|
الفصل الثالث ـ نظرية التفاضل في الدية بين المسلم وغيره، دراسة ونقد
الفصل الثالث
نظرية التفاضل في الدية بين المسلم وغيره، دراسة ونقد يذهب مشهور الفقهاء إلى أنَّ دية غير المسلم أقلّ من دية المسلم، وفي هذه المضمار، يذهب الفقهاء الشيعة إلى أنَّ مقدار دية غير المسلم ثمانمائة درهم، فيما يتبنّى بعض فقهاء أهل السنّة أنَّ ديتهم تقع على النصف من دية المسلم، ويذهب بعض آخر إلى أنَّها ثلث دية المسلم. فريق آخر يذهب إلى أنَّ دية الذمي غير المجوسي مساويةٌ لدية المسلم، فيما يفصّل فريق في دية المعاهد، فلو قُتل عمداً كانت له دية المسلم، ولو كان القتل خطأ فديته نصف دية المسلم([1]). يكتب صاحب مفتاح الكرامة فيقول: «أما الذمي الحرّ فديته ثمانمائة درهم إجماعاً، كما في الانتصار والخلاف والغنية وكنز العرفان، وهو المشهور روايةً وفتوى، كما في كشف اللثام، وأشهر فيهما كما في الروضة، والمشهور في عمل الأصحاب، كما في المقتصر، والمشهور، كما في النافع، وكشف الرموز، والمهذب البارع، والتنقيح، وملاذ الأخيار، وعليه عامة أصحابنا إلاَّ النادر، كما في الرياض»([2]). مستند النظرية المشهورة إنّ أهم مدرك يعتمد عليه المشهور في نظريّتهم هو الروايات الدالّة على هذا القول، فقد اعتبرها صاحب مفتاح الكرامة سبعة أحاديث([3])، إلا أنَّ التحقيق أنَّها تبلغ الثمانية، تفصيلها كما يلي: الرواية الأولى: عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «دية اليهودي والنصراني والمجوسي ثمانمائة درهم»، ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن عيسى، والذي قبله بإسناده عن أبي علي الإشعري مثله([4]). الرواية الثانية:...عن أبي أيوب، وابن بكير جميعاً، عن ليث المرادي، قال: سألته عن دية اليهودي والنصراني والمجوسي، فقال: «ديتهم جميعاً سواء، ثمانمائة درهم»، ورواه الشيخ بإسناده عن ابن محبوب، وكذا الحديثان قبله([5]). الرواية الثالثة: عبدالله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن عبدالله بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه، قال: سألته عن دية اليهودي والنصراني والمجوسي، كم هي؟ سواء؟ قال: «ثمانمائة ثمانمائة، كل رجل منهم»([6]). الرواية الرابعة: محمد بن الحسن بإسناده عن ابن أبي عمير، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «بعث النبي(صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد إلى البحرين، فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس، فكتب إلى النبي(صلى الله عليه وآله)إنّي أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة درهم ثمانمائة، وأصبت دماء قوم من المجوس، ولم تكن عهدت إليّ فيهم عهداً، فكتب رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّ ديتهم مثل دية اليهود والنصارى، وقال: إنّهم أهل الكتاب»([7]). الرواية الخامسة: وبإسناده عن إسماعيل بن مهران، عن درست، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن دية اليهود والنصارى والمجوس، قال: «هم سواء ثمانمائة درهم»، قلت: إن أخذوا في بلاد المسلمين وهم يعملون الفاحشة أيُقام عليهم الحدّ؟ قال: «نعم، يحكم فيهم بأحكام المسلمين»، ورواه الصدوق بإسناده عن ابن مسكان، والذي قبله بإسناده عن ابن أبي عمير مثله([8]). الرواية السادسة: وبإسناده عن صفوان، عن ابن مسكان، عن ليث المرادي، وعبدالأعلى بن أعين جميعاً، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «دية اليهودي والنصراني ثمانمائة درهم»([9]). الرواية السابعة: محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن عبدالرحمن بن حماد، عن عبدالرحمن بن عبدالحميد، عن بعض مواليه، قال: قال لي أبوالحسن (عليه السلام) : «دية ولد الزنا دية اليهودي ثمانمائة درهم»([10]). الرواية الثامنة: وعنه، عن محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن بعض رجاله، قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن دية ولد الزنا؟ قال: «ثمانمائة درهم، مثل دية اليهودي والنصراني والمجوسي». ورواه الصدوق بإسناده عن جعفر بن بشير مثله([11]). الروايات الثماني، دراسة ونقد إنَّ دلالة هذه الروايات الثماني على الرأي المشهور واضحة، ولامجال للارتياب فيها، كما أنَّ من بينها روايات معتبرة([12])، وعليه فإذا قصرنا النظر على هذه الروايات فإنَّ النظرية المشهورة يمكن تبنّيها والدفاع عنها حينئذ. إلاَّ أنَّ في مقابل هذه الروايات أحاديث أخرى تختلف عنها في المضمون، ومن بينها أيضاً ما هو معتبر سنداً، وهذا ما يقدح بالاستدلال بالروايات الثماني المذكورة. هذا، بعيداً عن أنَّ الأصول والقواعد الإسلامية العامة وأدلّة تشريع الدية تقتضي هي الأخرى ما يعاكس هذه الروايات المشار إليها. وبناءً عليه، يمكن القول: إنَّ هذه الروايات الثماني تواجه مشكلتين رئيستين هما: أ ـ التعارض مع طائفة أخرى من الروايات الخاصّة. ب ـ التعارض مع الأصول والقواعد العامة الإسلامية وأدلّة تشريع الدية. ونحاول هنا الإفاضة في شرح هاتين المشكلتين المذكورتين. في مقابل هذه الروايات الثماني، ثمَّة طوائف أربع أخرى من الأحاديث تختلف عنها في المضمون وهي: 1ـ الطائفة التي تدلّ على أنَّ دية الذمي ثمانمائة درهم. 2 ـ الطائفة التي تدلّ على أنَّ دية أهل الكتاب أربعة آلاف درهم. 3 ـ الطائفة التي تدلّ على أنَّ دية اليهودي، والمسيحي، والمجوسي مساوية لدية المسلم. 4 ـ الطائفة التي تدلّ على أنَّ دية الذمي مساوية لدية المسلم. وتفصيل هذه الطوائف الأربع كما يلي: الطائفة الأولى: دية الذمّي ثمانمائة درهم وهناك روايات ثلاث في هذا المضمار: الأولى: ... وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعاً، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) ـ في حديث ـ قال: «دية الذمي ثمانمائة درهم»([13]). الثانية: بإسناده عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : كم دية الذمي؟ قال: «ثمانمائة درهم»([14]). الثالثة: وبإسناده عن محمد بن الحسن الصفار، عن ابراهيم بن هاشم، عن عبدالرحمن بن حماد، عن ابراهيم بن عبدالحميد، عن جعفر (عليه السلام) قال: قال: «دية ولدالزنا دية الذمى ثمانمائة درهم».([15]) الطائفة الثانية: دية أهل الكتاب أربعة آلاف درهم وهناك روايتان بهذا المضمون هما: الأولى: محمد بن علي بن الحسين، قال: «روي أن دية اليهودي والنصراني والمجوسي أربعة آلاف درهم، أربعة آلاف درهم; لأنَّهم أهل الكتاب»([16]). الثانية: وبإسناده عن محمد بن خالد، عن القاسم بن محمد، عن علي، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم»([17]). الطائفة الثالثة: تساوي دية اليهودي والمسيحي والمجوسي مع دية المسلم وثمَّة حديث واحد هنا هو: وبإسناده عن إسماعيل بن مهران، عن ابن المغيرة، عن منصور، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «دية اليهودي، والنصراني، والمجوسي دية المسلم». ورواه الصدوق بإسناده عن عبدالله بن المغيرة مثله([18]). الطائفة الرابعة:تساوي دية الذمي ودية المسلم وفي هذه الطائفة حديثان: الحديث الأول: وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان، عن زرارة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «من أعطاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ذمةً فديته كاملة»، قال زرارة: فهؤلاء؟ قال أبوعبدالله (عليه السلام) : «وهؤلاء من أعطاهم ذمّة؟»([19]). الحديث الثاني: محمد بن الحسن بإسناده عن ابن محبوب، عن أبي أيّوب، عن سماعة، قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن مسلم قتل ذمياً؟ فقال: «هذا شيء شديد لايحتمله الناس، فليعط أهله دية المسلم حتى ينكل عن قتل أهل السواد، وعن قتل الذمي»، ثم قال: «لو أنّ مسلماً غضب على ذمي، فأراد أن يقتله ويأخذ أرضه ويؤدي إلى أهله ثمانمائة درهم، إذاً يكثر القتل في الذميين»([20]). الجمع بين الروايات إنَّ تعارض هذه الطوائف الأربع وعدم انسجامها مع بعضها، وكذا مع الروايات الثماني السابقة، واضح لالُبس فيه، وقد اهتمّ الفقهاء والمحدّثون بدراسة سبل الخروج من هذا التنافي، فقد قسّم الشيخ الصدوق أهل الكتاب إلى فئات ثلاث، واضعاً لكلّ فئة منها دية خاصة به، فدية أولئك الذين وقعت بينهم وبين النبي(صلى الله عليه وآله) أو أحد الأئمة عهود ومواثيق ثم وفوا بها والتزموا بمضمونها تساوي دية المسلمين، أما دية أولئك الذين قبلوا الظروف والشروط العامة للمجتمع الإسلامي فهي أربعة آلاف درهم، وهذا الفريق الأخير إذا ما خالف شرائط الذمة وتخلّف عنها تصبح ديته ثمانمائة درهم([21]). إلاَّ أنَّ مشهور الفقهاء قدّموا الروايات الثماني الأوَل، فيما حملوا سائر الروايات على التقية; انطلاقاً من موافقتها لآراء أهل السنّة([22]). إلاَّ أنّنا نرى أنَّ وجوه الجمع هذه ليس هناك شاهد مقبول عليها، لذا فهي لا تحسب جمعاً عرفياً، فالجمع الذي قام به الشيخ الصدوق بحمل الروايات على أقسام الكفار، وإن كان جمعاً لطيفاً وموافقاً للقواعد، ولنظام الجمع بين المطلق والمقيد، في جمعه بين مادلّ على أنَّ ديتهم دية المسلم، وما دلّ على أنَّها ثمانمائة درهم أو أربعة آلاف درهم... كما سنبِّين ذلك لاحقاً بالتفصيل، إلاَّ أنَّ الجمع بين طائفتي الثمانمائة درهم والأربعة آلاف درهم هو نوع من الاستحسان، ولايتوفر في أيدينا أيُّ مستند عرفي ومن داخل الروايات يساعد عليه. وهكذا الحال في كلام المشهور، بحملهم هذه الروايات على التقية; انطلاقاً من موافقتها لآراء أهل السنّة، فيما تخالف روايات الثمانمائة درهم فتاواهم... إنَّ هذا الحمل لاشاهد عليه; ذلك أنَّ الطائفة الرابعة التي تساوي دية الذمي ـ سواء كان يهودياً أو مسيحياً أو مجوسياً، وسواء كان القتل عمدياً أو خطئياً ـ بدية المسلم تخالف هي الأخرى ما ذهب إليه الفقه السنّي، إذ لا نجد فى كلماتهم مثل هذا الإطلاق، بل نرى تفصيلا بين الخطأ والعمد، أو بين اليهودي والنصراني والمجوسي، كما أشرنا إلى آراء أهل السنّة بداية هذا الفصل من هذه الدراسة. إنَّنا نعتقد أنَّه لابدّ ـ بدايةً ـ من رفع التعارض الموجود بين الطوائف الأربع الأخيرة; ليتبيّن حكمها من هذه الجهة، ثم نعمد ـ بعد ذلك ـ إلى رفع المعارضة الواقعة بينها وبين الطائفة الأولى السابقة. والذي نراه أنَّ رفع التعارض في الطوائف الأربع الأخيرة يكون بالقول: إنَّه لا تعارض بين صحيحة زرارة الدالّة على تساوي دية الذمي مع دية المسلم وسائر الروايات الأخرى، ذلك أنَّها بمثابة النصِّ على أنَّ الذّمي بالفعل متساوية ديته مع المسلم، من هنا، لا تعارض الروايتين الدالَّتين على أنَّ دية الذمي ثمانمائة درهم، وذلك أنَّ في كلمة الذمي الواردة فيهما احتمالين هما: الأول: الذمي بالفعل، والثاني: الذمي بالقوّة، ومع وجود هذا الاحتمال لايمكن حمل الذمي فيهما على الذمي بالفعل، كي يقع التعارض المذكور. وإذا قيل: إنَّ الذمي في هاتين الروايتين ظاهر في الذمي بالفعل، مع ذلك نقول: إنَّ ظهور الصحيحة أقوى من غيرها، فهي بمثابة النصِّ; فتقدّم على الروايتين المشار إليهما، وهذا نحوٌ من الجمع العرفي عند الفقهاء، وعليه لا وجود للتعارض هنا. أمَّا الروايتان الدالّتان على أنَّ أهل الكتاب، أو اليهودي والنصراني، كما جاء فيهما، ديتهما أربعة آلاف درهم، فيحملان ـ بقانون حمل المطلق على المقيد ـ على كونهم من غير أهل الذمة، ذلك أنَّ أهل الكتاب أعم من الذمي بالفعل، هذا إن لم نقل بأنَّ لسان صحيحة زرارة هو لسان الحكومة، وتقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ممَّا لا نقاش فيه. أما الرواية الدالّة على أنَّ دية اليهودي والمجوسي والمسيحي هي دية المسلمين، فيجاب عنها بهذا الوجه أيضاً، حيث نعتقد أنَّ المنظور فيها ـ بقانون حمل المطلق على المقيد ـ أهل الذمّة من اليهود، والنصارى والمجوس لا مطلقاً; وبناءً عليه، لا تتعارض صحيحة زرارة التي تساوي بين دية الذمي ودية المسلم مع الطوائف الثلاث الأخرى. وهكذا الحال في علاقة صحيحة زرارة مع الروايات الثماني المتقدمة سابقاً، والتي تحكم بأنَّ دية اليهودي والمسيحي والمجوسي ثمانمائة درهم، حيث يمكن الجمع بين الطرفين، ذلك أنَّ العنوان الأولي في روايات اليهودي والنصراني والمجوسي هو اليهودي بما هو يهودي و... أمَّا صحيحة زرارة فهي تجعل الدية عليهم بما هم مؤتمنون ومن أعطاهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذمام، ونتيجة ذلك تحمل الروايات المطلقة على صحيحة زرارة المقيدة بقيد الذّمية، أو تكون الصحيحة نفسها حاكمةً عليهم. ونستنتج من جملة ما تقدّم: أنه لا وجود للتعارض بين صحيحة زرارة وسائر الروايات الواردة في هذا الباب، انطلاقاً من تقدُّم الصحيحة عليها، وتكون النتيجة تساوي دية الذمي بالفعل مع دية المسلم. وانطلاقاً من هذه النتيجة، وعبر استخدام مبدأ إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط، نعمّم الحكم المذكور إلى كل مؤتمن أو معاهد للمسلمين، سواء كان عهده من العهود الخاصة أو العهود الدولية، والتي تتضمن الاحترام المتبادل وحفظ الطرفين أو الأطراف لحقوق بعضهم البعض، فيرى كلُّ واحد منهم الآخر مؤتمناً ومحترماً، ويكون المسلمون كذلك بالنسبة للآخرين، فتكون النتيجة تساوي دية هؤلاء جميعاً مع دية المسلم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو لا، وسواء كانوا موحّدين أو لا. والجدير ذكره أنَّ القواعد والأصول الكلّية العامة وما يستفاد من الروايات الخاصة موافق كلّه لهذا الرأي، ذلك أنَّه كما كان مال غير المسلم محترماً، وكان ضمانه كضمان مال المسلم تماماً يمكن القول: إنَّ حياته كذلك، وعلى هذا الأساس يمكن التمسّك بالأولوية القطعيّة العرفية; انطلاقاً ممَّا تقدّم، لاستفادة تساوي دية المسلم وغيره. وإذا ما رفض أحد هذا الوجه في الجمع والتقريب رغم كلّ وضوحه، إلاَّ أنَّه لايمكنه الاستناد إلى الروايات التي عدّت مدركاً للقول المشهور، ثم الإفتاء على وفقها; وذلك: أولا: إنَّ الروايات الدالّة على أنَّ دية اليهودي والمسيحي والمجوسي ثمانمائة درهم أو الروايات الدالّة على أنَّها أربعة آلاف درهم لابدّ من طرحها; لمخالفتها للكتاب، فيما تؤخذ الروايات الدالّة على تساوي دية الذمي مع دية المسلم لموافقتها له، والترجيح بموافقة الكتاب في مورد تعارض الخبرين سابق على تمام المرجحات المذكورة في باب التعارض. أما بيان مخالفة أو موافقة هذه الروايات للقرآن، فيظهر بمراجعة الآية 92 من سورة النساء حيث جاء فيها: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْم عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً). تقرّر هذه الآية أنَّ المقتول بالقتل الخطأ إذا كان مؤمناً بين المؤمنين لزم على القاتل دفع الدية إلى أهله، كما لزمه تحرير عبد مؤمن، أمَّا إذا كان المقتول مؤمناً لكنه كان بين الكافرين المعادين للمسلمين، وكان القتل خطئياً أيضاً فلايلزم القاتل سوى تحرير رقبة مؤمنة، ولو كان المقتول من أهل المواثيق المعاهدين للمسلمين لزم القاتل دفع الدية وتحرير الرقبة المؤمنة أيضاً. واللازم ذكره هنا أنَّه يستفاد من مفهوم (وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ) وهو مفهوم وصف وقع في سياق بيان القاعدة... أنَّه لو لم يكن للمقتول عهد وميثاق واحترام لا دية له، إضافةً إلى أنَّ نفس تقسيم الآية المقتولَ خطأ إلى أصناف ثلاثة ـ مع افتراض أنَّها في مقام البيان ـ دالّ دلالةً واضحة، بحكم سياق التفصيل والإطلاق المقامي، على أنَّ من هو غير مؤمن ولا من أهل الميثاق فلا دية له. وعليه، فالروايات الدالّة على أنَّ دية اليهودي والمسيحي والمجوسي مطلقاً ـ أي سواء كان معاهداً أم لم يكن ـ لا تساوي دية المسلم إن لم نقل: إنَّها ظاهرة في غير أهل العهد، فلا أقلّ من أنَّها شاملة لهم بإطلاقها، فتكون مخالفةً للكتاب، فيما الروايات التي تساوي بين دية المسلم وأهل الذمة موافقة للكتاب. ولايفوتنا التذكير بأنَّ منشأ الإشكال والخلاف مع الكتاب ليس مقدار الدية حتى يقال: إنَّها لم تبيّن في القرآن الكريم، وإنَّما أصل الدية، كما بيّناه آنفاً، ولابدَّ من الالتفات إلى أنَّ بعض المفسّرين جعل مرجع الضمير في (وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ) هو المقتول المؤمن، وبطلانه واضح، ذلك أنَّ القرآن قد ذكر قيد المؤمن في حق المقتول بين الأعداء فقال: (فَإِن كَانَ مِن قَوْم عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، تماماً كما ذكر في صدر الآية القيد نفسه في المقتول، وإذا كان المراد من المقتول مع ميثاق هو المقتول المؤمن، أي المؤمن الذي هو من أهل الميثاق فلابد من ذكر قيد الإيمان، ومعنى ذلك أنَّ عدم ذكر هذا القيد يمثِّل حجَّةً قطعيّة ودليلاً واضحاً على أنَّ المقصود من المقتول بين أهل الميثاق هو المقتول الذي يندرج فيهم لا المؤمن عندهم. ثانياً: إنَّ روايات الثمانمائة درهم تعارض الطائفتين الأخيرتين من الطوائف الأربع التي ذكرناها سابقاً، وهي ما دلّ على أنَّ دية اليهودي والمسيحي والمجوسي أربعة آلاف درهم، وما دلّ على أنَّها مساوية لدية المسلم، وحيث لا ترجيح لها على هاتين الطائفتين تغدو النتيجة تكافأهما، وكل متعارضين متكافئين لا ترجيح لأحدهما على الآخر يجري فيهما قانون التخيير، وعليه فروايات الطائفة الرابعة التي تتضمن تساوي دية المسلم وغيره هي التي نأخذها، كما جاء في الحديث: «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك»([23]). ثالثاً: إنَّ ما جُعل مستنداً للمشهور من أنَّ الروايات المخالفة لأهل السنّة منحصرة في الطائفة الدالّة على الثمانمائة درهم، فيما سائر الطوائف موافقة لهم، لايصحّ، حتى لو صرفنا النظر عن الجواب المتقدّم القائل بأنَّ مخالف أهل السنّة لاينحصر بهاتين الطائفتين، وذلك أنَّ الترجيح بالمخالفة يأتي بعد الترجيح بموافقة الكتاب العزيز، وكما أسلفنا فإنَّ روايات الثمانمائة درهم، وتمام الروايات التي تدلّ بشكل مطلق على عدم تساوي الدية في اليهودي، والنصراني، والمجوسي كلّها تعارض القرآن الكريم، أما الروايات التي تدلّ على تساوي دية الذّمي مع المسلم فهي موافقة للقرآن، وعليه لا تصل النوبة إلى الترجيح بمخالفة أهل السنّة. نتيجة البحث إنَّ العهد والميثاق ـ على أساس المنطق القرآني ـ لهما من القيمة ما يساوي الإيمان نفسه، ذلك أنَّه في حالة القتل الخطأ للمؤمن أو لأهل الميثاق يصدر القرآن حكماً بتحرير رقبة مؤمنة، وكذلك دفع الدية إلى أولياء المقتول، والدية ذات جانب ضماني يجبر الخسائر الواردة، أما تحرير الرقبة المؤمنة فذا جانب جبراني يقابل خسران حياة إنسان، وهو الإنسان المقتول. كما أنَّ المؤتمنين أو المعاهدين للمسلمين، سواء كانت عهودهم خاصة أو كانت عهوداً دوليةً تتضمّن الاحترام المتبادل وحفظ كلّ طرف حقوق الطرف الآخر، واعتباره محترماً (و هكذا الحال في المسلمين بالنسبة للآخرين) إنَّ هؤلاء جميعاً تساوي ديتهم دية المسلم، سواء كانوا من أهل الكتاب أم لا، وسواء كانوا موحّدين أم لا. وقد سبق أنَّ الروايات دالّة على هذا الأمر، وهذا يعني أنَّ القرآن الكريم، والسنّة الشريفة متفقان، ومعناه أنَّه يؤخذ هنا بالقرآن والعترة، والأخذ بهما معاً مسؤولية لازمة ووظيفة ضرورية وبديهية. -------------------------------------------------------------------------------- ([1]) الفقه على المذاهب الأربعة 5: 370 ـ 372. ([2]) مفتاح الكرامة 21: 176. ([3]) المصدر نفسه. ([4]) وسائل الشيعة 29: 217، باب 13، ح 2. ([5]) المصدر نفسه: 218، باب 13، ح 5. ([6]) المصدر نفسه، باب 13، ح 6. ([7]) المصدر
|