|
المقدمة
المقدمة
من أكبر ما يقلق الفقهاء الملتزمين العارفين خلوص الفقه الإسلامي و إنتاجيّته، فمن جهة على الفقيه أن يراقب حركة الفقه أن لا تنزاح عن الإطار القواعدي الاجتهادي و المصادر الوحيانية المقدسة، ومن جهة اُخرى عليه أن يحمي الاستنباطات والاجتهادات عن أن تغدو مظهراً لعجز الفقه عن إدارة الحياة البشرية. و بحق يقال: إن بلوغ سبيل الوسط والصواب، كالصراط المستقيم، أرقّ من الشعرة وأحدّ من السيف، فقد أفرط فريق في تمسّكه بخلوص الفقه وصفائه، فلم يولِ أية عناية بالجانب التنفيذي والإنتاجي للاجتهادات و الآراء، و عندما لا تقدر فتوى معينة على أن تضمن لنفسها إجراءها عملياً، ولا تدخل حيّزالتنفيذ، فإنّهم يتّهمون الناس بعدم الاعتناء بالدين ولا الاهتمام به. و قد أفرط فريق آخر على الخط الثاني:فلم يهتموا سوى بعملانية الفقه و أدائه الميداني، و قد تضاعف إفراط هذا الفريق عندما صار ينظر لهذا الموضوع على مستوى الفرق والمذاهب و الأديان كلّها، بل بلغ بهم الحال أن اعتبروا الفقه أقلّ من مستوى القوانين الوضعية. والحق أن هذين السبيلين خاطئان: فالمطلوب أن يكون صفاء الفقه و قداسته حاضرين في فكرنا دوماً، و أن نأخذ بعين الاعتبار مكانته المعنوية ومنزلته الوحيانية، كما أن من المطلوب أيضاً أن نحمل همّ إنتاجية الفقه و دخوله حيّز التنفيذ، أفلم ينزل الله الدين للإنسان، كما خلق العالم له. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ فِرَاشاً وَالْسَّمَاءَ بنَاءً)(1). (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الاَْرْضِ جَمِيعاً) (2). (وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ)(3). (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ)(4). (شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بهِ نُوحاً)(5). أفلم يخلق البشر على فطرة البحث عن الله والتدين له؟ ألا يصبح النظام الأحسن قيد التساؤل إذا لم يحكم الخير نظامي التكوين والتشريع؟! فيخدش ذلك بحكمة الخلقة والوجود. إذن، فلا يمكن على الدوام اتهام الناس بعدم التدين أو عدم الاهتمام بالدين، بل يمكننا عبر معرفة طبيعة ردّة الفعل العامة على رأي فقهي، أن نكتشف في هذا الرأي خللاً على مستوى مراحل استنباطه، و على الفقيه الناضج الواعي في حالات من هذا النوع أن يعيد النظر في الخطوات الاجتهادية التي قام بها، فيبذل جهوداً مضاعفة في تنقيب المصادر و تقليبها. إن مجموعة «الفقه و الحياة» تنبني فلسفتها على همّي: نقاء الفقه و خلوصه، و فعاليته الميدانية و إنتاجيّته العملية، و هي تسعى بجدّ إلى الجمع بين الأصالة و الواقعية، من هنا فهي ترصد الموضوعات و المسائل الجديدة و المستجدّة. و هذا هو الكتاب الثالث في هذه السلسلة، يحمل عنوان «مساواة الدية بين الرجل والمرأة و المسلم و الكافر»، نقدّمه إلى أصحاب الفكر و رجال المعرفة، آملين أن ينفتح بذلك السبيل إلى دراسات جادة و جديدة للفقه الإسلامي. والحمدالله -------------------------------------------------------------------------------- (1) البقرة: 22. (2) البقرة: 29. (3) الجاثية: 13. (4) البقرة: 185. (5) الشورى: 13.
|