|
الصورة الثالثة: اجتماع الواجبات
وأمّا الصورة الثالثة، وهي اجتماع الواجبات وتزاحمها، كالدين والخمس والزكاة والحجّ والكفّارات والنذر وردّ المظالم ونحوها، فإن كان بعضها متعلّقآ بعين المال حال الحياة مشاعآ أومعيّنآ فهو المقدّم، كما إذا كانت العين المنذورة موجودةً، أو كان المال المتعلّق به الزكاة أوالخمس موجودآ؛ بناءً على تعلّقهما بالعين، وكذا إذا تعلّق حقّ الراهن بعين، أوحقّ الجناية بعبد ونحو ذلک. وأمّا مع كون الجميع في الذمّة مع عدم وفاء المال بها وعدم تعلّقها بعين فمقتضى القاعدة تقسيط التركة عليها بالنسبة، ولا فرق في ذلک بين تقدّم السبب في بعضها وعدمه؛ لأنّ التعلّق بالمال إنّما يكون بعد الموت، وهي متساوية النسبة إليه حينه. والظاهر عدم الفرق في ذلک بين كون بعضها لهم من بعض وعدمه؛ لعدم الدليل على التعيّن. ويحتمل تقديم حقّ الناس على حقّ الله ـ كالصلاة والصوم ـ بناءً على وجوب إخراجهما من الأصل ولو مع عدم الوصيّة. نعم، لاينبغي التّأمّل في عدم تقديم حقّ الناس على الحجّ الواجب؛ سواء كان بالأصالة أو بالنذر، بل يظهر من بعض الأخبار تقديمه على الزكاة التي هي من حقوق الناس، ففي الحسن عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله7 :قلت له: رجل يموت وعليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجّة الإسلام وترک ثلاثمائة درهم وأوصى بحجّة الإسلام وأن يقضى عنه دين الزكاة، قال: «يحجّ عنه من أقرب ما يكون، ويردّ الباقى في الزكاة».[1] وفي الخبر عنه 7 أيضآ :في رجل مات وترک ثلاثمائة درهم وعليه من الزكاة سبعمائة درهم فأوصى أن يحجّ عنه، قال 7: «يحجّ عنه من أقرب المواضع ويجعل ما بقي في الزكاة».[2] لكنّ المشهور بين الأصحاب عدم العمل بهما والحكم بما ذكرنا من التقسيط. وربّما يحملان على ما إذا كان ذلک مقتضى التوزيع والتقسيط، وفيه بُعد. نعم، عن الحدائق[3] العمل بهما والحكم بتقديم الحجّ عن الدين مطلقآ، وعن الجواهر[4] احتماله. قلت: إن أغمضنا عن إعراض المشهور فلابدّ من أنّ الاقتصار على موردهما من الزكاة، لا التعدّي إلى مطلق الدين. ويمكن حملها على صورة عدم العلم باشتغال ذمّته بالزكاة ويكون الحكم بردّ الباقي فيها من باب الاحتياط والاستحباب وإن كان بعيدآ أيضآ. ويمكن أن يستكشف منهما أهمّيّة حجّة الإسلام من سائر الديون أومن خصوص الزكاة وأنّ تقديم الأهمّ واجب، كما قد يتراءى أنّه مقتضى كون الزكاة من حقوق الناس والحجّ من حقوق الله لاينافي كونه أهمّ في نظر الشارع. والأقوى عدم العمل بهما والرجوع إلى ما ذكرنا من التقسيط؛ وفاقآ للمعظم. هذا، ولو فرض عدم وفاء حصّة البعض به، كما إذا لم يمكن الإتيان بالحجّ بحصّته، ولو من أقرب المواضع أو من مكّة سقط وصرف حصّته في البواقي. ولا دليل على الاقتصار على بعض الأعمال، كالوقوف أو الطواف بعد عدم صدق الحجّ عليهما، ولايجري قاعدة الميسور؛ لعدم صدق أنّ الطواف فقط مثلا ميسور الحجّ، مع أنّ هذه القاعدة يحتاج إلى جابر من عمل الأصحاب. نعم، لو كان وافيآ بالحجّ دون العمرة أوبها دونه إلى الممكن منهما لم يصرف في البقيّة، ولو لم يمكن التقسيط أصلا ودار الأمر بين الإتيان بأحد الواجبات أو إثنين منها تخيّر، إلّا أن يكون بعضها أهمّ، فإنّ الظاهر أنّه يتعيّن حينئذ اختياره. والفرق بينه وبين ما لو أمكن التقسيط حيث لم نقل فيه بترجيح الأهمّ أنّ فيه لم يكن الأمر دائرآ بين الأهمّ وغيره؛ حيث إنّ الجمع كان ممكنآ، وهو بقدر الإمكان أولى من الطرح، فتأمّل. ثمّ إنّ من جملة الواجبات الخارجة من الأصل كفن غير الزوجة وسائر مؤن التجهيز مطلقآ أو في غير مقدّمات الأفعال، كالحفر والحمل والغسل ونحوها ممّا هي من الواجبات الكفائيّة ولا ينبغي أخذ الأجرة عليها، وإذا تزاحم الكفن أو سائر المؤن مع الدين ونحوه فالكفن ونحوه مقدّم، لا إشكال ولا خلاف، بل عليه الإجماع والنصوص، كصحيحة ابن سنان: «الكفن من جميع المال».[5] وصحيحة زرارة عن رجل مات وعليه دين وخلّف قدر ثمن كفنه، قال: «يجعل ما ترک في ثمن كفنه إلّا أن يتّجر عليه إنسان فيكفنه ويقضي دينه بما ترک»[6] . ورواية السكونيّ، عن أبي عبدالله 7: «أوّل شيء يبدأ من المال الكفن ثمّ الدين ثمّ الوصيّة ثمّ الميراث».[7] وهذه الأخبار وإن اشتملت على خصوص الكفن إلّا أنّ الظاهر أنّ ذكره من باب المثال فيشمل سائر المؤن. وعن الخلاف[8] الإجماع عليه. والأقوى الاقتصار على ما لابدّ من بذل المال في مقابله مثل الماء والخليطين ونحوها من الأعيان التي لايجب بذلها على أحد، لا مثل الأعمال أو مقدّماتها التي هي من الواجبات الكفائيّة. ثمّ إنّهم ذكروا أنّ الكفن مقدّم على حقّ المرتهن والغرماء والمجني عليه أيضآ، وبعضهم[9] خصّ ذلک بحقّ الرهن، وبعضهم[10] به وبالجناية مطلقآ، وبعضهم[11] فرّق فيها بين العمد والخطأ، ونظرهم في ذلک مطلقآ أو في الجملة إلى إطلاق الأخبار المذكورة، وأنت خبير بأنّ إطلاقها مسوق لبيان تقدّم الكفن على الدين بما هو دين، لا حتّى مع تعلّق حقّ سابق بالعين. ودعوى أنّ تأخّر الدين عن الكفن يقتضي عن تأخّر الأخذ بحقّ الرهن؛ لأنّه يقتضي وفاء الدين المفروض تأخيره، مدفوعة بمنع شمول الأخبار لمثل هذا الدين. ثمّ إنّ إلحاق حقّ الجناية لا وجه له؛ لأنّه لا ربط له بالدين إلّا أن يدّعى أنّ ذلک مقتضى كون الكفن من جميع المال. وفيه: أنّه معارض بما دلّ على ثبوت الحقّ بالجناية، مع أنّه يكون سابقآ على تعلّق الكفن، هذا. وأمّا كفن الزوجة فعلى زوجها إذا لم يكن معسرآ، وإلّا فمن مالها ـ على ما تقدّم ـ بلا إشكال وإن احتمل بعضهم دفنها حينئذ بلا كفن وإن كانت موسرة؛ إذ هو كما ترى؛ إذ لايشمل ما دلّ على كون كفنها على زوجها مثل هذه الصورة، فبقي تحت الأخبار المتقدّمة وغيرها ممّا دلّ على كون الكفن من مال الميّت. ولو ماتت وتعلّق كفنها بزوجها ثمّ مات قبل تكفينها يصير كفنها في عرض سائر الديون، فيقدّم كفنه حينئذ على كفنها وإن كان أسبق وجوبآ؛ للاخبار المذكورة، وتمام الكلام في هذه المسائل في مقام آخر. -------------------------------------------------------------------------------- [1] ـ الكافي :3 547، باب قضاء الزكاة عن الميّت، الحديث 4 ـ وسائل الشيعة :9 255 / 11962، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب21، الحديث .2 [2] ـ التهذيب :9 200 / 38، باب الإقرار في المرض، الحديث 38 ـ وسائل الشيعة :19 359 / 24759، كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا،الباب 42، الحديث .1 [3] ـ الحدائق :14 .188 [4] ـ الجواهر :17 .315 [5] ـ الكافي :7 23، باب أنّه يبدأ بالكفن ثمّ بالدين...، الحديث 1 ـ الفقيه :4 143 / 490، باب أوّل ما يبدأ به من تركة الميّت، الحديث 3 ـالتهذيب :9 201 / 40، باب الإقرار في المرض، الحديث 40 ـ وسائل الشيعة :19 328 / 24705، كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا،الباب 27، الحديث .1 [6] ـ الكافي :7 23، باب أنّه يبدأ بالكفن ثمّ بالدين...، الحديث 2 ـ الفقيه :4 143 / 492، باب الرجل يموت وعليه دين، الحديث 1 ـ التهذيب :9201 / 41، باب الإقرار في المرض، الحديث 41 ـ وسائل الشيعة :19 328 / 24706، كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، الباب ،27الحديث .2 [7] ـ الكافي :7 23، باب أنّه يبدأ بالكفن ثمّ بالدين...، الحديث 3 ـ الفقيه :4 143 / 488، باب أوّل ما يبدأ به من تركة الميّت، الحديث 1 ـالتهذيب :9 201 / 42، باب الإقرار في المرض، الحديث 42 ـ وسائل الشيعة :19 329 / 24708، كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا،الباب 28، الحديث 1. [8] ـ الخلاف :1 708، المسألة .508 [9] ـ كما في الذكرى :1 379، واحتمله في كشف اللثام :2 .306 [10] ـ احتمله في كشف اللثام :2 .306 [11] ـ ذكره في جامع المقاصد :1 .401
|