|
كتاب القضاء
وهو الحكم بين الناس لرفع التنازع بينهم بالشرائط الآتية . ومنصب القضاء من المناصب الجليلة([1]) ، الثابتة من قبل الله تعالى للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن قبله للأئمّة المعصومين(عليهم السلام) ، ومن قبلهم للفقيه([2]) الجامع للشرائط الآتية . ولايخفى أنّ خطره عظيم ، وقد ورد : «أنّ القاضي على شفير جهنّم» ، وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال : «يا شريح قد جلست مجلساً لايجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ»، وعن أبي عبدالله(عليه السلام): «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين; لنبيّ أو وصيّ نبيّ» ، وفي رواية : «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله ـ عزّوجلّ ـ فقد كفر» ، وفي اُخرى : «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس; فإمّا في الجنّة، وإمّا في النار» ، وعن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنّة، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لايعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لايعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» . ولو كان موقوفاً على الفتوى يلحقه خطر الفتوى أيضاً ، ففي الصحيح قال أبو جعفر(عليه السلام) : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدىً من الله، لعنه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه». (مسألة 1) : يحرم القضاء بين الناس ولو في الأشياء الحقيرة إذا لم يكن من أهله ، فلو لم ير نفسه مجتهداً ([3]) عادلاً جامعاً لشرائط الفُتيا والحكم ، حرُم عليه تصدّيه وإن اعتقد الناس أهليّته ، ويجب كفايةً على أهله ، وقد يتعيّن إذا لم يكن في البلد أو ما يقرب منه ـ ممّا لايتعسّر الرفع إليه ـ من به الكفاية . (مسألة 2) : لايتعيّن القضاء على الفقيه([4]) إذا كان من به الكفاية ولو اختاره المترافعان أو الناس . (مسألة 3) : يستحب تصدّي القضاء لمن يثق بنفسه القيام بوظائفه ، والأولى تركه مع وجود من به الكفاية ; لما فيه من الخطر والتهمة . (مسألة 4) : يحرم الترافع إلى قضاة الجور ـ أي من لم يجتمع فيهم شرائط القضاء ـ فلو ترافع إليهم كان عاصياً ، وما أخذ بحكمهم حرام إذا كان ديناً ، وفي العين إشكال([5]) إلاّ إذا توقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم ، فلايبعد جوازه ، سيّما إذا كان في تركه حرج عليه ، وكذا لو توقّف ذلك على الحلف كاذباً جاز . (مسألة 5) : يجوز لمن لم يتعيّن عليه القضاء الارتزاق من بيت المال([6]) ولو كان غنيّاً ([7]) ، وإن كان الأولى الترك مع الغنى ، ويجوز مع تعيّنه عليه إذا كان محتاجاً ، ومع كونه غنيّاً لايخلو من إشكال ; وإن كان الأقوى جوازه . وأمّا أخذ الجعل من المتخاصمين أو أحدهما ، فالأحوط([8]) الترك حتّى مع عدم التعيّن عليه ، ولو كان محتاجاً يأخذ الجعل أو الأجر على بعض المقدّمات . (مسألة 6) : أخذ الرشوة وإعطاؤها حرام إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل . نعم لو توقّف التوصّل إلى حقّه عليها جاز للدافع وإن حرم على الآخذ . وهل يجوز الدفع إذا كان محقّاً ولم يتوقّف التوصّل إليه عليها ؟ قيل : نعم ، والأحوط الترك ، بل لايخلو من قوّة . ويجب على المرتشي إعادتها إلى صاحبها ; من غير فرق ـ في جميع ذلك ـ بين أن يكون الرُّشى بعنوانه أو بعنوان الهبة أو الهديّة أو البيع المحاباتي ونحو ذلك . (مسألة 7) : قيل : من لايقبل شهادته لشخص أو عليه لاينفذ حكمه كذلك ، كشهادة الولد على والده والخصم على خصمه . والأقوى نفوذه([9]) وإن قلنا بعدم قبول شهادته . (مسألة 8) : لو رفع المتداعيان اختصامهما إلى فقيه([10]) جامع للشرائط ، فنظر في الواقعة وحكم على موازين القضاء ، لايجوز لهما الرفع إلى حاكم آخر ، وليس للحاكم الثاني النظر فيه ونقضه ، بل لو تراضى الخصمان على ذلك فالمتّجه عدم الجواز . نعم لو ادّعى أحد الخصمين : بأنّ الحاكم الأوّل لم يكن جامعاً للشرائط ـ كأن ادّعى عدم اجتهاده أو عدالته حال القضاء ـ كانت مسموعة يجوز للحاكم الثاني النظر فيها ، فإذا ثبت عدم صلوحه للقضاء([11]) نقض حكمه ، كما يجوز النقض لو كان مخالفاً لضروريّ الفقه ; بحيث لو تنبّه الأوّل يرجع بمجرّده لظهور غفلته . وأمّا النقض فيما يكون نظريّاً اجتهاديّاً فلايجوز([12]) ، ولا تسمع دعوى المدّعي ولو ادّعى خطأه في اجتهاده . (مسألة 9) : لو افتقر الحاكم إلى مترجم لسماع الدعوى أو جواب المدّعى عليه أو الشهادة ، يعتبر أن يكون شاهدين عدلين([13]) . -------------------------------------------------------------------------------- [1] ـ على ما في المتن، وإلاّ فلي فيه تأمّل وإشكال، وبما أنّ البحث فيه خارج عن طريق التعليقة فموكولٌ إلى محلّه. [2] ـ بل للعالم بأحكام القضاء، فقيهاً كان أو مقلِّداً; لأنّ المستفاد من الأخبار أنّ المناط فيها العلم بالأحكام الشامل للمقلِّد أيضاً، فإنّه عالم بها بالتقليد، كما أنّ الفقيه عالم بالاجتهاد. ففي خبر أبي خديجة: «إيّاكم أنْ يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم، يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً ، فتحاكموا إليه». (وسائل الشيعة 27: 13 / 5) والإذن منهم(عليهم السلام) يكون على ذلك المناط بالظهور في جلّ الأخبار، وبإلغاء الخصوصية العرفية في المقبولة (وسائل الشيعة 27: 13 / 4) على تسليم دلالتها على اعتبار الاجتهاد; لعدم الخصوصية عرفاً للاجتهاد والاستنباط في القضاء أصلاً، وإنّما الخصوصية والمناط عند العرف العلم بأحكام القضاء وقوانينه مطلقاً ولو كان عن تقليد. هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر منها عرفاً كون القيد على الدلالة وارداً مورد الغالب، فلاتكون المقبولة حجّة على التقييد; حيث إنّ العالمين بالأحكام، لاسيّما أحكام القضاء في مثل زمان صدورها، كانوا غالباً هم المجتهدون الراوون لأحاديثهم والعارفون بأحكامهم والناظرون فيها إن لم نقل بكونه كذلك دائماً، فإنّ الغالب كون العلم بأحكامهم، لاسيّما القضائي منها منحصراً طريقه بالاجتهاد، وأنّهم كانوا يفتون بمتون الروايات والأحاديث، والعلم بها عن تقليد إن لم نقل بكونه مستحيلاً عادة في مثل تلك الأزمنة ممّا لم يكن التواصل وتحصيل العلوم ونشر المسائل كاليوم وأشباهه، فلا أقلّ من ندرته، كما لايخفى على المتدبِّر في تأثير الزمان والمكان في فهم الأحاديث والأدلّة. ومضافاً إلى ما في «الجواهر» من تأييد ذلك بقوله: «اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ النصوص دالّة على الإذن منهم(عليهم السلام) لشيعتهم المتمسّكين بحبلهم الحافظين لأحكامهم في الحكم بين الناس بأحكامهم الواصلة إليهم بقطع أو اجتهاد صحيح أو تقليد كذلك، فإنّهم العلماء وشيعتهم المتعلّمون وباقي الناس غثاء. وفي خبر عبداللّه بن طلحة (وسائل الشيعة 29: 62 / 2) الوارد في اللصّ الداخل على المرأة وقتل ولدها وأخذ ثيابها عن الصادق(عليه السلام) أمر السائل بالقضاء بينهم بما ذكره الإمام، ولعلّ غيره أيضاً كذلك. وإنّما شدّة الإنكار في النصوص على المعرضين عنهم المستغنين عنهم بآرائهم وقياسهم واستحسانهم ونحو ذلك من الباطل الذي لفّقوه. قال الحلبي: قلت لأبي عبداللّه(عليه السلام): ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء ، فيتراضيان برجل منّا، فقال: «ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط». (وسائل الشيعة 27: 15 / 8) ولو سلِّم عدم ما يدلُّ على الإذن فليس في شيء من النصوص ما يدلُّ على عدم جواز الإذن لهم في ذلك، بل عموم ولايتهم تقتضي ذلك. بل قد يدّعى أنّ الموجودين في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)ممّن اُمر بالترافع إليهم قاصرون عن مرتبة الاجتهاد وإنّما يقضون بين الناس بما سمعوه من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). فدعوى قصور من علم جملةً من الأحكام مشافهةً أو بتقليد لمجتهد عن منصب القضاء بما علمه خالية عن الدليل، بل ظاهر الأدلّة خلافها، بل يمكن دعوى القطع بخلافها، ونصب خصوص المجتهد في زمان الغيبة بناءً على ظهور النصوص فيه لايقتضي عدم جواز نصب الغير» (جواهر الكلام 40: 17) ولقد أجاد فيما أفاد. [3] ـ بل عالماً بأحكام القضاء، كما مرّ. [4] ـ بل على العالم بأحكام القضاء مطلقاً. [5] ـ فيما كانت القضاة كذلك منصوبين من قبل الظالمين من الحكّام والخلفاء والسلاطين، وأمّا فيما لم تكونوا منصوبين من قبلهم، فالظاهر عدم الإشكال في حلّية العين، والمقبولة التي صارت منشأً للإشكال في العين، مختصّة بالمنصوب من قبل هؤلاء الظالمين. (وسائل الشيعة 27: 13 / 4) [6] ـ لأنّه يكون لمصالح المسلمين ومن جملتها القضاء الذي فيه قيام نظام النوع والمعروف. [7] ـ لعدم اشتراط المصالح بالفقر، بل يجوز عليه أخذ مثل الأجر والجعل; وفاقاً للمفيد في «المقنعة» والشيخ «في النهاية» والقاضي ابن البرّاج في «المهذّب». (المقنعة: 588; النهاية: 357; المهذّب 2: 586) لعدم الدليل المعتمد به على حرمته إلاّ صحيح عبداللّه بن سنان، (وسائل الشيعة 27: 221 / 1) والاستدلال به إمّا يكون بحمل الرزق على الأجر وإمّا يكون من باب الأولوية; حيث إنّ الرزق حلال في مثل ما كان الأجر حراماً كالأذان، فإذا كان حراماً هنا فالأجر حرام بالأولوية، كما لايخفى، لكن يرد عليه أنّ من المحتمل كون المراد من السلطان، سلطان الجور بقرينة زمان السؤال والجواب عنه. [8] ـ وإن كان الجواز لايخلو عن وجه وقوّة. [9] ـ الأقوائية ممنوعة، بل الأقوائية في اشتراك القضاء مع الشهادة، وعدم نفوذ قضائه كذلك كعدم قبول شهادته; قضاءً لأولوية القضاء على الشهادة، واقتصاراً على القدر المتيقّن، فإنّه الموافق لأصالة عدم نفوذ الحكم. ثمّ لايخفى أنّ الحقّ في الأصل، أي الشهادة، عدم القبول، كما يأتي في كتاب الشهادات. [10] ـ بل إلى قاض. [11] ـ أو عدم صحّة قضائه. [12] ـ إلاّ فيما إذا كان خطائه لتقصير في الاجتهاد والسعي في طلب الدليل. [13] ـ وإن كان الأقوى كفاية كونهما ثقتين في الترجمة.
|