|
حاشية على كلام السيّد في مدارك الأحكام
قال في المدارك : « اختلف الأصحاب في هذه المسألة ، فقال الشيخ(رحمه الله) في النهاية : ولا يجوز لها ترك الصلاة ولا الصوم إلاّ في الأيّام التي كانت تعتاد فيها الحيض . ثمّ قال بعد ذلك : ولا يكون حكم نفاسها أكثر من عشرة أيّام. ونحوه قال في الجمل والمبسوط »[1] ، إلى قوله ـ : « بحمل الأخبار الواردة بالثمانية عشر على غير المبتدأة »[2] . * . جاء في حاشية المخطوطات : «ويؤيّده أ نّ كلام الشيخ في النهاية والتهذيب[3] صريح في الاستظهار إلى العشرة ، وكذا المحقّق في المعتبر[4] » . منه(قدس سره) . قوله : « ولا يجوز لها ترك الصلاة ولا الصوم » : هذه العبارة إنّما أوردها الشيخ في حكم المستحاضة[5] ، ولا تعلّق لها بحكم النفساء أصلا . قوله : « ونحوه قال في الجمل والمبسوط » : ظاهره أنّ عبارة الجمل والمبسوط صريحة في ذلك كعبارة النهاية ، وأنت خبير بأنّ الشيخ في المبسوط[6] إنّما نسب القول بالعشرة إلى أكثر الأصحاب ، وليس في ذلك تصريح باختياره له ، وإن كان الظاهر من نسبة هذا القول إلى المشهور ، وحكاية القول بالثمانية عشر عن قوم منهم على وجه يشعر بتمريضه كون المشهور قولا له . قوله : «وقال المفيد(رحمه الله) » : حكى ابن إدريس في سرائره[7] أنّ المفيد رجع عن ذلك في كتاب أحكام النساء ، وفي شرح كتاب إعلام الورى ، وذكر العلاّمة في التذكرة[8] أنّ الثمانية عشر هو أحد قولي المفيد ، وأ نّه في القول الآخر موافق للمشهور ، ولا يعلم منه ترتيب القولين . قوله : « ثمّ قال[9] : وقد جاءت الأخبار » إلى آخره : قيل : إنّ هذا كلام الشيخ ، وإلاّ لزم التنافي بين أوّل كلام المفيد وآخره ، والحمل على الرجوع مع الاتّصال بعيد جدّاً [10] . وقد نسب هذه العبارة إلى الشيخ جماعة ، منهم الشهيد في الذكرى[11] ، والمحقّق الشيخ علي في شرح القواعد[12] ، والشهيد الثاني في شرح الإرشاد[13] . وظاهر ابن إدريس[14] حيث حكى رجوع المفيد في الكتابين المذكورين أ نّها من كلام الشيخ ، لكنّ العلاّمة في المختلف[15] صرّح بأ نّها من كلام المفيد ، وتبعه صاحب المدارك[16] وغيره[17] ، وهو الظاهر؛ لتصريح بعضهم بوجود هذه العبارة ، ولأنّ عليها علامة المتن في نسخ التهذيب ، ولأنّ الشيخ قال بعد هذه العبارة متّصلا بها : « المعتمد في هذا أ نّه قد ثبت أنّ ذمّة المرأة مرتهنة بالصلاة والصيام »[18] ، بدون الواو ، على وجه يقتضي أ نّه أوّل كلامه ، فالتنافي بين الكلامين غير لازم ؛ فإنّ كلامه الأوّل محمول على مجرّد النقل من كلام الأصحاب بلا اعتماد ، والثاني على الحكم والفتوى ، وعلى هذا فللمفيد في المسألة قول واحد وهو المشهور بين الأصحاب ، وليس له فيها قولان على ما ذكره بعضهم[19] ، إلاّ أن يكون قد ذهب إلى الثمانية عشر في غير كتاب المقنعة ، ولم يثبت . وربما كان في قول العلاّمة في التذكرة : « أنّ الثمانية عشر هو إحدى قولي المفيد »[20] ـ مع تصريحه في المختلف[21] بأنّ العبارة المذكورة من كلامه ـ دلالة على ذلك ، فتأمّل . قوله : « وقال المرتضى » : حكى ابن إدريس في سرائره[22] عن السيّد رجوعه عن هذا القول في مسائل خلافه ، وأ نّه قال فيه : « عندنا أنّ الحدّ في نفاس المرأة أيّام حيضها التي تعهد ، وقد روي أ نّها تستظهر بيوم أو يومين »[23] . وظاهر قوله : « عندنا » إجماع علمائنا على ذلك . قوله : « وقال ابن أبي عقيل » إلى آخره : لا يخفى أنّ هذا الكلام متدافع الظاهر ، وذلك أنّ قوله : « وأيّامها عند آل الرسول (عليهم السلام)أيّام حيضها »[24] ، يقتضي أن لا يزيد النفاس عن أطول العادات في الحيض ـ أعني عشرة أيّام ـ وذلك ينافي قوله : « وأكثره أحد وعشرون يوماً »[25] . ثمّ إنّ حكمه عليها بالصبر ثمانية عشر يوماً مع استمرار الدم إن كان لكون الثمانية عشر أكثر النفاس فتلك مدافعة اُخرى ، ومع ذلك فيرد عليه أ نّه لا معنى للاستظهار حينئذ ؛ إذ لا استظهار بعد مضيّ الأكثر ، وإلاّ فما الوجه في التحديد بالثمانية عشر في قوله : « وإن لم ينقطع صبرت ثمانية عشر يوماً »[26] ، وأيّ فرق بين ذلك وبين أن يقال : صبرت سبعة عشر أو تسعة عشر أو غير ذلك . ويمكن أن يقال : إنّ ذلك إشارة إلى الجمع بين الأخبار المتضمّنة للتقديرات الثلاث ، أي بحملها على اختلاف أحوال النفساء في قلّة الدم وتوسّطه واعتداله وأكثريّته ، كما يشعر به قوله : « وإن كانت رأت الدم[27] صبرت ثلاثة أ يّام »[28] . ويحتمل أن يكون إشارة إلى اختلاف مراتب الحكم في الوضوح والخفاء ؛ فإنّه إذا انقطع دمها في تمام أيّام حيضها كان نفاسها ذلك محقّقاً مقطوعاً به ؛ لموافقته للتحديدات الثلاثة ، بخلاف ما إذا انقطع على الثمانية عشر أو تجاوز عنه ، فإنّه مع الانقطاع يخالف التحديد الأوّل خاصّة ، ومع التجاوز يخالفه والثاني . واعلم أنّ تحديد الأكثر بالواحد والعشرين على ما ذهب إليه ابن عقيل ممّـا لم نجده في كتب الأحاديث المعروفة . قال الشهيد في الذكرى : « إنّه ربما تمسّك بما رواه الشيخ في الصحيح ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)يقول : « تقعد النفساء تسع عشرة ليلة ، فإن رأت دماً صنعت كما تصنع المستحاضة »[29] ، مع ما روي : أ نّها لا بأس أن تستظهر بيوم أو يومين[30] »[31] . وفيه : أوّلا : أنّ الخبر المتضمّن للاستظهار المذكور هو ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام)عن النفساء كم تقعد ؟ فقال : « إنّ أسماء بنت عميس أمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تغتسل لثماني عشرة ، ولا بأس بأن تستظهر بيوم أو يومين »[32] . ومقتضاه أنّ أيّامها ثمانية عشر ، فإذا استظهرت بيومين كان عشرين يوماً . وأخذ «الأيّام»[33] من ذلك الخبر . والاستظهار من هذه الرواية مع كون الضمير في قوله : « تستظهر » راجعاً إلى المرأة المحكوم عليها بقعود ثمانية عشر ، لا وجه له . وثانياً : أنّ ظاهر صحيحة ابن سنان سيّما مع قوله : « فإن رأت دماً صنعت كما تصنع المستحاضة » أ نّ أكثر النفاس تسع عشرة ، ولا معنى للاستظهار مع ذلك ؛ إذ لا استظهار بعد الأكثر . وقال في المعتبر بعد نقل عبارة ابن أبي عقيل المنقولة في المدارك : « وقد روى ذلك البزنطي في كتابه عن جميل ، عن زرارة ومحمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر(عليه السلام) »[34] . وقال العلاّمة في التذكرة بعد إيراد تلك العبارة : « لما رواه البزنطي في الصحيح عن الباقر (عليه السلام) »[35] . وكأنّ هذه الرواية منتزعة من كتاب البزنطي ؛ فإنّا لم نجدها في شيء من الكتب المتداولة . قوله : « وذهب جماعة ، منهم العلاّمة في جملة من كتبه ، والشهيد في الذكرى » : حكى في الذكرى[36] هذا القول عن الجعفي في كتاب الفاخر ، وابن طاووس ، والعلاّمة ، وجعله أولى من القول بالعشرة مطلقاً ، ثمّ تردّد فيه من جهة الإجماع الذي حكاه الشيخ في التهذيب ، واستلزامه طرح الأخبار الصحيحة أو تأويلها بالبعيد . وقد قطع بذلك في البيان[37] ، ووافقه عليه أكثر من تأخّر عنه[38] . والفرق بين هذا القول والقول بأنّ أكثر النفاس عشرة أيّام ـ كما هو المشهور ـ إمّا باعتبار أنّ النفساء مع استمرار الدم بها تجعل مقدار العادة وحده نفاساً على هذا القول ، وعلى المشهور تجعل نفاسها تمام العشرة كما يقتضيه ظاهر المختلف[39] وصريح الذكرى[40] ، وإمّا باعتبار ثبوت الاستظهار على المشهور وسقوطه على هذا القول ، أو بأنّ الاستظهار على هذا القول بيوم أو يومين بخلاف المشهور ، فإنّه إلى العشرة ، وفي الكلّ نظر . والحقّ : أنّ مرجع هذا القول إلى القول بالعشرة كما تبيّن وجهه في ما سبق . وإنّ منشأ توهّم أ نّهما قولان هو أنّ العلاّمة في المختلف[41] جعله قولا آخر في المسألة مقابلا للقول بالعشرة ، فظنّ المتأخّرون أ نّه كذلك ، غفلةً عن حقيقة الحال ، فتأمّل . قوله : « فمنها ما يدلّ على أنّ أيّام النفاس هي أيّام الحيض » : الظاهر تعيّن العمل بهذه الأخبار ؛ فإنّ ما روي ممّـا ينافي ذلك لا يصلح لمعارضتها ، أمّا الأخبار التي تضمّنت الزيادة على ثمانية عشر كالأربعين والخمسين[42] ، فهي روايات شاذّة متروكة لم يعمل بهما أحد من الأصحاب ، بل ظاهرهم الإجماع على خلافها . قال في المبسوط : « وما زاد عليه ـ أي على ثمانية عشر ـ لا خلاف بينهم أنّ حكمه حكم دم الاستحاضة »[43] . ومع ذلك فهي موافقة لفتوى المخالفين وعملهم ، فيتعيّن حملها على التقيّة . قال في التذكرة : « وقال الشافعي أكثره ستّون يوماً ، وهو رواية لنا ، وبه قال عطاء والشعبي وأبو ثور ، وحكي عن عبد الله بن الحسن العنبري والحجّاج بن أرطأة ؛ لأ نّه قد وجد ذلك ، ولا دليل فيه ؛ لأنّ الزيادة استحاضة . وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأبو عبيد ، أكثره أربعون يوماً ، وهو رواية لنا أيضاً ؛ لأنّ اُمّ سلمة قالت: كانت النفساء تقعد على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعين ليلة وأربعين يوماً ، والراوي مجهول ، فلاعبرة به . وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري أ نّه قال : خمسون يوماً ، وهو رواية لنا . وحكى الطحاوي عن الليث أ نّه قال : من الناس من يقول سبعون يوماً »[44] . قال في التهذيب : « كلّ من يخالفنا يذهب إلى أنّ أيّام النفاس أكثر ممّـا نقوله ، ولهذا اختلفت ألفاظ الأحاديث كاختلاف[45] العامّة في مذهبهم ، فكأ نّهم أفتوا كلّ قوم منهم على حسب ما عرفوا من آرائهم ومذاهبهم »[46] . -------------------------------------------------------------------------------- [1]. مدارك الأحكام 2 : 45 . [2]. مدارك الأحكام 2 : 48 . [3]. تقدّم تخريجهما في الصفحة 112 ، الهامش 1 و 2 . [4]. انظر : المعتبر 1 : 255 . [5]. انظر : النهاية : 29 . فإنّه ذكر ذلك في أحكام المستحاضة ، قبل الكلام في النفساء . [6]. تقدّم تخريج كلامه في الصفحة 112 ، الهامش 3 . [7]. السرائر 1 : 155 . [8]. تذكرة الفقهاء 1 : 328 . [9]. أي : المفيد . [10]. لم نعثر على القائل . نعم ، حكاه الوحيد في أيضاً مصابيح الظلام 1 : 273 ، بلفظ : «قيل» . وأمّا النصّ الوارد في المقنعة : 57 هكذا: « وقد جاءت أخبار معتمدة بأنّ انقضاء مدّة النفاس مدّة الحيض ، وهو عشرة أيّام ، وعليه أعمل لوضوحه عندي » . [11]. ذكرى الشيعة 1 : 261 . [12]. جامع المقاصد 1 : 348 . [13]. روض الجنان 1 : 245 . [14]. السرائر 1 : 155 . [15]. مختلف الشيعة 1 : 216 ، المسألة 157 . [16]. مدارك الأحكام 2 : 45 . [17]. كالمحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد : 77 ، السطر 37 . [18]. التهذيب 1 : 183 ، باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس . [19]. راجع : الصفحة السابقة ، ذيل قوله: «وقال المفيد» . [20]. تذكرة الفقهاء 1 : 328 . [21]. تقدّم تخريجه في الهامش 4 . [22]. السرائر 1 : 154 . [23]. نفس المصدر السابق . [24]. نقله عنه المحقّق في المعتبر 1 : 253 . [25]. نفس المصدر السابق . [26]. نفس المصدر السابق . [27]. كذا في النسخ ، وفي المصدر : «وإن كانت كثيرة الدم» . [28]. نفس المصدر السابق . [29]. التهذيب 1 : 187 / 510 ، باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس ، الحديث 82 ، وسائل الشيعة 2 : 387 ، كتاب الطهارة ، أبواب النفاس ، الباب 3 ، الحديث 14 . [30]. يأتي قريباً تفصيل هذا الخبر وتخريجه . [31]. انظر : ذكرى الشيعة 1 : 261 . هذا مضمون كلامه . [32]. التهذيب 1 : 187 / 511 ، باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس ، الحديث 83 ، وسائل الشيعة 2 : 387 ، كتاب الطهارة ، أبواب النفاس ، الباب 3 ، الحديث 15 . [33]. أي : لفظ «الأيّام» المذكور في كلام ابن أبي عقيل في الصفحة السابقة . [34]. المعتبر 1 : 253 . وانظر : مدارك الأحكام 2 : 45 . [35]. تذكرة الفقهاء 1 : 328 . [36]. ذكرى الشيعة 1 : 262 . [37]. البيان : 67 . [38]. الروضة البهيّة 1 : 115 ، جامع المقاصد 1 : 347 - 348 ، مفاتيح الشرائع 1 : 16 . [39]. مختلف الشيعة 1 : 216 ، المسألة 157 . [40]. ذكرى الشيعة 1 : 262 . [41]. مختلف الشيعة 1 : 216 ، المسألة 157 . [42]. انظر : وسائل الشيعة 2 : 388 ، كتاب الطهارة ، أبواب النفاس ، الباب 3 ، الحديث 17 و 18 . [43]. المبسوط 1 : 69 . [44]. تذكرة الفقهاء 1 : 328 ـ 329 . [45]. كذا في المصدر ، وفي «د» : لاختلاف . [46]. التهذيب 1 : 187 ، باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس .
|