|
وجوه افتراق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن التعزير
الوجه الأوّل : من ناحية الماهية، فإنّ ماهية التعزير هي العقوبة والتأديب، وتذكر في سياق الجزاء، خلافآ لما هو الحال بالنسبة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الوجه الثاني : من ناحية الغاية، فإنّ الغاية من النهي عن المنكر أو الأمر بالمعروف ـ طبقآ لما سلّم به المشهور ـ هي إجبار الشخص على الإتيان بالفعل، بمعنى أنّ الأمر بالمعروف يتمّ لكي يعمد تارک المعروف إلى الإتيان به، أو أنّه يتمّ النهي عن المنكر لكي يرتدع عنه فاعل المنكر. وبعبارة أُخرى: إنّ الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الإلجاء وإكراه الشخص على طاعة اللّه أو ترک معصيته. وأمّا بالنسبة إلى باب «التعزير» فليس الغرض مجرّد ترک المعصية أو العودة إلى الطاعة من قبل ذلک الشخص، بل الغاية هي إرشاد وهداية الآخرين، وهذا فارق جوهري بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين التعزير. وكذلک فإنّ الأمر بالمعروف لإصلاح الحاضر والمستقبل، في حين أنّ التعزير يرتبط بالعمل المتحقّق، وإن كان يشتمل على نحوٍ من الردع في المستقبل. الوجه الثالث : من ناحية الشروط، فإنّ الفارق الآخر الذي يميّز بين «التعزير» وبين «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» يكمن في شروط وجوبهما؛ إذ في وجوب النهي عن المنكر يشترط احتمال التأثير، ولذلک فإنّا إذا علمنا بأنّ الشخص مصرّ على فعله، وأنّ نهيه لن يكون مؤثرآ، أو لربما يعطي نتائج عكسية، فعندها لن يكون الأمر بالمعروف واجبآ، بل وقد لا يكون جائزآ. في حين أنّ الأمر بالنسبة إلى التعزير ليس كذلک، فإنّ مقتضى أدلّة التعزير هي أنّ مرتكب المعصية يعزّر، سواء علمنا إصراره أو احتملنا أنّه لن يكرر المعصية. كما أنّ تطبيق عقوبة التعزير تختصّ بالحاكم، أمّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو واجب على جميع المكلفين. الوجه الرابع : في النهي عن المنكر، عند ما يزول موضوع المنكر، لن يكون هناک معنى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمّا التعزير فليس كذلک، فلا ينتفي التعزير بانتفاء موضوعه، فلو ارتكب شخص معصية تستحق التعزير، أمكن تعزيره حتى إذا زال موضوع تلک المعصية، ولم يعد بإمكان ذلک الشخص ارتكاب المعصية ثانية. الوجه الخامس : الاختلاف في المورد، بمعنى أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يثبت عندما تصدر معصية كبيرة كانت أم صغيرة، أمّا التعزير ـ طبقآ لبعض الآراء ـ فلا تجب إلّا في مورد الكبائر.[1] الوجه السادس : يمكن للحاكم أن يغض الطرف عن التعزير إذا رأى المصلحة في ذلک، وأمّا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب القيام به إذا توفرت شرائطه على كلّ حال. وثانيآ : لو كان البناء على الاكتفاء بمجرّد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لاضطررنا في الكثير من الموارد إلى إطلاق سراح المجرمين، وهذا بدوره يؤدّي إلى شيوع الجرائم وانتشارها. من باب المثال: لو أنّ كل شخص ارتكب جريمة أعلن عن ندمه وقال بأنّه لن يعود إلى ارتكابها، لما أمكن نهيه عن المنكر، هذا في حين أنّ لعقلاء العالم في مثل هذا المورد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وإرشاد للجاهل، وتعزير وعقوبة للمجرم، ولا يترک أيّ واحد من هذه الأُمور لأجل وجود الأُمور الأُخرى. وثالثآ : إنّ لازم القبول بهذا الكلام، لغوية الروايات الكثيرة الواردة في باب التعزير وكيفية تطبيقه، والتي أفتى بها الفقهاء (قدّس اللّه أسرارهم) ومن بينهم السيد أحمد الخوانساري نفسه. ورابعآ : وهو جواب نقضي مفاده ـ طبقآ لمبنى السيد الخوانساري والقبول به ـ أنّه لا تعود هناک من حاجة إلى الحدود أيضآ، وذلک لجريان هذا الكلام نفسه في الحدود أيضآ، في حين أنّه لم يصدر عنه مثل هذا الكلام هناک. الفرع الثاني : تبيّن من خلال البحوث المتقدّمة أن لا دليل على وجوب الأمر بالمعروف من طريق فعل الحرام. ولذلک لا يجوز إلحاق الأذى بجسد وشخصية الأفراد تحت ذريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمّا في بعض الموارد فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدّي إلى عدم تحقّق موضوع الحرام، بمعنى أنّه عندما يتمّ سلوكنا بوصفه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سيؤدي إلى عدم صيرورة ذلک العمل الذي تحقق ضمن هذا العنوان حرامآ، وذلک بسبب عدم تحقق موضوعه. وأحد هذه العناوين هو الغيبة، إذ يبدو ـ كما قال المحقق الثاني ـ أنّ الغيبة إنما تتحقّق في المورد الذي ينطوي على نوع من سوء السريرة كالحسد وما إلى ذلک، قال المحقق الثاني في جامع المقاصد : «وضابط الغيبة كلّ فعل يقصد به هتک عرض المؤمن والتفكّه به وإضحاک الناس منه، وأمّا ما كان لغرض صحيح فلا يحرم».[2] وشبيهٌ بذلک ما في المكاسب أيضآ. بمعنى أنّه إذا كان الغرض صحيحآ، من قبيل: التظلّم، أو تجريح صاحب الدعوى غير الثابتة، أو في موارد الاستشارة، لاتتحقق الغيبة المحرّمة. لذلک في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث لا يتحقق موضوع حرمة الغيبة، لا يمنع من الأمر بالمعروف بهذه الطريقة؛ وذلک لأنّ الفعل أو القول الصادر لم يكن بداعي السخرية أو الهتک، وإنّما هناک غرض صحيح أوجبه. وعليه، فإنّ جميع الموارد التي ينتفي فيها موضوع الحسد، أو لا تشتمل على ملاک «ذكرک أخاک بما يكره» لايكون فيها مصداق الغيبة متحققآ. فمثلا في باب تظلّم المظلوم واستغاثته لا تكون هناک غيبة، بل وطبقآ لمفهوم قوله تعالى: (لاَ يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ )[3] تكون هذه الاستغاثة مطلوبة ومحبوبة عند الربّ؛[4] إذ لا يكون هناک حسد، بل يأتي هذا التظلّم في سياق إحقاق الحقوق. جدير بالذكر أنّ الكثير من الفقهاء يرون أنّ حرمة الغيبة ـ حيث يترتب عليها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب المصلحة الأقوى الموجودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تكون فيها هذه المصلحة أقل من مفسدة الغيبة ـ مرفوعة من باب التزاحم. الفرع الثالث : هل يشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عاملا بالمعروف وتاركآ للمنكر أم لا؟ يذهب بعض الفقهاء[5] إلى وجوب أن يكون الآمر عادلا وملتزمآ بما يأمر به أو ينهى عنه. وفي المقابل هناک فقهاء من أمثال: صاحب الجواهر،[6] والفاضل المقداد السيوري، والشيخ البهائي، والفيض الكاشاني رفضوا هذا الاشتراط، وقالوا بعدم وجود دليل على اشتراط العدالة، وهو كلام حسن ووجيه؛ وذلک لأنّ الأمر والنهي إنّما هو لإجبار أو نهي الشخص المخاطب، وليس الشخص الآمر والناهي. -------------------------------------------------------------------------------- [1] . جواهر الكلام، ج4، ص448. [2] . جامع المقاصد، ج4، ص27. [3] . النساء: 148. [4] . لمزيد من الاطلاع، راجع: تقريرات درس خارج الفقه(المكاسب المحرمة، بحث الغيبة) لسماحة الأستاذ (دام ظله). [5] . الأربعون، للشيخ البهائي، ص227. [6] . جواهر الكلام، ج21، ص373.
|