|
وقفة مع حديث «لا سبق»
وقفة مع حديث «لا سبق»
أحد الأحاديث الأخرى التي استدلّ بها على حرمة هذا النوع من المسابقات هو الحديث الوارد من طرق أهل السنّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن طرق الشيعة عن الإمام الصادق، بصورة صحيحة، وهو: «لا سبق إلاَّ في خفّ أو حافر أو نصل..»(47). وقبل الورود في هذا البحث، نجد أنفسنا مضطرّين لذكر مقدّمة، تجيب عن السؤال التالي: كيف تُقرأ مفردة «سبق» هنا؟ هل بسكون الباء أم بفتحها؟ وحيث كان لكلٍّ من الاحتمالين معنى مختلف ومفهوم مغاير للآخر، كما صار سبباً لاختلاف الآراء والفتاوى، لذا يستدعي الأمر المزيد من الدقة والتركيز والتأمل. يقول الشهيد الثاني: «وربما رواه بعضهم بسكون الباء، وهو المصدر، أي لا يقع هذا الفعل إلاَّ في ثلاثة; فيكون ما عداها غير جائز، ومن ثمَّ اختلف في المسابقة بنحو الأقدام، ورمي الحجر، ورفعه، والمصارعة، وبالآلات التي تشتمل على نصل، بغير عوض، هل يجوز أم لا؟ فعلى رواية يجوز، وعلى السكون لا، وفي الجواز ـ مع شهرة روايته بين المحدّثين ـ موافقةٌ للأصل، خصوصاً مع ترتّب غرض صحيح على تلك الأعمال»(48). ويقول الفيض الكاشاني(رحمه الله) في كتاب «الوافي»: «والسبق إن قرئ بتسكين الباء أفاد الحديثُ المنع من الرهان في غير الثلاثة، وإن قرئ بالتحريك، فلا يفيد إلاَّ المنع من الأخذ والإعطاء في غيرها دون أصل المسابقة»(49). أما صاحب الرياض، فيستفيد من هذا الحديث حرمة مطلق المسابقات إلاَّ في الموارد الثلاثة، إنَّه يقول: «لعدم إمكان إرادة نفي الماهية، فتحمل على أقرب المجازات، وهو إما نفي جميع أحكامها التي منها الصحّة والمشروعية أو نفيها خاصّة»(50). إذ طبقاً لهذا الكلام تحرم تمام المسابقات إلاَّ الثلاثة المذكورة. وفي مقابل هذا الموقف المتشدّد، هناك نظرية مختلفة تماماً تُستنبط من هذا الحديث، ومستنبطُ هذا الرأي الدقيق هو الفقيه المحقق المغفور له المقدس الأردبيلي(رحمه الله)، وتبعه الفاضل السبزواري. يكتب المحقق الأردبيلي يقول: «ولا دلالة في الخبر ـ على الوجهين ـ على التحريم، أمَّا على الأول، فلما ذكر، ولأنه قد يقال: معناه أن لا لزوم أو لا يملك السبق والعوض إلاَّ في هذه الثلاثة من بين الأسباق والأفعال التي يُسابق عليها; فلا يدلّ على تحريم الفعل والملاعبة مع العوض والرهانة أيضاً، بل لا يدلّ على تحريم العوض أيضاً»(51). أما المحقق السبزواري، فيكتب حول هذا الحديث: «ولا يخفى أنّ الخبر الأوّل ـ على الوجهين ـ لا يتعيّن معناه فيما ذكره، بل يحتمل غيره; فإنّه على الفتح يحتمل أن «لا لزوم» أو «لا تملّك» أو «لا فضل» للسبق والعوض إلاَّ في هذه الثلاثة من بين الأفعال التي يسابق عليها، وعلى هذا لا دلالة للخبر على تحريم الفعل والملاعبة مع العوض أيضاً في غير الثلاثة، بل لا يدلّ على تحريم العوض أيضاً، وعلى السكون يحتمل أن يكون معناه: لا اعتداد بسبق في أمثال هذه الأمور إلاَّ في الثلاثة، أو لا فضل لسبق إلاَّ في الثلاثة; فلا يكون دالاًّ على التحريم»(52). وعليه، فطبقاً لنظرية الأردبيلي والسبزواري، لا تحرم المسابقة ولا العوض في غير الموارد الثلاثة المعيّنة في النصوص، والذي يبدو لنا أنّ هذا الرأي أقرب إلى الحقيقة، على أساس كونه أكثر مناسبةً لسهولة الدين وسماحته، كما جاء في الحديث النبوي: «بعثني بالحنيفية السهلة السمحة»(53)، كما أنّه موافق لأصالة الجواز والحلية، بعد بطلان أدلّة القائلين بالحرمة، ومعتضدٌ بالعمومات، مثل «المؤمنون عند شروطهم»(54). والجدير ذكره أنَّ نفي مفهوم الفضل والكمال في الرواية «لا سبق» مؤيّد لما قيل في «لا صلاة لجار المسجد إلاَّ في مسجده»(55)، حيث لا ينفي ماهية ولا صحة ولا جواز صلاة جار المسجد في غير المسجد، وإنما ينفي الكمال والفضل لهذا النوع من الصلاة. كما يمكن الاستناد; لإثبات الجواز والحلية، إلى الآية الشريفة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاض مِنْكُمْ)(النساء: 29)، وذلك عبر إلغاء خصوصية التجارة، لتشمل تمام الأفعال والأعمال البشرية التي يمكن أن يحصل منها دخل مادي ولا تكون باطلةً عند العقلاء، إنَّ هذه المسابقات في كثير من الموارد لم تكن باطلةً; نظراً لوجود أغراض وأهداف عقلائية فيها، وعليه فتكون جائزةً شرعاً، سيما لو كانت تلك الأغراض من نوع سلامة القوى الفكرية والبدنية وتقوية عناصر التفكير عند الإنسان. وينظر المغفور له صاحب الجواهر إلى هذا الحديث من زاوية أخرى، ويخرج من ذلك باستنتاج مختلف، وحاصل كلامه أنّ «لا سبق» في صدد بيان عدم جواز سائر المسابقات ـ غير الموارد الثلاثة ـ بوصفها عقد مسابقة; ذلك أنّ الشارع المقدّس قد حصر عقد المسابقة في هذه الثلاثة، وعليه فإذا ما أراد شخص أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان كونها مسابقة فعمله خارج عن الحدّ الشرعي، أما إذا قام بها بعنوان آخر غير المسابقة، فلا دليل على الحرمة حينئذ، ولا يكون لهذا الحديث أي ربط بذلك. يقول المحقق النجفي: «لكن ينبغي أن يُعلم أنّ التحقيق، الحرمةُ وعدم الصحّة إذا أريد إيجاد عقد السبق بذلك; إذ لا ريب في عدم مشروعيته، سواء كان بعوض أو بدونه، ولو للأصل، فضلاً عن النهي في خبر الحصر، أما فعله لا على جهة كونه عقد سبق، فالظاهر جوازه; للأصل، والسيرة المستمرّة على فعله في جميع الأعصار والأمصار من الأعوام والعلماء»(56). ويترقَّى صاحب الجواهر بعد ذلك، فيقول: «بل لا يبعد جواز إباحتهما على العوض على ذلك، والوعد به مع استمرار رضاهما به لا على أنّه عوض شرعي ملتزم»(57). وحقيقة الأمر أنّ مثل هذا الاستنتاج من هذا الحديث تعبّد لا وجه له، وفهم هذا التعبّد من هذه الرواية مشكل عرفاً، إن لم نقل بأنّه لغو، فما هو الفرق بين المصارعة بوصفها عقداً فتكون حراماً، وهي عينها لا بهذا الوصف مع اجتماع تمام خصوصياتها، فتكون جائزةً وصحيحة؟ إنَّ هذا النوع من الحالات إنما هو مواضعات عقلائية، ولا مجال للتعبّد في البناءات والتعاقدات والتبانيات العقلائية، إلاَّ مع معونة زائدة، فلا يمكن ـ بلا دليل ـ القول بحرمة شيء ما، مثل الخمر; لأنّ له مفاسد، أما بيع الترياك فهو حلال، لعدم مفسدة فيه، بل له فوائد. هذا أولاً، وثانياً: عندما يكون الفرق بين الحلّية والحرمة في عقد السبق فقط فإن الناس بإمكانهم القيام بما يريدون دون إيقاع هذا العقد، وهذا ما يعني اللغوية. وشبيه هذا الكلام قاله الإمام الخميني في باب الربا، إذ يقول: «.. إذا كانت الحكمة في حرمة الربا ما ذكر من المفاسد; لا يجوز التخلّص عنها في جميع الموارد، بحيث لا يشذّ منها مورد، للزوم اللغو في الجعل، فتحريم الربا لنكتة الفساد والظلم وترك التجارات وتحليله بجميع أقسامه وأفراده ـ مع تغيير عنوان ـ لا يوجب نقصاً في ترتب تلك المفاسد، من قبيل التناقض في الجعل أو اللغوية فيه..»(58). وممّا قلناه حتى الآن، اتضح أنَّ المسابقات الواقعة بغير آلات القمار وأدواته إذا صدق عليها ـ عرفاً ـ أنّها من مصاديق القمار، وصدق عليها عنوانه، مثل التباري على وجهي العملة النقدية المعدنية، أو على خروج الزوج أو الفرد، والتي يلعب بها بهدف الربح والخسارة، فإنَّ هذا النوع من الألعاب حرام تكليفاً، كما أنّ المال الحاصل من هذه الألعاب لا يكون شرعياً أيضاً، وأما إذا لم يصدق القمار وعنوانه، إلاَّ أنَّه لم يكن هناك غرض عقلائي في البين، فهنا رغم عدم وجود حرمة تكليفية، إلاَّ أنّ ذلك موجبٌ للحرمة الوضعية، فلا يخلو التصرّف في المال الحاصل من إشكال. أما دليل هذه الحرمة الوضعية هنا، فهو قوله تعالى: (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بالْبَاطِلِ)، ذلك أنَّ الموارد المذكورة تعدّ من مصاديق الباطل العرفي. وأمَّا أنَّه لا حرمة تكليفية; فلأنَّ مطلق اللهو واللعب ليس بحرام، والقول بحرمتهما مطلقاً يحتاج إلى دليل خاص. وفي محصّلة الأمر، فإنَّ اللعب والمسابقة بغير آلات القمار وأدواته مع العوض إذا لم يعدّ من مصاديق القمار وكانت له أغراض عقلائية... جائز تكليفاً، كما أنه موجب للملكية واللزوم، فلا بد من دفع حقّ السبق للفائز حينئذ. __________________________________________ (47) العاملي، وسائل الشيعة 13: 248. (48) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 6: 70. (49) الكاشاني، الوافي 15: 151. (50) الطباطبائي، رياض المسائل 10: 240. (51) الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 10: 168. (52) السبزواري، كفاية الأحكام 1: 718. (53) الكليني، الكافي 5: 494. (54) العاملي، وسائل الشيعة 21: 276. (55) المصدر نفسه 5: 194. (56) النجفي، جواهر الكلام 28: 221. (57) المصدر نفسه: 222. (58) الإمام الخميني، كتاب البيع 2: 552 ـ 553.
|