الإجزاء (درس65)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 65 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم إذا عرفت هذه الاُمور نقول: البحث في الإجزاء يقع في مقامات ثلاثة: المقام الأوّل: هل يجزي المأتي به بالأمر الواقعي عن الأمر الواقعي أم لا؟ وهل الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري مجزٍ عن الأمر الاضطراري أم لا؟ وهل الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري مجزٍ عن الأمر الظاهري أم لا؟ المقام الثاني: هل يجزي الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري الواقعي الثانوي عن الاختياري الواقعي الأولي أم لا؟ وبعبارة أخرى: هل الصلاة مع التيمم مجزية عن الإعادة والقضاء إذا وجد الماء أم لا؟ المقام الثالث: هل الإتيان بالأمر الظاهري مجز عن الأمر الواقعي أم لا؟ لو عمل شخص بالمسألة طبق الأمارة، وأتى بصلاة الظهر مثلاً ثم انكشف بأن الواجب الواقعي هو صلاة الجمعة لا الظهر، فهل إتيانه بالظهر مجزٍ أم لا؟ أو كالذي أتى بصلاته تمسكاً بأصالة الطهارة أو تمسكاً باستصحاب الطهارة أو تمسكاً بقاعدة الفراغ أو التجاوز، ثم انكشف الخلاف، فهل عمله مجزٍ أم لا؟ أمّا المقام الأوّل، فلا شبهة ولا إشكال في أن الإتيان بالمأمور به مجزٍ عن أمره، وعليه بداهة العقل وضرورته، سواء كان أمره أمراً اضطرارياً أو اختيارياً أو ظاهرياً؛ لأن كلّ مأمور به يُسقط أمره ويُجزي، ولا يجوز التعبد به ثانياً، كمن امتثل أمراً ظاهرياً، فهذا الأمر الممتثل لا يكون محركاً لمرتبة اُخرى. وإن شئت الاستدلال والبرهنة نقول: إن الإتيان بالثانوي مع بقاء الأوّلي أو مع عدم بقائه، أو على فرض بقائه مع الغرض أو دونه، فإن لم يكن ها هنا أمر فواضح؛ لأن الإتيان والتعبد لم يكن لهما وجه، وإن كان ها هنا أمر بدون غرض كان لغواً ومحالاً. إن قلت: الغرض من الأمر باقٍ. قلت: إن كان الغرض من الأمر باقياً عُلم بأن المأمور به لم يؤتَ به بعد، وهذا خلاف الفرض؛ لأنه إذا جيء بالمأمور به عُلم البتة بأن الغرض ساقط واقعاً. وإن أبيت قلت: جيء بالمأمور به فالغرض موجود إذن، ولا فائدة في المرتبة الثانية؛ لأنه ليس قابلاً للامتثال، لكون الغرض باقياً إلى ما شاء الله، ويلزم من هذا التكليف بالأمر غير المقدور. نفى في (الكفاية) البعد عن القول بجواز تبديل الامتثال إلى امتثال آخر، سواء كان أحسن أو مساوياً، ممثلاً لذلك بما إذا أمر المولى بالإتيان بماء للشرب أو للوضوء ولم يتوضأ ولم يشرب، فالعبد قادر على الإتيان بظرفٍ آخر كامتثال آخر، مستدلاً على ذلك بروايات باب إعادة الصلاة التي مضى الكلام عنها مفصلاً في بحث المرة والتكرار[1]. لكن كلام صاحب (الكفاية) غير صحيح، ونقول في الجواب عليه: قلنا بأن تبديل الامتثال بامتثال آخر غير جائز عقلاً، وهو محال، وقلنا بأن صاحب (الكفاية) خلط بين غرض الأمر وغرض آخر، وقد ظهر من ذلك إشكال على (الكفاية) جاء في (فوائد الاُصول) للنائيني قدس سره، حاصله: تبديل الامتثال بامتثال آخر جائز، ولكنه يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع من دليل يقوم عليه[2]. يتضح ممّا قلناه أن إشكالاً في كلام النائيني كما كان إشكال في كلام صاحب (الكفاية)، إذ قلنا سابقاً بأن المسألة ليست في مقام الإثبات، بل في مقام الثبوت، وعمدة الإشكال والقيل والقال في هذا المقام. ولا يخفى عليكم أن دليل جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر لو كان موجوداً فلابد لنا ولكم من التأويل، كما أوّل الأصحاب صحيحة هشام[3] وصحيحة حفص[4]، فراجع متن الصحيحتين اللتين مرتا لتعرف بأن الظاهر لا يقاوم البرهان. أمّا المقام الثاني، أي إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي، وفيه ثلاث مسائل: المسألة الاُولى: في الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة، كمن أتى بالصلاة مع التيمم لعدم وجود الماء، ثم ارتفع عذره قبل غروب الشمس فوجد ماءً، فهل هذه الصلاة مجزية أم لا؟ المسألة الثانية: في الإجزاء بالنسبة إلى القضاء والعذر المستوعب، كمن أتى بالصلاة مع التيمم، ووجد الماء بعد انتهاء الوقت، فهل يلزم القضاء ويجب أم لا؟ المسألة الثالثة: في الإجزاء بالنسبة إلى القضاء والأداء، أي العذر المستوعب وغير المستوعب في الصورة التي لا يكون لدليل الأمر الثانوي إطلاق. وها هنا كلام بأنه هل مقتضى الكلام أصالة البراءة أو مقتضاه أصل الاشتغال؟ أمّا المسألة الاُولى، فلا يخفى أن البحث في هذه المسألة فيما إذا كان البدار جائزاً شرعاً، وارتفع العذر قبل انتهاء الوقت، ومبناكم الفقهي يكون عندئذٍ جواز البدار، والعذر غير مستوعب، وإلاّ يكون خارجاً عن محل النزاع في الحقيقة وإن لم يكن البدار جائزاً؛ لأنه مأمور به، ولم يأتِ بالأمر الاضطراري ولا بالأمر الواقعي، والمفروض عدم جواز البدار، ولا يجوز التيمم للمكلف في أوّل الوقت؛ لكون المفروض في التيمم أن يكون في آخر الوقت وبعدما استحال الحصول على الماء، فهو خارج عن محل النزاع، وكلامنا كان فيما إذا كان البدار والسبق جائزاً. ولا يخفى عليكم ـ طرداً للباب ـ أن في البدار آراءً مختلفة، وهي مبنية على السؤال التالي: هل يجوز التيمم في أوّل الوقت أم لا؟ الأوّل: يجوز البدار مطلقاً ولو مع احتمال ارتفاع العذر. الثاني: لا يجوز البدار مطلقاً. الثالث: التفصيل بين اليأس عن وجدان الماء فيجوز وبين عدم اليأس فلا يجوز. دليل البدار في الفقه واضح؛ لأن المعيار في التيمم الاضطرار، والذي يحتمل وجدان الماء في آخر الوقت لا يعد مضطراً. ومن قال بجواز البدار مطلقاً يقول بأن موضوعه عدم وجدان الماء، مع أن دليله مطلق، فيجوز ـ بناءً على ذلك ـ سواء وجد الماء الآن أم لم يوجد. ولا يذهب عليكم بأنا نبحث في المسألة الاُولى، أي بناءً على القول بجواز البدار، سواء كان مطلقاً أو على سبيل التفصيل؛ لأنكم تقولون في هذا المورد بأن المكلف إذا يأس عن وجدان الماء فالبدار جائز، والمكلف في هذا الحال يأس عن ذلك، وقد أتى بالصلاة ثم انكشف الخلاف، فهل عليه الإعادة أم لا؟ أما على القول بعدم جواز البدار فالموضوع خارج عن محل البحث، وهذا البحث غير اُصولي وعلاقته بالفقه مسلمة ووثيقة. ها هنا ثلاثة طرائق: الأوّل: طريقة صاحب (الكفاية) ومنهجه في هذا المجال[5]. الثاني: طريقة صاحب (فوائد الاُصول)، أي النائيني قدس سره[6]. الثالث: طريقة صاحب (تهذيب الاُصول)، وهي طريقة منسوبة إلى سيدنا الاُستاذ قدس سره[7]. وقد تعرضنا لبحث البدار طرداً لباب المسألة، وإن كان البحث في ذلك غير اُصولي. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - الكفاية: 83. [2] - فوائد الاُصول 1: 243. [3] - الوسائل 8: 401، أبواب صلاة الجماعة، ب54، ح1. [4] - الوسائل ج8: 403، أبواب صلاة الجماعة، ب54، ح11. [5] - كفاية الاُصول: 85. [6] - فوائد الاُصول 1ـ 2 : 245. [7] - تهذيب الاُصول 1: 142.
|