الحروف (درس14)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 14 التاريخ : 2008/12/26 بسم الله الرحمن الرحيم المقام الثاني : الموضوع له في الحروف إن الموضوع له والمستعمل فيه هو الروابط الجزئية الحقيقية، وهي على أقسام. تدلّ (في) في العبارة التالية: (زيد في الدار) على ارتباط زيد بالدار، وتدلّ (من) في المثال: (سرتُ من البصرة إلى الكوفة) على ارتباط السير بالبصرة على سبيل الابتدائية، أي ابتداء الروابط والنسب بحقائقها التي هي معاني تعليقية غير موجودة ذاتياً، بل بالغير أي بغير الموضوع له في الحروف. والدليل على هذا هو التبادر، فلا يتبلور بالذهن من خلال هذه الحروف معنًى اسمي من قبيل الابتداء، والمتبلور هو معنًى ذهني تعلقي، أمّا الابتداء الربطي فلا يتبلور في الذهن أبداً. من هنا يظهر ضعف بقية الأقوال، والأضعف من جميعها هو الذي ينفي المعنى عن الحروف ويعتبرها أعلاماً وعلائم فقط؛ لأجل أن ذلك خلاف التبادر، ونحن نفهم من الحروف معاني، كما أنَّ ذلك مخالف لاتفاق النحاة والأدباء حيث اعتبروا الحرف كلمة، والكلمة لفظ ذات معنًى، فإذا اعتبرنا الحرف خالياً من المعنى كان ذلك يعني أنَّه ليس كلمة، أو أنّه ليس موضوعاً له ومستعمل فيه. لا يخفى عليكم أنَّ الموضوع له والمستعمل فيه الحروف هي معانٍ ربطية اندكاكية، والحروف على قسمين: بعضها حاكية عن ذلك المعنى، وبعضها موجدة له. رأي صاحب (الكفاية) لا يرى صاحب (الكفاية) فرقاً بين المعاني الحرفية والاسمية، فلا يفرّق بين (ابتداء) وبين (مِنْ) لا في الوضع ولا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه، وإذا فرّق في الوضع فمن حيث شرط الواضع، وفي الاستعمال من حيث مقدمة الاستعمال. يقول صاحب (الكفاية): (وبالجملة، ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مثلاً إلاَّ الابتداء). ويعتبر الوضع فيهما عاماً، فالواضع عندما أراد الوضع تصوّر الكلّي مبدئياً ثمّ وضع، لذلك كان الوضع في كليهما عاماً، فوضع لفظ (الابتداء) لمعنى الابتداء، ووضع كذلك (من) لنفس المعنى، فكان الموضوع له عاماً. الفرق المتصوّر بينهما أنّ الواضع شرط استعمال لفظ ( الابتداء) في المورد الذي لوحظ فيه المعنى بشكل مستقل، وشرط استعمال (مِن) في المورد الذي يكون فيه معنًى آلياً واندكاكياً. لكن هذه اللحاظات الآلية والاستقلالية لم تؤخذ في الموضوع له والمعنى، فكما أنَّ اللحاظ الاندكاكي مقدمة للاستعمال كذلك اللحاظ الاستقلالي، والمعنى في كليهما واحد. وبهذه التعابير والتبريرات رفع صاحب (الكفاية) ما ورد على رأيه من إشكال أشار إليه بقوله : (إنّ قلت). يستدلّ صاحب (الكفاية) على رأيه بأنَّ معاني الحروف ليست معاني جزئية؛ لأنَّا نجد معاني كلية في الحروف. وإذا قيل بأن معاني الحروف جزئية باعتبار الوجود الذهني ـ كلما أراد الإنسان استعمال معنًى تصوّره في البداية ـ ففيه محاذير ثلاثة: 1 ـ التصوّر إذا عُدَّ سبباً لصيرورة الشيء جزئياً كان ذلك مشتركاً مع الأسماء فتصبح معانيها جزئية كذلك، لكن في الحروف اندكاكاً، وفي الأسماء استقلالاً. 2 ـ تصوّر المعنى من مقدمات الاستعمال لا المستعمل فيه، ولا داخلاً في المستعمل فيه، فرغم أنَّ تصوّر شيء يكون سبباً لصيرورته جزئيا، لكن هذا التصوّر قبل الاستعمال ومقدّمة له، فإذا كان التصوّر واللحاظ الاندكاكي في المستعمل فيه كنا بحاجة إلى لحاظ آخر. ـ إذا كان تصوّر المستعمل جزءاً من المستعمل فيه لزم ذلك عدم القدرة على الامتثال. ففي مثل (سِرْ من البصرة إلى الكوفة) يكون المستعمل فيه الابتداء من البصرة الموجود في ذهن المتكلّم، وهو بمثابة أن يقول: ابتدئ بالسير من البصرة ابتداءً نفسه الذي يكون في ذهني، مع أنَّه كلّي عقلي، والكلّي العقلي لا موطن له إلاّ في الذهن. ترد عدة إشكالات على كلام الشيخ الآخوند أولاً: تقدّم أنَّ المعاني الحرفية تتباين حقيقة مع المعاني الاسمية، وبينهما تعاند واختلاف، ويتفق معنا الفلاسفة في هذه القضية. وقد قسّموا الوجود إلى قسمين: فقد يكون الموجود ذات وجود استقلالي، وقد لا يكون ذات وجود استقلالي، وهذا الأمر صادق في المعاني الاسمية والحرفية، فالمعاني الحرفية معانٍ اندكاكية غير استقلالية. وهذا الأمر معلوم من الخارج ومن الحقائق، والحروف تدلّ على المعاني الموجودة في غيرها. الدليل على ذلك هو الواقع الخارجي، فزيد الذي في الخارج له نحو من الوجود، والدار التي في الخارج لها نحو من الوجود كذلك، لكن كون زيد في الدار ذو معنًى اندكاكي. وكذا الحال بالنسبة إلى (زيد قائم)، فلزيد وجود، ولـ (قائم) وجود، وهناك ربط بينهما في عالم الواقع والخارج. شأن الحروف شأن هذا، فإنَّ لها واقعاً، ألاّ ترى النحاة يقولون: الحرف ما دلّ على معنًى في غيره، وهذا الشيء لم يتصوّره الشيخ الآخوند. إذنّ، بين الاثنين تباين وهما ذوا سنخين. هذا أولاًَ. وثانياً: كلام صاحب (الكفاية) مخالف لجميع النحاة والأدباء حتى شارح (الكافية)؛ لأنهم جميعاً يقولون: الحرف ما دلَّ على معنًى في غيره. والضمير في (غيره) يرجع إلى المعنى، أي أنَّ للحرف معنى لكن معناه ليس في ذاته، بل في غيره. وقد أرجع البعض ـ مثل شارح (الكافية) الضمير في (غيره) إلى (ما)، وقال بأنَّ الحروف عبارة عن علائم وأعلام. وكلام صاحب (الكفاية) يخالف كلا الرأيين. ثالثاً: كلام الآخوند يخالف ما بلغنا عن أمير المؤمنين عليه السلام ـ النقل مرسل وعامي ـ حيث يقول: ((الاسم ما أنبأ عن معنًى في نفسه، والحرف ما أنبأ عن معنىً في غيره)). مع أنّ صاحب (الكفاية) يساوي في المعنى بين الاسم والحرف. رابعاً: يذكر صاحب (الكفاية) أنّ الاختلاف في شرط الواضع، ونحن نقول: ما الدليل على لزوم متابعة الواضع وشرطه؟ ولماذا يتّبع الناس شرط الواضع؟ وفي هذا المجال يعتبرالآخوند المتابعة لأجّل عدم الوقوع في الخطأ، لكن لماذا لم يضع بالشكل المطلوب منذ البداية بأن يقول: وضعت الابتداء لمعنًى مستقل، ووضعتُ (مِن) لمعنًى غير مستقل؟ وهذه الطريقة أفضل من أن يضع مفردتين ثمّ يشترط استعمال أحدهما بشرط والاُخرى بشرط آخر. إذن، لا دليل على اتّباع شرط الواضع. خامساً: إذا لم نتّبع شرط الواضع فهل استعمالنا صحيح أم لا؟ بالطبع صحيح، وعلى هذا فما فائدة شرط الواضع؟ سادساً: يقول في التفريق بينهما: إنَّ الاختلاف في المقدمات، أي إذا لحظنا المعنى مستقلاً استعملنا (ابتداء)، وإذا لحظنا المعنى غير مستقل استعملنا (من). فالاختلاف في اللحاظ والتصوّر السابق للاستعمال. لكنّا نقول للآخوند بأنَّ تصوّر المعنى مستقلاً تصوّرٌ، وتصور ذات المعنى مندكاً تصوّر آخر، وعندما يتصوّر الإنسان النسبة هل يتصوّر المعنى على حدة، والاستقلال أو الاندكاك على حدة، أم أنّ التصوّر هنا يكون واحداً لا تصوّرين؟ لا يمكن القول بأن التصوّر هنا تصوران، فليس التصوّر في عبارة: (الابتداء خير من الانتهاء) بمثابة تصوّر للمعنى وتصوّر للاستقلالية، أو في عبارة : (سرت من البصرة إلى الكوفة) بمثابة تصوّر للمعنى وتصوّر للاندكاك، بل التصوّر هنا واحد. وعلى هذا، كيف يمكن للمستعمل أن يستخدم اللفظ في المعنى الذي لم يتصوّره، باعتباره لم يتصوّر المعنى بمعزل عن الاستقلالية أو الاندكاك؟ وبعبارة اُخرى: إمّا أنْ نقول بأنَّ هناك تصوّرين وهذا مرفوض ولا يقبله أحد، وإمَّا أن نقول بأنَّ الموجود في الذهن هو تصوّر واحد، وعندئذٍ يكون تصوّرنا للمعنى بنحو الاندكاك وبالحمل الشائع الصناعي لا بمفهومه، بل الذي في الخارج، ثمّ نستعمل له لفظاً. والإشكال المترتب هنا هو أنَّ الابتداء لم يتصوَّر، وإذا تُصوِّر فبنحو الحمل الشائع الصناعي لا مفهوم اللفظ ولا مفهوم الاستقلال أو الاندكاك. وبناءً على هذا يكون الأمر من قبيل تصوُّر الفرد والنوع ووضع اللفظ للجامع أو الجنس. وبعبارة اُخرى أيضاً: المستعمل يتصوّر المعنى مندكاً في الغير ويضع اللفظ لذات المعنى دون لحاظ الاندكاك. وهذا غير صحيح؛ لأنّ المفروض وضع اللفظ للمعنى المتصوّر لا غيره، فلا ينبغي تصوُّر الجنس ووضع اللفظ للنوع، أو تصوّر النوع ووضع اللفظ للجنس؛ لأنّ الاستعمال موقوف على تصوّر المستعمل فيه.
|