|
حكم بقيّة الواجبات الماليّة
وأمّا في بقيّة الواجبات الماليّة فنقول: يمكن أن يستدلّ على كونها من الأصل، مضافآ إلى ظهور الإجماع المؤيّد بالشهرة والإجماع المنقول[1] عن الغنية[2] والكفاية[3] بصدق الدين عليها عرفآ؛ إذ ليس المناط فيه إلّا كونه مطلوبآ بمال أو عمل؛ سواء كان الطالب هو الله أوغيره، غاية الأمر أنّ الأوّل يسمّى دين الله والثاني دين الناس، وحينئذٍ، فيشمله عموم[4] ما دلّ على وجوب كون الدين من الأصل، والانصراف إلى دين الناس ممنوع. هذا مع إمكان دعوى صدق دين الناس على مثل نذر الصدقة وإعطاء شيء للفقراء أو العلماء أوشخص معيّن من أحد الأصناف، وكذا الكفّارات، فعلى فرض تسليم عدم صدقه بالنسبة إلى الحجّ والزيارات ونحوهما لايسلّم ذلک فيما ذكروا مع الإغماض عن ذلک. يمكن أن يدّعى تنقيح المناط في الدين؛ إذ بعد اشتغال ذمّته بما هو حقّ الناس، أو حقّ الله، وإمكان تأديته بماله الذي هو أولى به من وارثه يجب التأدية، ولذا يصرف ديته في دينه؛ لأنّه أولى به من غيره. والحاصل أنّ ماله الذي كان له في حياته إنّما ينتقل إلى وارثه من جهة أنّه كأنّه هو، وإنّما يصرف في دينه من جهة أولويّته بماله مع حاجته إليه، وهو صرفه في دينه وإبراء ذمّته، فينبغى أن يكون كذلک بالنسبة إلى غير الدين عمّا يكون فيه مناطه، فتأمّل. هذا مضافآ إلى التعليل في بعض الأخبار، كقول الصادق7 في حسنة معاوية بن عمّار في رجل توفّي وأوصى أنيحجّ عنه، قال: «إن كان صرورة[5] فمن جميع المال، إنّه بمنزلة الدين الواجب، وإن كان قد حجّ فمن ثلثه»[6] . فإنّ الظاهر منه أنّ كلّ ما هو بمنزلة الدين يخرج من الأصل، ومن المعلوم أنّ جميع الواجبات الماليّة يصدق عليها هذا التنزيل عرفآ. ودعوى أنّه ليس في مقام إعطاء القاعدة، بل غرضه إنشاء الحكم بالمنزلة في خصوص الحجّ ، كما ترى، وكذا دعوى عدم صدق المنزلة عرفآ بالنسبة إلى الواجبات الماليّة. ويمكن أن يستدلّ أيضآ بقوله9 في خبر الخثعميّة: «إنّ دين الله أحقّ بالقضاء»[7] . فإنّ مقتضى أحقّيّة دين الله بالقضاء من دين الناس كونه مثله في الخروج من الأصل، وإلّا فلو كان عليه دين الناس ودين الله أيضآ وأخرج الأوّل من الأصل دون الثاني يكون منافيآ؛ لكونه أحقّ منه، حيث إنّه أخرج وقضي دونه. فان قلت: إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ إذا صدق على المذكورات أنّها دين الله، وهو يتوقّف على ثبوت كونها مثل الدين ممّا له جهة وضعيّة زائدآ على وجوبها، فمجرّد وجوب شيء وإن كان ماليّآ لايجعله دينآ، وفي مثل حجّة الإسلام قد ثبت جهة الوضعيّة واشتغال الذمّة به على نحو الديون مع قطع النظر عن حيثيّة التكليف، ولم يثبت ذلک في المذكورات ولا يمكن إثباته أيضآ. قلت: سلّمنا توقّف صدق الدين على ثبوت الوضعيّة وأنّ مجرّد التكليف لايكفي في ذلک، لكن نقول: إنّ هذا المعنى متحقّق في المذكورات؛ إذ المفروض اشتغال الذمّة بها، ولذا يجوز التبرّع بأدائها ويصحّ مع الوصيّة وكفاية الثلث لها، فليست تكليفآ محضآ، وإلّا وجبت سقوطها بمجرّد الموت وعدم القدرة على الامتثال. نعم، لو شکّ في بعض الموارد أنّه كذلک أولا، لايلحقه الحكم. ثمّ إنّه لا فرق في الواجب المالي بين أن يوصى به أولا، فعلى التقديرين يخرج من صلب المال، ودعوى أنّه على الأوّل يشمله عموم ما دلّ على أنّ الوصيّة من الثلث مدفوعة بمنع الشمول للمقام، بل هو مختصّ بما كان للوصيّة مدخليّة في الإخراج بحيث لولاها لم يخرج، فلايشمل المقام. فتحصّل أنّ جميع الواجبات الماليّة خارجة من الأصل على تقديري الوصيّة وعدمها. ومنها الحجّ المنذور فهو أيضآ كذلک. وكذلک الزيارة المنذورة من بعيد، فالمراد بالواجب الماليّ ما توقّف نوعآ على بذل المال، ولذا ذهب المشهور[8] إلى إخراج الحجّ المنذور من الأصل، وعن المدارک[9] إسناده إلى قطع الأكثر، وعن كاشف اللثام[10] نسبته إلى قطعهم واستدلّوا على ذلک بكونه من الواجب الماليّ. ولكن ناقشهم في المدارک بأنّه ليس كذلک؛ إذ ليس بذل المال داخلا في ماهيّته ولا من ضروريّاته، وتوقّفه عليه في بعض الصور، كتوقّف الصلاة عليه على بعض الوجوه، كما إذا احتاج إلى شراء الماء أو استيجار المكان والساتر مع القطع بعدم وجوب قضائها من التركة، قال : وذهب جمع من الأصحاب إلى وجوب قضاء الحجّ من الثلث ومستنده غير واضح. وبالجملة النذر إنّما تعلّق بفعل الحجّ مباشرةً، وإيجاب قضائه من الأصل أو الثلث يحتاج إلى دليل[11] . وتبعه على ذلک كاشف اللثام[12] وسيّد الرياض[13] . ويمكن أن يقال: يكفي في صدق كونه واجبآ ماليّآ ودينآ ماليّآ إلهيّآ كونه موقوفآ على بذل المال عادةً ونوعآ بخلاف مثل الصلاة، فعلى هذا يشمله ما دلّ على خروجه من الأصل إن خصّصناه بالواجب الماليّ. -------------------------------------------------------------------------------- [1] ـ نقله عنه السيّد في الرياض :10 .359 [2] ـ الغنية :1 .308 [3] ـ الكفاية :2 .44 [4] ـ وسائل الشيعة :19 329، كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، الباب .28 [5] ـ الصرورة: الذي لم يحجّ بعد. (مجمع البحرين :3 365،« صرر»). [6] ـ الكافي :4 305، باب الرجل يموت صرورةً أويوصى بالحجّ، الحديث 1 ـ وسائل الشيعة :11 67 / 14258، كتاب الحجّ، أبواب وجوبالحجّ، الباب 25، الحديث .4 [7] ـ صحيح المسلم: 483، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميّت، الباب 27، الحديث 1147. وقريب منه في المستدرک :8 27، أبوابوجوب الحجّ، الباب 18، الحديث .3 [8] ـ منهم المحقّق في الشرائع :1 259، والشهيد في المسالک :2 155، والعـلّا مة في المختلف :4 379، المسألة .323 [9] ـ المدارک :7 .96 [10] ـ كشف اللثام :5 .138 [11] ـ المدارک :7 .97 [12] ـ كشف اللثام :5 .138 [13] ـ الرياض :6 .99
|