موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: بمناسبة حلول شهر محرم الحرام عام 1428
خطاب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي (دام ظلّه الشريف)بمناسبة حلول شهر محرم الحرام عام 1428
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن على عتبة الدخول في شهر محرم الحرام وبداية السنة القمرية، شهر استشهد في اليوم العاشر منه شخص كان يحمل معه جميع وسائل النجاة، فقد كان مصباح الهداية وسفينة النجاة، وإذا كان ابو عبد الله سفينة النجاة فباقي الأئمة كذلك. يستلهم المرحوم الشيخ جعفر التوستري هذا المعنى ويقول: الائمة جميعهم سفن للنجاة تمكنها أن تصل السواحل بسلام لكن سفينة الامام الحسين في لجج غامرة وترسو في السواحل وتنجى الانسان بسهولة، كما أن جميع الائمة أبواب الجنة، لكن الباب الذي يدعى بباب الامام الحسين واسع يدخله الكثير من الناس.
يمكن للامام الحسين أن يدخل الكثير في الجنة لا من خلال البكاء والابكاء وإقامة العزاء واللطم وتعظيم الشعائر الحسينية فحسب بل حتى بالتباكي، فباب الامام الحسين باب متميّز يختلف عن باقي الأبواب.
إن التوسُّل بهذا الامام يحظى بخصوصيّة، فأيٌّ منا يمكنه أن يتوسّل به ويوفّر لنفسه وسيلة من وسائل النجاة.
لنتذكّر أن التعزية للامام الحسين متجذّرة في تاريخ البشرية، فإنا قد قرأنا هذا في قصّة النبي آدم (ع) فقد ورد فيها أن جبرئيل عندما نزل على آدم ليعلّمه الأسماء الخمسة عندما وصل إلى اسم الامام قال: حزنت دون أن أدري سبب ذلك، فقال فيه وفي أهل بيته: صغيرهم يميته العطش، وكبيرهم جلده منكمش. وهذا يعني أن التعزية للامام قد بدأت منذ بدأ خلق آدم(ع) وليست أمراً حديثاً، لكن الذي استحدث في عهد الامام الصادق (ع) وبعده من الأئمة ثم العلماء والمتشرعين والمحبين له حتى هذا اليوم هو التجمّع لذكره والتعزية الجماعية لأجله واستغلال هذه الفرصة لبيان بعض قضايا الاسلام ومسائله بنحو النثر أو الشعر.
جاء في التاريخ أن الامام الرضا (ع) ما كان يشاهد مبتسماً عند دخول شهر محرم الحرام، كما ورد هذا في حالات الامام الصادق(ع) أيضاً.
التعزية من التقاليد التي ورثناها عن الائمة والتي علمونا من خلالها حفظ الاسلام والإعراب عن السخط تجاه الظلم والظلمة في أي زمان أو مكان كانوا.
يقول الشهيد المطهري (قدس سره) : البكاء يستهدف التضامن مع المظلومين والإعراب عن حبنا لهم ولكلِّ حسن، ومن أحسن من الامام الحسين؟ ومن أحسن من أنصاره؟ إن الحسين سيد الشهداء وأصحابه سادة الشهداء.
يتحطّم القلب بمشاهدة جنايات بني اميّة، يتحطّم قلب الانسان برؤية المظلوم ويتعاطف معه، وهذا قد يتجلّى بالبكاء أو بأنحاء اُخرى وقد لا يتمالك الانسان نفسه في هكذا حالات فتصدر منه أعمال عظيمة، وما ورد في زينب (ع) فنطحت جبينها بمقدم المحمل لا يعني أنها كانت غير ملتفتة إلى ما فعلته، فقد استغلّ البعض هذا وقال بأنه يكشف عن كونها امرأة عالمة غير معلمة، بينما هي أمرأة تخرّجت من مدرسة أمير المؤمنين، وكيف لامرأة مثلها أن ترى رأس أخيها وتتمالك نفسها؟ بل هذا من افتخاراتها .
علينا أن نوظِّف العواطف المرهفة تجاه الامام الحسين في الطريق الصحيح، فنحللها ونحافظ عليها. علينا إحياء الأحاسيس الجائشة ضد الظلم والمتضامنة مع المظلومين.
قد يؤذي الانسان نفسه في مراسم تعزية الامام الحسين، ولا يصدق عليه قاعدة ( لا ضرر ولاضرار في الاسلام) فان القاعدة تفقد معناها في هذه الموارد، فاذا آذيت نفسي بسبب تذكر مصيبة الزهراء(س) أو الامام الحسين لا يكون الإيذاء مخالفاً للشرع، فان حبّ الحسين يجنُّ الانسان وينسيه نفسه.
ومن الناحية الفقهية فان الموضوع يستدعي الدراسة ذات العلاقة، ولا أريد الدخول في هذا الموضوع لكني اريد القول بأن هذا من نابع من الأحاسيس والعواطف التي لا ينبغي صدّها والحول دون إبرازها، فلندع الناس الطيبين ان يبرزوا عواطفهم ، فلندعهم يتباكون، فباب أبي عبد الله باب واسع (( من بكى أو أبكى أو تباكى فله الجنة)).
في البكاء لاجل مظلومية هذا الامام ثواب ، فالبكاء سيرة أهل البيت عليهم السلام. وقد أشار الامام الخميني إلى ضرورة حفظ هذه السيرة والتقاليد. ولا علاقة لهذه الامور بالتنوير، وهل الانسان لا يكون منوّراً إذا حافظ على هويته الدينية؟ بل انّ حفظ القيم الدينية والالتفات إلى القضايا المعاصرة هو ذات التنوير، و هل تجدون شخصاً أكثر تنويراً من الامام الخميني الذي كان يمعن النظر في الفقه وفي القضايا السياسية ومن جميع الأبعاد، كان في النجف يقرأ واقفاً الزيارة الغديرية، التي وردت عن الامام علي النقي، وقد كانت تطول ساعة تقريباً. وهذا الامام نفسه كان يدعو إلى حفظ التعزية التقليدية ويرى أن ما لدينا من انجازات هي نتيجة لمحرم وصفر.
علينا الاهتمام بالتعزية لكن علينا في الوقت ذاته أن ننتبه إلى ما نقوله في هذه المراسم وأن نقرأ مستويات المخاطبين وبخاصة الشباب، وعلى الفصحاء والعلماء والمفكرين وأصحاب القلم والمتنوّرين من الجامعة والحوزة أن يبيّنوا دروس حادثة كربلاء لكي يطلَّع الناس على عظمة الحادث وبطلها الذي لا نظير له.
في يوم من الأيام طرحت في هذا المكان المقدس أحد دروس كربلاء، وهو الوفاء والاطمئنان في نهضة عاشوراء، واريد اليوم طرح موضوع آخر، وهو أن قوام هذه النهضة هو المرأة والرجل، فكلاهما خلقا هذا الحادث وكان الدور لكلٍّ منهما، أحدهما من خلال الاستشهاد والآخر من خلال السبي، فاذا شاء الله أن يرى الحسين شهيداً شاء كذلك أن يرى زينب وام كلثوم وسكينة ورباب سبايا .
ليس اعتباطاً أن يقال: لولا سبي زينب لفقدت شهادة الامام الحسين قيمتها، فإن السلطة الإعلامية لبني امية ما كانت تسمح لاحد سماع خبر شهادة الامام، وإذا سمعه قالوا له: مات بعد مروقه وقيامه ضد الحكومة، فكان دور زينب وام كلثوم وبنات الامام الاخريات في إبلاغ خبر الشهادة إينما وصلوا، مستخدمات أبلغ الطرق لخطاب الوجدان العقلي والعاطفي. انظروا إلى ماجاء في خطبة زينب في سوق الكوفة: ((يا أهل الغدر والخطر، ياأهل الكوفة، أما تدرون أي كبد لرسول الله أفرضتم)) فقد جمعت بين العقل والعاطفة في آن واحد.
وأثارت في مجلس يزيد بن معاوية قضية تاريخية فقالت: ((من العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك واماءك وبنات رسول الله سبايا))؟ تشير بذلك إلى فضل رسول الله على بني امية في إدخالهم الاسلام وتحضيرهم بعد ما كانوا جاهليين، وهي بهذا تطلق شعار العدالة وحقوق البشر. فلاحظوا جمال خطابها الذي جمعت فيه بين العقل والعاطفة والتاريخ.
في حادث كربلاء تضامن الرجال والنساء، فكان زهير بصحبة زوجته، وحبيب ابن مظاهر بحصبة غلامه، فقد أعطى حبيب حصانه إلى غلامه ودعاه لنصرة أبي عبد الله، وقد كانت المدينة تحت سيطرة عوامل بني امية وعبيد الله ابن زياد، وما كانوا يسمحون لاحد في الخروج منها، الغلام انتظر حبيب وخاطب حصانه أن لا يحزن إذا لم يأتِ مولاه، فانّه سيذهب لنصرة أبي عبد الله. وهذا من حصيلة المدرسة الحسينية، يالها من مدرسة.
إذا تصفحنا التاريخ تلقينا درساً آخر، وهو تقدُّم النساء على الرجال في دفن شهداء كربلاء، فإن انسانية النساء بمستوى انسانية الرجال.
قد لا يرتاح البعض من هذا، مع أن البحوث الفقهية ليست مجالاً للمزاجات، نحن لم نقل بعبادة الأصنام بل قلنا بتساوي الرجل مع المرأة في الإنسانية. ففي حادثة كربلاء خاطبت نساء بني أسد رجالها إنهم إن لم يهبوا دفن الشهداء خوفاً فنحن سنذهب لدفنهم، وبذلك حرّضن الرجال على الخروج، وهذا الحركة تعدُّ الأساس في تفكيرنا الديني والفقهي والأخلاقي والاجتماعي.
رفضت رباب الجلوس تحت الظل؛ لأنّها كانت تشاهد زوجها تحت أشعة الشمس، ويقال: إنها اقامت مأتماً تحت أشعة الشمس لمدة عام في كربلاء. هذا ما ينبغي قوله على المنابر.
رغم هذا يقال في النساء ما لا ينبغي قوله، فيقال فيهن: غير وفيات، وغير كاملات ولا يدركن الأشياء الكثيرة، ينبغي الوقوف أمام هؤلاء الذين يطلقون كلمات لا يعونها.
ينبغي عرض درس رباب، التي رفضت الظل خلال إقامة مأتم مدة عام، في الفقه، ولا ينبغي حصر هذا الدرس على المنابر فحسب ثم نسيانه.
هل من الصحيح أن نعتمد الرواية التالية: ((اخِّروهن كما أخّرهن الله)) يحتمل وضعها ولم تنقل عن الإمامية؟
يستفيد البعض من هذه الرواية عدم صحة صيرورة المرأة قاضياً ومرجع تقليد وحاكماً ورئيساً للجمهورية؛ لأن الله أخَّرهن فلا ينبغي تقديمهنَّ. ولا نعلم ماذا يفعلون بمفهوم ( المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات والمصدقين والمصدقات)؟ لماذا ينبغي قبول روايه لم تنقل عن طريقنا وفاقدة للسند حتى لدى العامة التي وردت عنهم؟ لماذا نمجِّد زينب وأم كلثوم في عشرة محرم وننسى ذلك بعد العشرة ونقول بتأخير النساء وانهنَّ موجودات فاقدة للقيمة ولهن نصف الدية؟ نعوذ بالله.
الدرس الآخر لحادث كربلاء هو رعاية أبي عبدالله (ع) بنحو عملي لحقوق البشر والحيوانات، فعندما وصل منزل (ذي حسم) أمر بالسماح لجنود العدو في شرب الماء كما أمر بإرواء خيولهم وبنحو تدريجي لكي لا تتألم، ويا ترى في أي بقعة من العالم نجد من ينظر إلى عدوه بهذا النحو؟
الدرس اخر لهذه الواقعة هو الشفافية مع الجميع، فلم يستخدم ابو عبدالله الحيلة والمكر والكذب في تعامله مع الآخرين، فقد صرّح لاصحابه بكل ما ينبغي قوله، وعلينا جميعاً أن نكون واضحين في حياتنا العائلية والاجتماعية مع الأهل والأصدقاء وفي المدرسة والحكومة والسياسة والاقتصاد وفي كل مكان حتى لو كلفنا ذلك غالياً.
في اليوم السابع من محرَّم صرّح الامام: ((من كان باذلاً فينا مهجته فليرحل معنا فاني راحل مصبحاً إن شاء الله)) فهو يكشف بذلك أن الشهادة هي نهاية المطاف ولا مقام ولا رئاسة بعد المعركة.
الوضوح والشفافية اول خطوة خطاها الامام في حركته. وفي طريقهم إلى الكوفة شاهدوا رجلاً قادماً من هناك سألوه عمّا يجري فيها، فسأل الامام ما إذا كان يريد الجواب أمام الجميع أم بنحو خاص، فطالبه بالجواب أمام الجميع، لأنه لا يخفي شيئاً عن أصحابه ( السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الارواح التي حلت بفنائك)
حكى الرجل للأصحاب ما جرى على مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، وهذا الخبر بالنسبة إلى مقاتل بعدُّ ثقيلاً ومتعباً، لكنه لم يثنهم عن التقدُّم في هذا السبيل. ثمّ دعى بنت مسلم ابن عقيل وأبلغها خبر شهادة والدها بلطف وواساها وطلب منها اعتباره مكان أبيها وعلي الاكبر مكان أخيها.
فلنقارن حياتنا بحياة أبي عبد الله، لا أقول إن بامكاننا أن نصبح كهذا الامام لكني اقول بامكانية التشبّه به قليلاً، فلنكن واضحين، فلنقف أمام منكرات المجتمع، فإن الامام سعى للوقوف أمام منكرات مجتمع ذلك اليوم. فلنتذكر أن التضخّم والفساد الاقتصادي في هذا البلد نوع منكر، والفقر البؤس والادمان على المخدرات نوع منكر ينبغي صدّه وبخاصة في هذا الشهر الحرام، ولا ينبغي حصر المنكر في التخلّف عن الحجاب، والمعروف بالصوم والصلاة فقط، لا شك أن التخلف عن الحجاب منكر وهو إثم لكن المنكرات لا تنحصر به، فإن الفقر والإدمان على المخدرات والبروقراطية و... كلها منكرات ينبغي تغييرها.
ولا أريد القول بوجود أو عدم وجود هذه الامور بل اقول: ( ما على الرسول إلاّ البلاغ المبين).
فلنكن صادقين وشفافين كما كان أبو عبد الله ليلة عاشوراء، قد يكون البعض في الجهة المقابلة للثورة والآن يصبحون أكثر ثورية مني... فلتكن حركتنا في الحياة عن بصيرة، وهذا الخطاب يتوجّه لجميع البشر.
الحكومات تزول لكن الحقوق تبقى، الحسين وشفافيته يبقى، الامام الخميني(س) وأنصاره الحقيقيون باقون ( أمّا الزبد فيذهب جفاءاً) .
افكر أحياناً بما نالته وتناله الثورة من صفعات، وأعجب من الصمود بفضل بعض أنصار الامام والثورة ووعي الشعب، ولا تأثير لهذه الصفعات مع وجود الديمقراطية، وقد شاهدتم في الانتخابات الأخيرة لمن صوَّت الشعب وأنه طالب بأيٍّ من الشخصيات وأبّد أيّاً منها. فلنتعلم الشفافية من الحسين في ليلة عاشوراء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
25/ذو الحجة/ 1427 التاريخ : 2007/01/15 تصفّح: 16780