|
مصباح [ 3 ]
مصباح [ 3 ]
[ في أقسام الطواف المنذور وحكم اشتراط الطهارة فيها ] إذا نذر الطواف المندوب، فلا يخلو إمّا أن يُطلِق النذر ولا يتعرّض لشيء من الطهارة والحدث، أو يصرّح بعدم تعيين أحدهما، فيوجب على نفسه الطواف متطهّراً أو محدثاً، أو يقيّد النذر بأحدهما بعينه. فهاهنا مسائل: الأُولى: أن يقيّد النذر بالطهارة، ولا ريب في انعقاد النذر، ووجوب القيد، ولزوم الكفّارة على تقدير الحنث ولو بمخالفة القيد، كما لو طاف محدثاً. الثانية: أن يطلق النذر، فينعقد إجماعاً وتجب الطهارة; لأنّه طواف واجب مشروط بالطهور، فيجب. فلو ترك الطواف عصى ووجبت عليه الكفّارة، وكذا لو طاف محدثاً; لتوقّف المنذور على الطهارة وإن لم يتعلّق النذر بها، كما لو نذر الصلاة وصلّى من غير طهارة. ومن هذا القسم ما إذا نذر الطواف وأن يطوف محدثاً، فإنّه يجب عليه الطواف متطهّراً ; لسبق انعقاد المطلق المقتضي لوجوب الطهارة، فيبطل الثاني، وهو المقيّد بالحدث. ومثله ما لو نذر الطواف محدثاً وقصد التحليل إلى نذر المطلق والمقيّد. الثالثة: أن يصرّح بعدم التعيين، وهو كسابقه في الانعقاد ووجوب الطهارة; فإنّه مطلق صُرّح بفردَيه على سبيل البدل، فيكفي في رجحانه رجحان أحدهما، ويتعيّن ذلك عليه شرعاً بمقتضى نذره الصحيح. ومثله ما لو نذر أن يصلّي بطهارة أو غيرها، أو في مكان مغصوب أو مباح، أو يصوم العيد أو ما بعده، أو يتزوّج إحدى هاتين وكانت إحداهما ذات بعل أو بينه وبينها رضاع أو نسب، فإنّه ينعقد النذر ويتعيّن الصحيح من الفردين في جميع ذلك. هذا، إذا نذر المفهوم المردّد بين فرديه، فأمّا إذا نذر التخيير بينهما، فإنّه لا ينعقد; فإنّ التخيير بين الجائز والمحرّم محرّم، فلا ينعقد نذره. الرابعة: أن يقيّد النذر بالحدث ويوجب على نفسه الطواف محدثاً. وفيه وجوه: بطلان النذر من أصله، فلا يجب به شيء. وصحّته، إمّا مع إلغاء القيد، فيجب الطواف متطهّراً، أو تعيينه، فيجب عليه محدثاً، أو من غير تعيين، فيجوز الأمران. والأشبه الأوّل ; لأنّه لو صحّ فإمّا أن تجب الطهارة، وهو خلاف مقتضى النذر المقيّد بالحدث، أو لا تجب، وهو خلاف ما اقتضته الأدلّة من توقّف الطواف على الطهارة، والجمع بين الأمرين ممتنع قطعاً، فتعيّن البطلان. [ الصلاة المنذورة واشتراط الطهارة فيها: ] ومثل ذلك القول فيما إذا نذر صلاة النافلة وأطلق النذر أو قيّده بما يجوز في النافلة دون الفريضة، كالجلوس، والركوب، والتبعيض، وغيره. وقد صرّح الأصحاب بأنّه إذا أطلق نذرها وجب فيها كلّ ما يجب في الفرائض الأصليّة من الاستقبال، والقيام، والاستقرار، والسورة وغيرها(1). وحكى العلاّمة في التذكرة(2) والنهاية(3) الإجماع على أنّه يشترط فى المنذورة جميع ما يشترط في الفرائض اليوميّة إلاّ الوقت. والوجه في ذلك: عموم ما دلّ على اعتبار تلك الأُمور في مطلق الفرائض، أو في الصلاة مطلقاً بعد إخراج النافلة، ولا ريب أنّ النافلة بعد النذر تخرج عن النفل وتدخل في الفرض، فيلحقها جميع أحكامه. ومن ثَمّ جاز فيها الجماعة، وتغيّر فيها حكم الشكّ وغيره. [ وجود الخلاف في هذا الحكم: ] ويظهر من الشهيد الثاني في الروضة(4)، والروض(5) وجود الخلاف في هذا الحكم، حيث جعل القول بثبوت أحكام الواجب أجود القولين، أو القول الأصحّ ; فإنّه يقتضي تحقّق القول ببقاء أحكام الندب. والقائل به غير معروف، ولكن مال إليه من المتأخّرين السيّد الفاضل في المدارك(6)، والعلاّمة المجلسي في البحار(7)، واختاره صاحب كشف اللثام(8) ; تمسّكاً بأصل البراءة، واستصحاب بقاء أحكام الندب، وعملا بعموم أدلّة الوفاء بالنذر، وخصوص رواية عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام)، قال: سألته عن رجل جعل الله عليه أن يصلّي كذا وكذا، هل يجزيه أن يصلّي ذلك على دابّته، وهو مسافر ؟ قال: «نعم»(9). وضعف الجميع ظاهر ; فإنّ الأصل بمعنييه(10) لا يصلح لمعارضة الأدلّة الدالّة على ثبوت أحكام الواجب، من نصّ أو إجماع. وأدلّة الوفاء بالنذر لا تنافي ذلك بوجه; فإنّ الوفاء به يتحقّق مع الإتيان بشروط الواجب قطعاً. وأمّا الرواية، فمع عدم وضوح سندها، باشتماله على محمّد بن أحمد العلوي(11)، مأوّلة بالحمل على الاضطرار، أو متروكة بمخالفتها الإجماع، والأخبار الدالّة على اشتراط الاستقرار في جميع الفرائض حال الاختيار. [ حكم الصلاة المنذورة المقيّدة بما ينافي الوجوب:] هذا، إذا أَطلق النذر، فأمّا إذا قيّده بما ينافي الوجوب، كالجلوس، والركوب، ونحوهما: فقيل: بانعقاد النذر، ولزوم القيد. وهو اختيار الشهيد الثاني (رحمه الله) في جملة كتبه(12)، وجملة ممّن تأخّر عنه(13). وقيل: يصحّ النذر ويلغو القيد، فيجب فيه ما يجب في الواجب. وبه قال الشهيد في الذكرى(14)، والبيان(15). وقيل: يصحّ ولا يتعيّن قيده، بل يجوز الإتيان به وبغيره. وإليه ذهب العلاّمة (رحمه الله) في القواعد(16)، والنهاية(17)، والتذكرة(18). وقيل: يبطل النذر من أصله. واستظهره المحقّق الكركي في شرح القواعد(19)، واحتمله العلاّمة في النهاية(20)، وتردّد بينه وبين غيره من الوجوه المتقدّمة في بعض فروع التذكرة(21). ومثل هذا الاختلاف اختلافهم في نذر الصلاة في الأماكن المكروهة، كالحمّـام، أو التي لا مزيّة لها، كالدار. ويدلّ على بطلان النذر المقيّد بالمنافي في الصلاة وغيرها نحو ما تقدّم في نذر الطواف(22); فإنّ عموم الأدلّة المثبتة لشروط الواجب وأجزائه ينفي تحقّق الواجب بدون تلك الأجزاء والشروط. فلو صحّ النذر المقيّد بخلافها، فإمّا أن يصحّ المقيّد(23) فيلزم وجود المشروط بدون الشرط، أو الكلّ بدون الجزء، أو التكليف بالمتناقضين، أو يصحّ المطلق ويلغو قيده، فيلزم بقاء الجنس مع ارتفاع الفصل، وبطلان المنذور وصحّة غيره، أو يلغو اعتبار تعيينه وإن جاز، وهو خلاف مقتضى الأدلّة والنذر جميعاً، والثاني بأقسامه باطل، فتعيّن البطلان. لا يقال: نختار الأوّل، ونخصّص العموم بما دلّ على وجوب الوفاء بالنذر; لأنّ وجوب الوفاء به مشروط بصحّته، والصحّة هنا منتفية بمقتضى العموم المذكور، على أنّ نذر المقيّد من حيث أنّه مقيّد يستلزم توجّه النذر إلى القيد والمقيّد معاً، وقصد الأمرين بالنذر ولو على سبيل الاجتماع والقيديّة، والقيد لكونه مرجوحاً لا يتعلّق به النذر، والمقيّد باعتبار ذاته مع قطع النظر عن القيد غير منذور، ومنع تعلّق القصد بالقيد أصلا مكابرة لا تُسمع. وأيضاً، فالقول بصحّة هذا النذر ونحوه على وجه يتعيّن القيد يفضي إلى تمكين المكلّف من تحريم أكثر الطاعات والقربات، بل التوصّل إلى تحريم السنن كلّها; فإنّه إذا نذر أن يصلّي النوافل كلّها من جلوس، أو راكباً على غير القبلة من غير سورة، حَرُم عليه القيام والاستقبال والاستقرار وقراءة السورة في جميع النوافل. ولو نذر أن يصلّي الفرائض جميعها في الحمّـام، أو في الدار منفرداً، حرمت عليه الجماعة والصلاة في المسجد. ولو نذر أن يزور كلّ يوم من بُعد، حَرُم عليه الزيارة من قرب، مع عدم إمكان الجمع. ولو نذر أن يفعل الفرائض مقصورةً على أجزائها الواجبة، حَرُم الإتيان بالمندوبة مطلقاً. ولو نذر أن يفعل في عمره طاعة واحدة، امتنع غيرها من الطاعات. ولو نذر أن يفعل الواجبات وحدها، حَرُم عليه جميع المندوبات. وهذه أُمور مستبعدة جدّاً، بل مقطوع بفسادها، وقد قال الله تعالى: ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لاَِيْمانِكُمْ أنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا )(24)، والنذر قد شُرّع طاعةً، فلا يؤدّي إلى تحريمها، ولذا ترى أنّ العلاّمة(25)، وغيره(26) مع تصحيحهم لمثل هذا النذر، منعوا من تعيين القيد، وجوّزوا العدول إلى الأفضل. وحكى فخر المحقّقين(27) وغيره(28) الإجماع على عدم التعيين في ما إذا نذر الصلاة في الحمّـام ونحوه من الأماكن المكروهة. قال في شرح الروضة ـ بعد حكايته ذلك ـ: «وهل يبطل النذر من أصله ؟ الأظهر ذلك. وقيل: لا، ويرد عليه أنّ المقصود مجموع المقيّد مع القيد، فإمّا أن يصحّا أو يبطلا، إلاّ لزم صحّة أمر غير مقصود»(29). هذا كلامه (رحمه الله). ويلزمه القول بالبطلان في التقييد بما ينافي الواجب وإن لم يقل به، فإنّه في معناه، بل هو أولى بذلك، كما عُلم ممّـا ذكرناه. وأمّا الأزمنة المكروهة: فلو لا الإجماع على انعقاد النذر فيها ولزومه(30)، لأمكن المنع فيه أيضاً. وقد ذكر الأصحاب للفرق بين الزمان وغيره وجوهاً لا تخلو عن تكلّف(31)، ويأتي تحقيق ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى(32). تنبيه: لا يختصّ البطلان بما ذُكر من تقييد نذر الطواف بالحدث، بل يطّرد في تقييد كلّ ملتزَم بخلاف ما يلزم من وجوبه، سواء كان التزامه بالنذر أو بغيره، كالعهد واليمين والاستيجار، وسواء كان الملتزَم طوافاً أو غيره، كالصلاة ونحوها ممّـا يجوز التزامه شرعاً، وسواء كان القيد المنافي للوجوب حدثاً أو غيره، كالجلوس والركوب في الصلاة وغيرها ممّـا يجوز في المندوب دون الواجب. ووجه الاطّراد معلوم ممّـا سبق بيانه. ولا يرد عليه مثل نذر الوتيرة، والغفيلة، وصلاة ألامام عليّ (عليه السلام)، ممّـا يخالف الواجب بحسب أصل وضعه; فإنّ ذلك ليس من باب تقييد الملتزم; إذ التقييد إنّما يكون فيما يحتمل الوجوه، لا ما كان على وجه واحد. ويحتمل في مثل الغفيلة وجوب السورة مع الآيات بعد النذر، وفي الوتيرة وجوب القيام ـ على القول بجوازه فيها ـ قبله. ولعلّ الأوجه الاكتفاء بالوضع الأصلي في نحو ذلك. تتميم: اعلم أنّ « وجوب الوضوء لهذه الغايات »، و « تحريمها على المحدث »، و « اشتراطها بالوضوء » مطالب متغايرة، لا يغني السابق منها عن اللاحق; فإنّ وجوب الوضوء مشروط بوجوب تلك الأُمور، والتحريم ليس مشروطاً به مطلقاً. ويختصّ التحريم بالعالم العامد، بخلاف الشرطية; فإنّها ثابتة مع العلم والجهل، والعمد والسهو. فلا يُكتفى بالوجوب عن التحريم، ولا بالتحريم عن الاشتراط. وأمّا المسّ(33)، فيُكتفى فيه بالتحريم; لأنّ الطهارة شرط في إباحة المسّ لا في صحّته; لأنّه لا يتّصف بالصحّة والفساد إلاّ نادراً. -------------------------------------------------------------------------------- (1). عبّروا عن ذلك بأنّه كلّ ما يشترط في اليوميّة يشترط في المنذورة. وينقل المؤلّف الإجماع على ذلك عن تذكرة الفقهاء ونهاية الإحكام. (2). تذكرة الفقهاء 4: 197. (3). نهاية الإحكام 2: 85. (4). الروضة البهيّة 1: 318. (5). روض الجنان 2: 862. (6). مدارك الأحكام 3: 139. (7). بحار الأنوار 84: 92 ـ 93، أبواب مكان المصلّي، الباب 11. (8). كشف اللثام 4: 377. (9). التهذيب 3: 253 / 596، الزيادات في باب الصلاة في السفر، الحديث 105، بتفاوت يسير، وسائل الشيعة 4: 326، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 14، الحديث 6. (10). أي: بمعنى أصالة الإباحة و الاستصحاب. (11). قال السيّد في مدارك الأحكام 3: 139، بعد الاستدلال بالرواية: « وفي الطريق محمّد بن أحمد العلوي، ولم يثبت توثيقه ». واعلم أنّ العلاّمة صحّح ما رواه عليّ بن جعفر وفي سنده محمّد بن أحمد العلوي، في منتهى المطلب 1: 52، ومختلف الشيعة 1: 19، ذيل المسألة 3. (12). كما في الروضة البهيّة 1: 142، وروض الجنان 2: 862، والمقاصد العليّة : 24، والحاشية الأُولى على الألفيّة ( المطبوعة ضمن المقاصد العليّة ): 653، ومسالك الأفهام 11: 352. (13). منهم: المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 3: 10، والسبزواري في ذخيرة المعاد: 345، السطر 40، والمحدّث الكاشاني في مفاتيح الشرائع 2: 33. (14). ذكرى الشيعة 4: 234. (15). البيان: 213. واعلم أنّه وقع خطأ في عبارة النسخة المصحّحة من البيان، ففيه: « ولو نذر الصلاة الواجبة على وجه مرجوح، كالصلاة في الأماكن المكروهة... فالأقرب لغو النذر، وإن كانت غير واجبة بالأصل فالأشبه لغو القيد ». والظاهر أنّ الصحيح: «على وجه غير مرجوح ». (16). قواعد الأحكام 1: 295. (17). نهاية الإحكام 2: 86 ـ 87. (18). تذكرة الفقهاء 4: 200. (19). جامع المقاصد 2: 483 ـ 484. (20). نهاية الإحكام 2: 87. (21). تذكرة الفقهاء 4: 200، ذيل المسألة 505. (22). راجع: الصفحة 17، ذيل المسألة الرابعة. (23). في « ش » و « ل »: القيد. (24). البقرة ( 2 ): 224. (25). كما في نهاية الإحكام 2: 86 ـ 87، حيث قال فيه: « ولو قيّد نذر الصلاة بمكان... وإن لم يكن له مزيّة فالأقوى عدم وجوب القيد، فيجوز ايقاعها حينئذ في أيّ موضع شاء ». ومثله ما في تذكرة الفقهاء 4: 198. وقد ذكر المصنّف رأي العلاّمة في الصفحة 20. (26). كالشهيد في ذكرى الشيعة 4: 233 ـ 234، والمحقّق السبزواري في كفاية الأحكام 1: 113، و 2: 496 ـ 497. (27). إيضاح الفوائد 1: 132، حيث قال: « المكان... وإن حرم إيقاعها فيه أو كره لم ينعقد الوصف إجماعاً ». (28). هو الفاضل الإصفهاني في المناهج السويّة ( مخطوط ): 250 . (29). المناهج السويّة في شرح الروضة البهيّة ( مخطوط ): 250. (30). نقل عليه الإجماع فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد 1: 132، حيث قال: « لو عيّن وقتاً مكروهاً تعيّن بالنذر إجماعاً، وفي المكان لا ». (31). منهم: الشهيد في ذكرى الشيعة 4: 235، والشهيد الثاني في روض الجنان 2: 859، والفاضل الإصفهاني في كشف اللثام 4: 378. (32). يأتي في كتاب الصلاة، القول في مكان المصلّي. (33). المراد مسّ كلمات القرآن وأسماء المعصومين(عليهم السلام)، فإنّه يمكن أن يكتفى عن وجوب الوضوء للمسّ بحرمة المسّ بدون الوضوء.
|