|
الدليل الأوّل: الروايات
والروايات التي اعتمد عليها المشهور هنا تقع على ثلاث طوائف، ترتبط اثنتان منها بباب النكاح، فيما ترتبط الثالثة بمسائل الوصية.
الطائفة الأولى: نصوص ولاية الأب والجدّ في زواج البنت الباكرة الرشيدة والمراد بهذه الروايات ما دلّ على لزوم أخذ إجازة الأب والجدّ في زواج البنت البالغة الرشيدة، من قبيل ما عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن علي بن الحكم، عن العلاء بن رزين، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما(عليهما السلام) قال: «إذا زوّج الرجل ابنة إبنه فهو جائز على ابنه، ولابنه أيضاً أن يزوّجها» فقلت: فإن هوى أبوها رجلاً وجدّها رجلاً؟ فقال: «الجدّ أولى بنكاحها»(21). إلاَّ أنّ هذه الروايات لا ارتباط لها بمسألتنا هنا: ذلك أنَّ بحثنا مرتبطٌ بالصغير، وهذه الروايات تتحدّث عن زواج البنت البالغة الرشيدة، وعلى فرض ثبوت مفادها(22) فهي دالّة على نحو ولاية خاصّة تعبدية منحصرة بموردها، هذا فضلاً عن أن هذه المسألة عينها قد وقعت محلاً للخلاف والاختلاف، سواء على صعيد الروايات أو على صعيد الفتاوى والآراء الفقهية; ولهذا يقول الشهيد الثاني: إن هذه المسألة من المسائل المشكلة، والخروج منها عمل صعب وعسير(23). الطائفة الثانية: نصوص تزويج الأب والجدّ للبنت الصغيرة وقد أعطيت في هذه الروايات الرخصةُ للأب والجدّ في تزويج البنت غير البالغة مثل: عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن عبدالله بن الصلت، قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام)عن الجارية الصغيرة يزوّجها أبوها، لها أمرٌ إذا بلغت؟ قال: «لا، ليس لها مع أبيها أمر»(24). والاستدلال بهذه الروايات مخدوشٌ أيضاً، وذلك: أولاً: في تمام هذه الروايات جرى السؤال عن أب يزوّج ولده الصغير (ذكراً أو أنثى) فما هو الحكم؟ والإمام(عليه السلام) يجيب: إنه لامانع من ذلك، فهل يمكن أن يكون ذلك دليلاً على عدم وجود مثل هذا الحقّ للأمّ، إن الإمام(عليه السلام) يجيب على مقتضى سؤال السائل، وبعبارة أخرى، إن الروايات المذكورة قاصرة عن الشمول لمثل الأمّ، إلاّ أنّه لا دلالة لها على خلاف ذلك فيها، أي على نفي ولاية الأمّ. إن هذه الأسئلة إنما انبثقت من العرف والثقافة اللتين كانتا رائجتين في ذلك الزمان، حيث لم يكن يتعارف تزويج الأمّهات لبناتهنّ، وبعبارة أخرى: إن سلطة الرجل آنذاك لم تكن لتسمح بتدخّل الأمهات في هذا الموضوع، بل كان الرجل هو من يدير تمام أمور الحياة لوحده، بحيث لم يكن للنساء من دور في هذا المضمار، ولم يكن كعصرنا الحاضر تبدي المرأةُ رأيَها فيه، بل ويمكنها أن تغدو مع ذلك محامياً أو وزيراً أو طبيباً. وبناءً عليه، فعدم وجود سؤال عن حقٍّ من هذا النوع للأمّ إنما نشأ من عدم الابتلاء وعدم الحاجة من الناحية التاريخية، دون أن يعبّر بمجرده عن دليل لإلغاء هذا الحق لها; فإثبات شيء لا ينفي ما عداه، كما أنه لا مفهوم له بالضرورة. ثانياً: إن هذه الروايات نفسها ليست ذات لون واحد، بل لها معارض، ومفاد الروايات المعارضة أن عقد الولي نافذٌ على نحو الجواز على الصغيرة بعد البلوغ، بحيث إنّ للبنت بعد البلوغ حقّ الفسخ، وهذا ما ينافي مدلول الرواية السابقة والحاكم بلزوم هذا العقد بعد البلوغ. روى يزيد الكناسي: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): متى يجوز للأب أن يزوّج ابنته ولا يستأمرها؟ قال: «إذا جازت تسع سنين، فإن زوّجها قبل التسع سنين، كان الخيار لها إذا بلغت تسعَ سنين» قلت: فإن زوّجها أبوها ولم تبلغ تسع سنين فبلغها ذلك فسكتت ولم تأب ذلك، أيجوز عليها؟ قال: «ليس يجوز عليها رضاً في نفسها، ولا يجوز لها تأبّ ولا سخط في نفسها حتى تستكمل تسع سنين، وإذا بلغت تسع سنين جاز لها القول في نفسها بالرضا والتأبّي، وجاز عليها بعد ذلك وإن لم تكن أدركت مدرك النساء» قلت: أفتقام عليها الحدود وتؤخذ بها، وهي في تلك الحال وإنما لها تسع سنين ولم تدرك مدرك النساء...(25). ثالثاً: في واحدة من هذه الروايات أضيف على الأب تعبير «الولي»، وهو ما لا اختصاص له بالأب، فإذا ما كانت الأمّ متوليةً شؤون الابن كانت مشمولةً لإطلاق هذه الرواية. روى علي بن يقطين: سألت أبا الحسن(عليه السلام): أتُزوج الجارية وهي بنت ثلاث سنين أو يُزوّج الغلام وهو ابن ثلاث سنين وما أدنى حدّ ذلك الذي يزوّجان فيه، فإذا بلغت الجارية فلم ترض، فما حالها؟ قال: «لا بأس بذلك إذ رضي أبوها أو وليّها»(26). رابعاً: إن مفاد هذه الروايات إثبات حقّ الوالد في تزويج ولده الصغير، ولا يشمل حقوقاً أخرى مثل حقّ الطلاق، وقد صرحت رواية محمّد بن مسلم بعدم الولاية على الطلاق. عن محمّد بن مسلم: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الصبيّ يزوّج الصبية، قال: «إن كان أبواهما اللذان زوّجاهما فنعم جائز، ولكن لهما الخيار إذا أدركا، فإن رضيا بعد ذلك فإن المهر على الأب» قلت له: فهل يجوز طلاق الأب على ابنه في صغره؟ قال: «لا»(27). وبناءً عليه، لو فرضنا دلالة هذه الرواية على عدم ولاية الأمّ، فإنها تشمل خصوص هذه الولاية الناقصة، ولا تكون مانعاً عن ولايتها على أموال الصغير، وهي الولاية المستفادة من روايات ولاية الأب والجدّ، ومنها على أموال الصغير، ذلك أن تلك الولاية مختلفةٌ عن هذه الولاية هنا. خامساً: جاء في بعض الروايات أن الأخ وكلّ متولٍّ للأمور المالية للبنت الصغيرة له الحقّ في تزويجها. عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح؟ قال: «هو الأب والأخ والرجل يوصَ إليه، والذي يجوز أمره في مال المرأه، فيبتاع لها ويشتري، فأيّ هؤلاء عفا فقد جاز»(28). وقد جاء هذا الكلام بعينه في خبر العلاء بن رزين ومحمّد بن مسلم عن الإمام الباقر(عليه السلام)، مع اختلاف في نهاية الحديث، حيث جاء في خبر العلاء ما يلي: «فأيّ هؤلاء عفا فعفوه جائز في المهر إذا عفا عنه»(26). سادساً: الذي يبدو لنا أن القول بالولاية المطلقة للأب والجدّ في زواج الولد الصغير قولٌ مخدوش، نعم، ولايتهما ثابتةٌ في الجملة، لكن ذلك ليس على نحو الحقّ الكلي. الطائفة الثالثة: نصوص الوصية وهي مجموعةٌ من الروايات الورادة متفرّقةً في ثنايا أبواب كتاب الوصايا، ويحتوي مضمونها ما كان من هذا القبيل: محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عيسى، عمّن رواه، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «في رجل مات وأوصى إلى رجل وله ابن صغير، فأدرك الغلام وذهب إلى الوصيّ، وقال له: ردّ عليّ مالي لأتزوّج، فأبى عليه، فذهب حتى زنى، فقال: يلزم ثلثي إثم زنا هذا الرجل ذلك الوصي الذي منعه المال ولم يعطه فكان يتزوج»(30). تحدّثنا هذه الرواية عن شخص أوصى بأمواله لصغاره، ووضع عليهم وصيّاً، ولم يرد في أيٍّ من الأسئلة أن المرأة قد أوصت مثل ذلك، ممّا يدلّ على أنّه لو أوصت المرأة في أمور أولادها الصغار وجعلت عليهم وصياً لن يكون لوصيّتها أثر، فليس لها مثل هذه الولاية. إلاَّ أنَّ الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات ضعيفٌ للغاية: ذلك أنه من الواضح أن مثل هذا النوع من الروايات جاء في مقام السؤال والجواب وبيان حرمة تخلّف الوصي عن إعطاء الصغير أموالَه بعد بلوغه ورشده، فلم ترد في مقام بيان مؤثرية وصيّة الرجل، حتى يقال: حيث لم يرد فيها حديثٌ عن المرأة فإذاً لا ولاية لها على الصغير. وشاهد ما ندّعيه ذيلُ الرواية: حيث كان عدمُ دفع الوصيّ الأموالَ سبباً في وقوع الشابّ في الذنب والمعصية، والرسالة الأساسيّة التي تؤكّد عليها الرواية هي أداء الأمانة من جانب الوصي، دون أن يكون هناك أيّ اهتمام بأمر الموصي، وإذا ما جاء في الرواية حديثٌ عن الرجل فلا خصوصيّة له; ذلك أنّ النساء في ذلك الزمان لم تكن لديهنّ أموالٌ حتى يوصين بها، أو لا أقل من أنّ هذا الأمر لم يكن شائعاً أو متداولاً. وعلى أيّة حال، فالمتفاهم العرفي من هذا النوع من الروايات التي يدور موضوعها حول الوصيّ والوصاية هو عدم وجود خصوصيّة للرجل، والفقه مليءٌ بهذا اللون من التعميمات والاستظهارات، ومن الواضح أن الفهم العرفي في المحاورات اليومية وفي لغة القانون من أفضل الأدلّة والحجج على هذا التعميم، تماماً كما هو الأصل على الاشتراك إلاَّ أنْ يقوم دليلٌ على خلافه. هذا، مضافاً إلى ورود تعبير «الوصيّ» في بعض الروايات ممّا يفيد العموميّة أيضاً، مثل هذا الحديث عن محمّد بن علي بن الحسين، بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن سعد بن إسماعيل، عن أبيه، قال: سألت الامام الرضا(عليه السلام) عن وصيّ أيتام يدرك أيتامُه، فيعرض عليهم أن يأخذوا الذي لهم، فيأبون عليه، كيف يصنع؟ قال: «يردّ عليهم ويكرههم عليه»(31). والمؤيد لثبوت ولاية المرأة جواز كونها وصيّاً، الأمر المطابق للأصول والقواعد الفقهية، وهو ما تدلّ عليه أيضاً رواية علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن رجل أوصى إلى امرأة وشرك في الوصية معها صبيّه؟ فقال: «يجوز ذلك وتمضي المرأة الوصيّة، ولا تنتظر بلوغ الصبيّ، فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى، إلاَّ ما كان من تبديل أو تغيير، فإنّ له أن يردّه إلى ما أوصى به الميت»(32). ووجه التأييد أن الوصاية على الصغار نحوُ ولاية عليهم، غايته أنها ليست ولايةً قهرية، ومن المعلوم أن القهرية وعدمها لا تأثير لهما في قابليّة الولاية وإمكانها، بل هي بنفسها معلولةٌ لهذه القابلية ومتفرعةٌ عنها. والذي يبعث على الأسف والاستغراب، ولا يمكن قبوله بأيّ وجه من الوجوه، أن هناك ثلاث روايات واردة في باب الوصية، يمكن أن يُثار فيها احتمال الدسّ والوضع والنوايا السيئة، إن مفاد هذه الروايات اعتبار كلٍّ من المرأة وشارب الخمر من مصاديق السفهاء في قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم..) (النساء: 5)، وأنّهما لا يصلحان وصياً. وهذه الروايات هي: 1 ـ خبر العياشي: وفي رواية عبدالله بن سنان قال: «لا تؤتوها شرّاب الخمر والنساء»(33). 2 ـ والمضمون عينه ينسب إلى الإمام الباقر(عليه السلام)في رواية أخرى: سئل أبو جعفر(عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم..) قال: «لا تؤتوها شرّاب الخمر ولا النساء، ثم قال: وأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر»(34). 3 ـ موثقة السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن الامام علي(عليه السلام)، قال: «المرأة لايوصى إليها; لأن الله عزوجل يقول: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم..)»(35). إن مفاد هذه الروايات مخالفٌ للأصول القرآنية والسنتية والعقليّة المسلّمة; ولهذا لا يمكن الأخذ بها حتّى لو كان بعضها صحيحاً من ناحية السند، فهل يمكن القول بأن تمام النساء من السفهاء؟! هل يمكن نسبة ذلك إلى النسوة العظيمات جميعهنّ في تاريخ الأديان، وتاريخ الإسلام، وتاريخ الثورة الإسلامية في إيران؟! والذي يبدو لنا أنّ احتمال وضع هذه الروايات ودسّها واردٌ جداً; حتى يقال: إن القدر المسلّم والمتيقن من (أموالكم) هو أموال بيت المال، من هنا لا يمكن إعطاء فدك لفاطمة الزهراء(عليها السلام)، ومع كلّ هذه العلاقة التي تربط الإمام علياً(عليه السلام)بالسيدة الزهراء(عليها السلام)، ومع كلّ هذه المكانة التي يحظيانها عند بعضهما البعض، نسبوا هذا الكلام إلى الامام علي(عليه السلام). لقد وضعوا هذه الروايات حتى يقلّلوا من اعتبار نسوة عظيمات، مثل السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)والسيدة زينب الكبرى(عليها السلام)، فيصنعون بذلك حجةً لهم. هل يمكن، واعتماداً على الجمع المحلّى بالألف واللام، استفادة العموم; للقول بأن تمام النساء ـ والعياذ بالله ـ هنّ من مصاديق السفهاء، وفي مصافّ شرّاب الخمر؟! إن منشأ هذا الوضع والجعل ليس سوى العداوة لأهل البيت(عليهم السلام) والسيدة الزهراء(عليها السلام)، ومن الواضح أن ما جاء في نهج البلاغة لأميرالمؤمنين(عليه السلام) أيضاً حول نقصان عقل النساء وإيمانهنّ، ليس صحيحاً، بل لابد من طرحه عرض الجدار، أو ردّ علمه إلى أهله، وهم المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين; ذلك أنه من المسلّم أن مفاد هذه النصوص مخالفٌ للقرآن والقواعد; إذ كيف يمكن أن يأمر الله النساءَ بترك الصلاة في بعض الأوقات، فيتركنها امتثالاً لأمره وإطاعةً لمطالبه، ثم يكون ذلك موجباً لنقص إيمانهنّ!؟ فهل طاعة الأوامر الإلهية توجب نقصان الدين والإيمان؟! __________________________________________(21) وسائل الشيعة 20: 289، الباب 11، ح1، وهناك روايات أخرى دالّة على هذا المضمون، راجع: وسائل الشيعة 20: 273، ح5،2،1، وص 284، ح8،7،2 وص289، ح28. (22) يذهب آية الله العظمى صانعي إلى عدم ولاية الأب على البنت البالغة الرشيدة في عقد الزواج الدائم. (23) مسالك الأفهام 7: 120. (24) وسائل الشيعة 20: 276، الباب 6، ح3، وهناك روايات أخرى أيضاً تحمل المضمون نفسه، مثل: وسائل الشيعة 20: 275، الباب 6، ح1، وص 277، ح7، 8، وص 278، ح9. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الرواية وأمثالها وإن استخدمت كلمة «أبوها»، إلا أن المحدّثين والفقهاء استفادوا منها العموم، وعلى هذا الأساس عنوَن صاحب وسائل الشيعة البابَ الذي أدرج فيه هذه الروايات كما يلي: «باب ثبوت الولاية للأب والجدّ للأب خاصّة مع وجود الأب لا غيرهما على البنت غير البالغة الرشيدة، وكذا الصبي»، فانظر: وسائل الشيعة 20: 275. (25) وسائل الشيعة 20: 278، الباب 6، ح9. (26) المصدر نفسه: 277، الباب 6، ح7، والباب 8، ح2. (27) المصدر نفسه 20: 278، الباب 6، ح8. (28) المصدر نفسه 20: 283، الباب 8، ح4. (29) المصدر نفسه 20: 283، الباب 8، ح5. (30) المصدر نفسه 19: 370، الباب 46، ح1. (31) المصدر نفسه 19: 370، الباب 47، ح1. (32) المصدر نفسه 19: 375، كتاب الوصايا، الباب 50، ح2. (33) المصدر نفسه 369، الباب 45، ح11. (34) المصدر نفسه ، الباب 45، ح9. (35) المصدر نفسه، 379، الباب 53، ح1.
|