واعلم أنّ للعلماء اختلافاً في معنى الطلاء ، والتنبيه عليه حسن في هذا المقام .

قال ابن قتيبة في أدب الكاتب : « والطلاء : الخمر ، ومنهم من يجعله ما طبخ بالنار حتّى يذهب ثلثاه[1] ، شبّه بطلاء الإبل ـ وهو القطران ـ في ثخنه وسواده . والعلماء بلغة العرب يجعلون الطلاء الخمر بعينها ، ويحتجّون بقول عبيد : وقالوا هي الخمر تكنى الطلاء ، كما الذئب يكنى أبا جعدة »[2] .

وقال الجوهري : « الطلاوة : الحسن والقبول ، يقال : ما عليه طلاوة ، أي حسن[3] . والطلاء : ما طبخ من عصير العنب حتّى ذهب ثلثاه ، وتسمّيه العجم الميبختج ، وبعض العرب يسمّي الخمر الطلاء ، تريد بذلك تحسين اسمها لا أ نّها الطلاء بعينها ، ـ ثمّ ذكر بيت عبيد المتقدّم وقال : ـ إنّه ضربه مثلا للمنذر حيث أظهر له الإكرام ، وهو يريد قتله[4] ، كما أنّ الذئب وإن كانت كنيته حسنة فإنّ عمله ليس بحسن ، وكذلك الخمر وإن سمّيت طلاء وحسن اسمها فإنّ عملها قبيح » . قال : « والطلاء أيضاً القطران ، وكلّ ما أطليت به »[5] .

وقال الزمخشري في الأساس : « وشرب الطلاء المثلّث شبّه في خثورته بالقطران »[6].

والظاهر أ نّه أراد بذلك بيان وجه التسمية في ابتداء الوضع ، دون أن يكون استعارةً أو مجازاً ؛ فإنّه إنّما ذكر ذلك في قسم الحقيقة ، وذكر المجاز بعد ذلك ، وعدّ منه قولهم : عود مطلي ، أي غير مقصور ، وقولهم : ليل طال ، وطلى الليل الآفاق ، إذا أظلم .

وقال ابن الأثير في النهاية : « وفي حديث علي (عليه السلام)إنّه كان يرزقهم الطلاء . هو بالكسر والمدّ ، المطبوخ من عصير العنب ، وهو الربّ وأصله القطران الخاثر الذي يطلى به الإبل ، وليس هذا من الخمر في شيء ، وإنّما هو الربّ الجامد »[7] .

وفي القاموس : « والطلاء ككساء : القطران ، وكلّ ما يطلى به ، والخمر ، وخاثر المنصف »[8] .

والذي يظهر من كلامهم أنّ الطلاء بمعنى الربّ الخاثر عرف طار ، لم يكن معروفاً في اللغة ، ولذا أنكره بعض اللغويّين ، كما تقدّم في كلام ابن قتيبة[9] ، ودلّ عليه بعض الآثار المنقولة عن الصحابة ، وتخصيصُه بالمطبوخ على الثلث في كلام الأكثرين[10] ؛ لظهور المناسبة المعتبرة في النقل هناك ، ولأنّ بدو الطلاء كان على التثليث ، وهو الذي ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء ، وهذا الوضع إنّما أتى من قبلهم ولم يعرفه مَن قبلهم .

وما في القاموس مبنيّ على تحقّق[11] المناسبة في المنصف ، وثبوت إطلاق الاسم عليه ممّن أباحه وممّن حرّمه ، ولا يبعد أن يكون الطلاء اسماً لما طبخ من عصير العنب مطلقاً وإن زاد على النصف ؛ إذ يكفي في النقل وجود المناسبة في بعض الأفراد ، وهذا هو المناسب للروايات المنقولة عن[12] طريق الأصحاب .

وعلى ما ذكروه يكون إطلاقه على ما لم يبلغ النصف أو الثلث مجاز باعتبار ما يؤول إليه ، كما في قوله تعالى حكايةً عن فتى السجن : ( إنِّي أراني أعْصِرُ خَمْراً )[13] ، أي : عصيراً يؤول إلى الخمر . وكلام أصحاب الحديث وشرّاحه ليس نصّاً في الخصوص[14] ؛ فإنّه يحتمل إرادة بيان النوع المحلّل من الطلاء ، وهو الذي يشربه الناس ، وإن كان الطلاء اسماً لما هو أعمّ من ذلك .

وفي الوقاية[15] وغيرها[16] من كتب الحنفيّة أنّ الطلاء هو ما طبخ من عصير العنب على أكثر من الثلث ، وإن تجاوز النصف . وقد أخطؤوا في اللغة والشرع معاً ؛ فإنّ العلماء اتّفقوا على حلّ الطلاء في الجملة ، وعلى ما ذكره هؤلاء لا يكون إلاّ حراماً . والظاهر من كلام أئمّة اللغة ـ كما عرفت ـ أنّ الطلاء هو المطبوخ على الثلث أو النصف خاصّة ، وشتّان ما هذا وذاك ، ولا أقلّ من أن يكون اسماً للمعنى الأعمّ كما قلناه ، وكأنّ الحنفيّة حاولوا دفع الشناعة التي تلحقهم من ظاهر الحديث النبوي المنقول[17] ، فغيّروا الاصطلاح لكي يسلم لهم تحليل المثلّث مطلقاً ، وهو تدليس خفيّ .

وكيف كان ، فالاختلاف في معنى الطلاء لا تأثير له في حكم المسألة ؛ إذ غاية الأمر أن يكون إطلاقه على العصير في بعض أحواله مجازاً ، ولا ضير في ذلك مع وجود القرينة وظهور المعنى المراد من اللفظ .

وهل الحكم بتحريم العصير قبل ذهاب ثلثيه تعبّد محض ، أو معلّل بالإسكار الخفيّ المسبّب عن غليان ماء العنب ، أو بعروض التغيير له إذا بقي وطال مكثه ؟

احتمالات ، أوسطها الأوسط ، وقد لاح لك وجهه ممّـا مضى ، ويأتي تحقيق ذلك إن شاء اللّه .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]. زاد في المصدر : وبقي ثلثه .

[2]. أدب الكاتب : 139 ، باب معرفة في الشراب ، بتفاوت يسير .

[3]. «أي حسن» لم يرد في المصدر .

[4]. في المصدر : يريد قتلي .

[5]. الصحاح 6 : 2414 ـ 2415 ، «طلا» ، بتصرّف .

[6]. أساس البلاغة : 283 ـ 284 ، « طلو » .

[7]. النهاية (لابن الأثير ) 3 : 137 ، «طلا» .

[8]. القاموس المحيط 4 : 357 ، «طلى» .

[9]. راجع : الصفحة 265 .

[10]. راجع : الصفحة 265 ـ 266 .

[11]. في «ل » : تحقيق .

[12]. في «ش» و «د» : من .

[13]. يوسف ( 12 ) : 36 .

[14]. انظر : عمدة القاري 23 : 200 .

[15]. وقاية الرواية في مسائل الهداية ، لا يوجد لدينا .

[16]. كما في الجوهرة النيرة 5 : 231 . وانظر : بدائع الصنائع 4 : 276 .

[17]. أي : الحديث المذكور في الصفحة 264 .