|
2 ـ معنى الكافر
هل المراد من الكافر في الآيات والروايات غير المسلم أم أنه مخصوص بأولئك الذين ينكرون الدين عن علم ومعرفة واطلاع؟ بعبارة أخرى: هل الكافر هو مطلق غير المسلم سواء كان قاصراً أم مقصّراً؟ أم أن تعبير (الكافر) يختصّ بغير المسلم عندما يكون مقصّراً؟
الذي نجده في تعبيرات الفقهاء هو المعنى العام لكلمة الكافر، بحيث يشمل القاصر والمقصّر، إلا أن الذي نراه أن الكافر في مصطلح القرآن والسنّة يختصّ بغير المسلم إذا كان مقصراً، ولا يشمل الأفراد القاصرين. بعبارة أخرى: يطلق الكافر فقط على خصوص الأفراد المعاندين والمنكرين، الذين يعرفون الحق وينكرونه، ويعرفون حقية الله والآيات النازلة على رسوله، لكنهم ـ مع هذا اليقين ـ ينكرون الله أو آياته النازلة أو أنبياءه المرسلين من عنده; وعليه فالقاصرون البعيدون عن الحقيقة لجهالتهم وعجزهم عن البحث ليسوا كافرين. وشاهدنا على هذا الادعاء ما يلي: 1 ـ لقد جاء الوعيد بالعذاب والنار في موارد كثيرة جداً من القرآن والسنّة بحق الكافر، ومن الواضح أن القاصر غير المسلم ليس مشمولا ـ بحكم العقل والنقل ـ للوعيد بالعذاب والنار; لأن تعذيب مثل هؤلاء ظلم ـ أوّلا ـ وخلاف للعدل، ومشمول لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما أنه ـ ثانياً ـ قد صرّح القرآن الكريم بهذا الأمر عندما قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا)([22]). وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من الأصوليين استدلّ بهذه الآية على البراءة، وفهموا من تعبير «الرسول» الوارد فيها الإشارة إلى الحجة والدليل، فمع الأخذ بعين الاعتبار هذه الآية مع الآيات التي تتوعد الكافرين بالعذاب، نفهم أن العذاب والعقوبة يترتبان على إبلاغ الدليل والحجة، أما من لم تصله الحجة ولا الدليل ولم يكن لديه علم بالحجة والحق فلا يطلق عليه وصف الكافر، إذ لو أطلق عليه هذا الوصف لصار مشمولا للعذاب، فيما هذه الآية تصرّح بنفي العذاب دون إبلاغ الحجّة. 2 ـ جاء في عدة روايات تعريف الكافر ضمن عدّة قيود لا تشمل سوى المقصّر، ونشير هنا إلى روايتين فقط من باب المثال: أ ـ يقول الإمام علي(عليه السلام) في الخطبة الثانية من صلاة الجمعة: «... اللّهمّ عذّب كفرة أهل الكتاب، الذين يصدّون عن سبيلك، ويجحدون آياتك، ويكذبون رسلك...»([23]); ففي هذا النص يدعو الإمام(عليه السلام) على الكفار من أهل الكتاب، لا على تمام أهل الكتاب، ثم يقوم بتوصيفهم بأنهم سدّوا الطريق إلى الله تعالى، وجحدوا بالآيات وأنكروا وكذبوا الرسل... إن هذه التقييدات والتوصيفات في مقام تعريف الكفار من أهل الكتاب تدلّ على أن الكافر عنوانٌ لا يطلق سوى على الجاحد، ولا يشمل الأفراد القاصرين; فالكفر أخصّ من عدم الإسلام، وفي إطلاق وصف الكافر هناك موضوعية للعناد مع العلم; لأن كلمة الجحود في اللغة تعني الإنكار عن علم واستخدمت في ذلك; يقول الفيومي في ذيل كلمة «جَحَدَهُ»: «حقّه وبحقه (جحداً) و(جحوداً) أنكره، ولا يكون إلا على علم من الجاحد به»([24])، وفسّر الراغب «جحد» بما يلي: «الجحود نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب نفيه»([25])، وجاء في المنجد: «جَحَد: جَحْداً وجحوداً: كفر به ـ كذبه ـ حقّه وبحقه أنكر مع علمه به فهو جاحد»([26]). ب ـ رواية أبي عمرو الزبيدي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزّ وجلّ، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين; والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النعمة; فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية، وهو قول من يقول: لا ربّ ولا جنّة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة، يقال لهم: الدهرية، وهم الذين يقولون: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ)([27]). وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون، قال الله عزّ وجلّ: (إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)([28]) أن ذلك كما يقولون. وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)([29])يعني بتوحيد الله تعالى، فهذا أحد وجوه الكفر. وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حقّ، قد استقرّ عنده، وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)([30])، وقال عزّ وجلّ: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)([31]); فهذا تفسير وجهي الجحود...»([32]). وحيث استشهد الإمام(عليه السلام) في هذه الرواية بآيات من القرآن الكريم، فمن المناسب الإشارة هنا إلى الأبحاث التفسيرية لهذه الآيات، الأمر الذي يؤيد مدعانا هنا; فيذهب صاحب تفسير الميزان في ذيل الآية: 23، من سورة الجاثية: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم...) إلى أن معنى الآية ـ حيث قدّم الله تعالى فيها كلمة (إلهه) على كلمة (هواه) ـ أولئك الذين ينكرون الله مع علمهم بوجوده وبلزوم عبادته، لكنهم رغم علمهم يضعون هواهم مكان الله سبحانه فيعبدونه، وهذا مؤداه أن مثل هذا الشخص يغدو كافراً بالله مع علمه به; لهذه استمرّت الآية بالقول: (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم...) أي أنه ضلّ من جانب الله، لكن هذا الإضلال من ذات الباري تعالى إنما جاء لاتباع الكافر هوى نفسه، مع علمه بالله سبحانه ووجوب العبودية له([33]). ونستنتج من بيان صاحب الميزان: أن الكفر يعني ـ أوّلا ـ الإنكار مع علم، وأن إضلال الكافر إنما هو ـ ثانياً ـ لعلمه بالله سبحانه، وهذا الإضلال مترتب ومستقر على علم الكافر، لا أن الله أضلّ الكافر عن علم من الله تعالى. 3 ـ الشاهد الثالث على مدعانا هو اللغة; لأن الكفر في اللغة بمعنى الستر; حيث يقول الراغب الإصفهاني في معناه: «الكفر في اللغة: ستر الشيء، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزارع لستره البذر في الأرض... كفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها»([34]). وقد فسّر في «الصحاح» الكفر بهذا المعنى أيضاً حيث قال: «الكافر: الليل المظلم; لأنه ستر كلّ شيء بظلمته، والكافر: الذي كفر درعه بثوب، أي غطّاه ولبسه فوقه، وكل شيء غطى شيئاً فقد كفره. قال ابن السكيت: ومنه سمّي الكافر; لأنه يستر نعم الله عليه... والكافر: الزارع: لأنه يغطّي البذر بالتراب»([35]). وكتب الفيروزآبادي في «القاموس» في معنى الكفر قائلا: «... وكفر نعمة الله، وبها كُفوراً وكُفراناً: جحدها وسترها. وكافَرَه حقّه: جحده. والمكفَّر كمعظم: المجحود النعمة مع إحسانه. وكافر: جاحد لأنعم الله تعالى»([36]). وقد نقل ابن منظور هذا الكلام من الفيروزآبادي بطوله([37]). ومن الواضح أنه لا ستر بلا معرفة وإدراك; فلا يقال: ساتر، إلا لمن علم بشيء ثم أنكره، أما الغافل الذي لا اطلاع له على غير المعتقدات الباطلة فلا يقال له: ساتر. وقد جاء في تعليقة كتاب «القوانين» في مبحث عدم جواز التقليد في أصول الدين ما يلي: «... بل نقول: يظهر من لفظ الكافر هو المقصّر، فيكون القاصر خلاف الظاهر، وخلاف المتبادر من هذا اللفظ; فيكون محكوماً بعدم إرادته منه. ووجه هذا الظهور أن الكافر مشتق من الكفر، بمعنى الستر، وهو فعل اختياري صادر عن قصد وشعور، فلابد أن يكون المراد عن الكافر من يكون كفره كذلك، ولا يكون ذلك إلا كفر المقصّر لا القاصر; فإن كفر القاصر انكفار لا كفر، نظير الفرق بين الاستتار والستر، والانجعال والجعل، والانكسار والكسر، فتدبّر»([38]). ففي هذه فعل ثلاثي استبطن القصد والشعور، على خلاف الفعل المزيد الذي ليس كذلك. |