والحال أنّ التعريف الذي ذكر للقمار كان يتحدّث عن المسابقة بشيء أو آلة، ولعلّ تعبير: «حتى الكعاب والجوز»(65) مشيرٌ إلى ذلك، وشاهدُ أنّها ليست من موارد القمار، ما قاله الخوئي بعد ذلك:
«وإذا صدق عليه مفهوم القمار شملته المطلقات الدالّة على حرمة القمار والميسر والأزلام، وحرمة ما أصيب به من الأموال، غاية الأمر أنَّ الموارد المنصوصة في باب السبق والرماية قد خرجت عن هذه المطلقات»(66).
ومحل الاستشهاد هو أنّ لسان أدلّة حرمة القمار يأبى التخصيص، فهذه الشدّة والحدّة في الحرمة لا تحتمل التخصيص، تماماً كما قلنا، من أنّ آية: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَْنْصَابُ وَالاَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة: 90)، تدلّ على الحرمة من وجوه مختلفة، ولعلّه يندر وجود آية تدلّ على حرمة شيء بهذه الشدّة والتهويل والنفور، فهل هذا اللسان، وهذه الشدّة في لحن الخطاب، يقبلان التخصيص، حتى نقول: إنَّ القمار حرام حرمة شديدة، لكنه في الموارد الثلاثة لا إشكال فيه؟!
4 ـ المسابقة بغير آلات القمار بلا عوض ورهان
يقول السيد أحمد الخوانساري حول هذا النوع من المسابقات: «والأكثر ـ على ما حكي ـ على التحريم، بل ادّعي الإجماع عليه، والظاهر أنَّ مدركهم عموم النهي إلا في الثلاثة: الخفّ، والحافر، والنصل، ولفظ السبق في الرواية يحتمل أن يكون محرّكاً بفتح الباء، وأن يكون بالسكون، فعلى الأوّل يرجع إلى عدم تملّك العوض والحرمة الوضعية، وعلى الثاني يرجع إلى الحرمة التكليفية بالنسبة إلى نفس الفعل، ومع الاحتمال لا مجال للحكم بالحرمة، بل مع احتمال السكون يمكن دعوى الانصراف إلى صورة المسابقة مع العوض، ولا مجال للاستدلال بحرمة اللهو والباطل، وقد يتعلّق بهذه الأفعال غرضٌ صحيح موردٌ لتوجّه العقلاء به، كحفظ الصحّة وتقوية البدن في المصارعة»(67).
اتَّضح مما تقدّم، حكم الصورة الرابعة، وهي المسابقة واللعب بغير آلات القمار ووسائله دون عوض ورهان، ذلك أننا نصدر حكم الجواز هنا بالأولوية، بلا حاجة إلى استئناف بحث: إذ إنَّ الأدلّة التي استدلّ بها على الحرمة هي عين أدلّة القمار والميسر، وهي تصدق على الصورة الثالثة بشكل أسهل من صدقها على الصورة الرابعة، أو لا أقلّ بمؤونة أقل، والحال أننا لم نقبلها هناك بل رددناها، كما أنّ الاستدلال باللهو واللعب مردودٌ أيضاً، وذلك:
أولاً: إنَّ الكثير من هذه الأفعال لا يصدق عليه ـ لا واقعاً ولا عرفاً ـ أنَّه من مصاديق اللهو واللعب، سيما إذا كانت فيها أغراض عقلائية، مثل المسابقات الرياضية المرفقة بهدف السلامة والصحّة، وتقوية الطاقات الفكرية والبدنية، والحيلولة دون الإدمان على المخدرات ومفاسد أخرى أيضاً.
ثانياً: لو سلّمنا صدق عنوان اللعب واللهو عليها، فلا يمكن القول بأنّ كل لعب ولهو حرام، فهذا ما يحتاج إلى دليل خاص، وإلا كانت الكثير من الأعمال التي يقوم بها الإنسان محرّمة.
نتيجة البحث
إنَّ الدراسة المعمّقة والدقيقة للآيات والروايات أوصلتنا إلى أنَّ المورد الوحيد المحرّم من المسابقات هو اللعب بآلات القمار وأدواته برهان وعوض ومقامرة، وبهدف الربح والخسارة و.. إنَّ أدلّة حرمة القمار، سواء منها الآيات أو الروايات، لا تشمل سائر أشكال اللعب والمباراة والمسابقة، أي أنَّ اللعب بآلات القمار دون عوض ورهان، وكذا اللعب بغير آلات القمار، سواء عن عوض ورهان أو من دونه، محكومة كلّها بالرخصة والجواز: ذلك أنَّ مجموعة الآيات والروايات التي استخدم فيها لفظ «القمار» و«الميسر» لا تطلق ـ عرفاً ولغةً ـ إلاَّ على المورد الأول، ألا وهو اللعب بآلات القمار عن مقامرة ورهان.
وعمدة الدليل هنا، هو تلك الروايات الواردة في «كتاب السبق»، حيث تحرّم عموم المسابقات عدا الثلاث المستثناة فيها، وقد قلنا: إنَّ هذه الروايات، أقصى ما تدلّ عليه نفي أفضلية سائر المسابقات.
من هنا، وانطلاقاً من وجود أغراض عقلائية وأهداف مفيدة كثيرة في هذه المسابقات، مثل نشر وإشاعة الثقافة الإسلامية على الصعيد الدولي والعالمي، وتربية روح الشهامة، وكشف الطاقات النخبوية المستعدّة، والحيلولة دون مفاسد عديدة، كالإدمان على المخدرات وارتكاب الفحشاء.. لذا كان إدراج هذه الألعاب في عداد اللهو واللعب المنهي عنه في الشريعة بعيداً عن الصواب والصحّة.
الهوامش:
________________________
(*) أحد مراجع التقليد الشيعة، له آراء فقهية عديدة مخالفة للمشهور، سيما في فقه المرأة.
(1) فرهنك معين 2: 1818.
(2) ابن منظور، لسان العرب 10: 151.
(3) المصدر نفسه 10: 152.
(4) الأنصاري، المكاسب المحرّمة: 47.
(5) الخوانساري، جامع المدارك في شرح المختصر النافع 3: 27.
(6) الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 368.
(7) الطريحي، مجمع البحرين 3: 463.
(8) الأنصاري، المكاسب المحرمة: 47.
(9) الحلي، منتهى المطلب في تحقيق المذهب 2: 1012، كتاب التجارة.
(10) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 14: 176.
(11) الأنصاري، المكاسب المحرّمة: 47.
(12) الخوانساري، جامع المدارك في شرح المختصر النافع 3: 27.
(13) الحلي، منتهى المطلب في تحقيق المذهب 2: 1012، كتاب التجارة.
(14) ابن منظور، لسان العرب 5: 298.
(15) الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن: 631.
(16) العاملي، وسائل الشيعة 17: 325: وتفسير العياشي 1: 105.
(17) العاملي، وسائل الشيعة 17: 322.
(18) الأنصاري، المكاسب المحرّمة: 47.
(19) الكليني، الكافي 5: 123، باب القمار والنهبة.
(20) المصدر نفسه.
(21) المصدر نفسه: 124.
(22) الخوانساري، جامع المدارك في شرح المختصر النافع 3: 28.
(23) الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن: 631.
(24) الأنصاري، المكاسب المحرّمة: 47 ـ 48.
(25) لا نتعرّض هنا لآية: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}: لأننا لم نعتبرها دليلاً حتى على القسم الأوّل، فضلاً عن الثاني، لظهورها في حرمة أكل المال، لا في حرمة الفعل، وهو اللعب ونحوه.
(26) الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن: 631.
(27) المصدر نفسه: 628: والكشاف 1: 261.
(28) الخوانساري، جامع المدارك في شرح المختصر النافع 3: 28.
(29) الأنصاري، المكاسب المحرّمة: 48.
(30) الطريحي، مجمع البحرين 3: 463.
(31) الإمام الخميني، المكاسب المحرّمة 2: 20: والحراني، تحف العقول: 333.
(32) الطباطبائي، الميزان 2: 192.
(33) الكليني، الكافي 5: 122.
(34) العاملي، وسائل الشيعة 27: 413.
(35) السيد الخوئي، معجم رجال الحديث 11: 172.
(36) العاملي، وسائل الشيعة 27: 413.
(37) الإمام الخميني، المكاسب المحرّمة 2: 33.
(38) العاملي، وسائل الشيعة 5: 333.
(39) النوري، مستدرك الوسائل 2: 452.
(40) المصدر نفسه: 453.
(41) العاملي، وسائل الشيعة 17: 167.
(42) المامقاني، تنقيح المقال 3: 307.
(43) العاملي، وسائل الشيعة 5: 323.
(44) الكليني، الكافي 5: 122.
(45) الشيخ الأنصاري، المكاسب المحرّمة: 48.
(46) الخوئي، معجم رجال الحديث 13: 106.
(47) العاملي، وسائل الشيعة 13: 248.
(48) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 6: 70.
(49) الكاشاني، الوافي 15: 151.
(50) الطباطبائي، رياض المسائل 10: 240.
(51) الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 10: 168.
(52) السبزواري، كفاية الأحكام 1: 718.
(53) الكليني، الكافي 5: 494.
(54) العاملي، وسائل الشيعة 21: 276.
(55) المصدر نفسه 5: 194.
(56) النجفي، جواهر الكلام 28: 221.
(57) المصدر نفسه: 222.
(58) الخميني، كتاب البيع 2: 552 ـ 553.
(59) الطباطبائي، رياض المسائل 10: 238.
(60) الإمام الخميني، المكاسب المحرّمة 2: 23.
(61) المصدر نفسه.
(62) الطباطبائي، رياض المسائل 10: 239.
(63) الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 375.
(64) الطريحي، مجمع البحرين 3: 463.
(65) الكليني، الكافي 5: 122.
(66) الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 375.
(67) الخوانساري، جامع المدارك 3: 30. التاريخ : 2008/07/25 تصفّح: 13872