|
مناقشة صاحب المدارك في حمل أخبار الثمانية عشر على غير المبتدأة
قوله[1] : « بحمل أخبار الثمانية عشر على غير المبتدأة » إلى آخره : هذا الحمل فاسد من وجوه : الأوّل : أنّ التفصيل مخالف لمذهب الأصحاب ؛ فإنّ من قال بالعشرة قال بها مطلقاً ، ومن قال بالثمانية عشر قال به كذلك ، ولم يفصّل أحد بين أقسام النفساء بهذا الوجه قبل العلاّمة (رحمه الله) ولا بعده ، ولا ذكره ذاكر في كتب الخلاف والاستدلال فيما أعلم ، وإنّما ذكروا في المسألة القول بالعشرة مطلقاً والثمانية عشر كذلك . وربما زاد بعضهم القول بالواحد والعشرين ، كما ذهب إليه ابن أبي عقيل[2] . وليس لهذا التفصيل في كلام الأصحاب عين ولا أثر ، ولو كان هناك قول بالتفصيل لنقله الأصحاب في كتب الخلاف ؛ لما نرى من شدّة اعتنائهم بذكر الأقوال والمذاهب ، حتّى أ نّهم ذكروا أقوال العامّة وآراءهم ، والعلاّمة أشدّهم عنايةً باستقصاء الآراء والمذاهب ، كما يرشد إليه تتبّع المنتهى والتذكرة والمختلف ، فلو كان في المسألة قول بالتفصيل لما أهمله ، سيّما مع تأكّد الدواعي ها هنا من دفع توهّم الانفراد بالقول ، ومخالفة الإجماع في المسألة ، وعدم نقل القول به ـ والحال هذه ـ دليل على انتفائه ، ومع ذلك فلا يصحّ الجمع بما ذكر . الثاني : أ نّ الجمع بين الأخبار المتعارضة فرع حجّية تلك الأخبار لو سلمت عن المعارضة ، وأنت قد عرفت بما ذكرناه آنفاً انتفاء الحجّية في أخبار الثمانية عشر ؛ لما فيها من التدافع ، وقصور الدلالة على المطلوب ، ومعارضتها بما يكذّبها ويدفعها صريحاً ، وأنّ الظاهر كونها واردة مورد التقيّة ، كما مرّ وجهه مفصّلا[3] ، ومع ذلك فلا ريب في بطلان الجمع المذكور . الثالث : أ نّ هذا الجمع يقتضي حمل أخبار الثمانية عشر على الفرد النادر ؛ فإنّ الغالب في النساء استقامة الحيض ، والمبتدأة في غاية الندرة خصوصاً مع فرض الحمل والنفاس ، والمضطربة على خلاف العادة ، فتنزيل الأخبار الدالّة على أنّ مقدار قعود النفساء ثمانية عشر يوماً على الإطلاق على خصوص المبتدأة والمضطربة من دون إشعار بذلك في السؤال ولا في الجواب ، بل مع التصريح في بعضها بأنّ ذلك حدّ جعله الله للنفساء بجميع مراتب الحيض لها ، بعيد[4] جدّاً ، بل مقطوع بفساده . وأيضاً فإنّ أسماء بنت عميس تزوّجت بأبي بكر بعد موت جعفر بن أبي طالب ، وكانت قد ولدت منه عدّة أولاد ، ومن المستبعد أن لا يكون لها في تلك المدّة كلّها عادة في الحيض ، ومع ذلك فقد حكم (صلى الله عليه وآله) عليها بالقعود ثمانية عشر يوماً من دون استفصال ولا سؤالها عن حالها في الحيض ، مع قيام الاحتمال الذي هو في غاية الظهور والوضوح ، ومثل ذلك لا يقصر عن التصريح بالحكم ، كما لا يخفى . الرابع : أنّ الحكم برجوع النفساء إلى عادتها في الحيض كما تضمّنته أخبار العادة لا يقتضي أكثر من احتمال كون المدّة من غير ذات العادة أقصى العادات ، وهي لا تزيد على العشرة ، فثبت ذلك في حقّ النفساء مطلقاً ، وإن كانت مبتدأة أو مضطربة . وقد يناقش في ذلك بأنّ أقصى ما دلّت عليه الروايات أنّ ذات العادة في الحيض تجلس أيّام عادتها ، وهذا لا يدلّ على حكم الأكثر لذات العادة فضلا عن غيرها ؛ فإنّ الحكم بأنّ نفاس ذات العادة أيّام إقرائها لا يقتضي امتناع الزيادة عليها ، كيف ولو امتنعت الزيادة لزم اختلاف الأكثر في النفاس باختلاف العادات في الحيض ، فيكون الأكثر لكلّ امرأة عادتها ، ولامتنع[5] الاستظهار بعد انقضاء العادة ؛ لكونه استظهاراً بعد الأكثر ، فيمتنع كما يمتنع بعد العشرة ، وهو خلاف النصّ والفتوى ، ومتى جاز الزيادة على العادة جاز الزيادة على العشرة التي هي إحدى العادات ، وإن كانت العشرة هي أيّامها بحكم العادة ، فإنّ نفي الزيادة بحكم العادة لا يوجب النفي بحكم الأكثر ، كما لو كانت عادتها دون العشرة ، على أنّ إطلاق ما دلّ على استظهار النفساء بعد انقضاء العادة بيوم أو يومين أو ثلاثة أيّام يقتضي ثبوته مع العشرة إذا كانت هي العادة في الحيض ، ولو كان أكثر النفاس عشرة أيّام لم يجز الاستظهار بعدها كما في الحيض . ثمّ إنّا لو سلّمنا دلالة الأخبار على أ نّ أكثر أيّام النفاس لذات العادة عشرة لكونها أقصى العادات ، فأين الدلالة فيها على أ نّها الأكثر في حقّ المبتدأة والمضطربة أيضاً ، مع أ نّه لا عادة هناك حتّى يرجع إليها . فالأولى أن يقال : إنّ مقتضى رجوع المعتادة إلى عادتها كون النفاس حيضاً في المعنى ، فيكون أقصاه عشرة ، كالحيض ، ومعنى رجوعها إلى عادتها أ نّها تجعل النفاس أحد أقرائها ، فتفعل معه ما كانت تفعل مع الحيض ، فإن كانت عادتها دون العشرة جلست أيّام عادتها ثمّ استظهرت كما كانت تستظهر في الحيض ، وإن كانت عشرة جلست عشرة أيّام ثمّ اغتسلت بعدها ، وإن استمرّ الدم ، ولا تستظهر بعد العشرة كما لا تستظهر الحائض . وإطلاق الاستظهار في الروايات محمول في الغالب وعادات النساء أ نّها دون العشرة ، كما قالوه في الحيض ، وأكثر استظهار النفساء إلى العشرة ، كالحائض ، وقد ورد النصّ به في الموضعين[6] ، وفيه دلالة واضحة على المساواة في الأكثر ، كما هو المطلوب . وقد يقال : إنّ مقتضى كون النفاس حيضاً في المعنى[7] ـ كما دلّت عليه الروايات[8] ـ رجوع المبتدأة والمضطربة في النفاس إلى ما كانت ترجع إليه في الحيض . وقد صرّح بذلك الشهيد في البيان . قال : « ولو كانت مبتدأة وتجاوز العشرة فالأقرب الرجوع إلى التمييز ، ثمّ النساء ، ثمّ العشرة . والمضطربة إلى العشرة مع فقد التمييز »[9] . بل ربما يقال : إنّ ما دلّ على الرجوع إلى الحيض يتناول المبتدأة والمضطربة ؛ فإنّ لهما في الحيض أيّاماً معروفة ، ولو تغيّر العادة فتردّ النفساء إليها ، وعند ذلك يزول الإشكال من أصله ، فتأمّل . -------------------------------------------------------------------------------- [1]. أي : قول صاحب المدارك ، وقد تقدّم كلامه في الصفحة 118 . [2]. حكاه عنه المحقّق في المعتبر 1 : 253 . [3]. راجع : الصفحة 132 - 133 . [4]. مبتداه : «تنزيل» . [5]. في «ش» : عادتها اولاً امتنع . [6]. راجع : وسائل الشيعة 2 : 303 ، كتاب الطهارة ، أبواب الحيض ، الباب 13 ، الحديث 12 ، و 2 : 383 ، كتاب الطهارة ، أبواب النفاس ، الباب 3 ، الحديث 3 . [7]. ممّن صرّح بكون النفاس حيضاً في المعني : السيّد السند في مدارك الأحكام 2 : 48 ، والمجلسي في مرآة العقول 13 : 241 ، وملاذ الأخيار 2 : 88 ، والوحيد البهبهاني في الحاشية على مدارك الأحكام 2 : 219 ، ومصابيح الظلام 6 : 220 . [8]. أي : أخبار رجوع المعتادة إلى العادة في الحيض . راجع : وسائل الشيعة 2 : 382 ، كتاب الطهارة ، أبواب النفاس ، الباب 3 . [9]. البيان : 67 .
|