|
الجواب عن إشكال الشيخ
ويمكن الجواب عنه أوّلاً: أنّ التقسيم الثلاثي للمكاسب إنّما تعلّق بما يكتسب به باعتبار تعلّقه بالمصاديق الخاصّة، والصناعات الواجبة كفاية إنّما تجب حفظاً للنظام، من دون دخل للمصاديق الخاصّة المتعلّقة للتجارة في الوجوب، وكذا في مثل الزراعة والرعي، فإنّ المندوب هو نفس الزراعة والرعي، من دون نظر إلى ما يتعلّق به الزراعة والرعي، فإنّ الزراعة قد يتعلّق بالغلات الأربع، وقد يتعلّق بغيرها، وكذلك الأمر في الرعي. وثانياً: أنّ الوجوب في الصناعات الواجبة إنّما تعلّق بحفظ النظام، فإنّـه واجب، والإخلال به حرام، ولا يسري إلى ما يلازمه في الوجود وما ينطبق عليه من الصناعات التي لابدّ منها في نظم المجتمع؛ مثلاً: إذا قال المولى: أكرم العلماء، فاستلزم إكرام عالم، إكرام هاشميّ؛ لانطباق العالم على هاشميّ في المصداق، فلا يصحّ القول بأنّ الوجوب متعلّق بالهاشميّ؛ لأنّ الأحكام لا تتجاوز عن متعلّقاتها، ولا تسري إلى الملازم والمنطبق عليها المتعلّقات، فالواجب هو حفظ النظام، لا الصناعات التي لابدّ منها في نظم المجتمع. وهذا نظير النذر المتعلّق بصلاة الليل ـ مثلاً ـ فإنّ الوجوب متعلّق بالوفاء بالنذر، ولا يسري إلى صلاة الليل، وإن انطبق الوفاء بالنذر على فعل صلاة الليل. وكذا في مثل الزراعة والرعي، فإنّ المندوب فيها هو نفس الزراعة والرعي بما هما زراعة ورعي، لا بما هما من المكاسب، فالمندوب هو فعلهما؛ سواء اكتسب بهما أم لا؛ وذلك لوجهين: أحدهما: إنّ الطلب والحثّ في الروايات قد تعلّق بالزرع والرعي، والظاهر من العناوين المأخوذة في الأدلّة هو الموضوعيّـة. وعليه، فالزرع والرعي بما هما زرع ورعي مستحبّ، لا بما هما من المكاسب. ثانيهما: أنّ الخصوصيّات والإشارات المذكورة في روايات الزرع والرعي؛ من الحكم وغيرها، تشهد على أنّ المطلوب هو نفس الزراعة والرعي لا التكسّب بهما. وإليك نصّ بعض الروايات: فمنها: ما روي في الحديث أنّـه(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «ما من نبيّ إلّا وقد رعي الغنم»، قيل: وأنت يا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قال: «وأنا».([26]) ومنها: رواية سيّابة، عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: سأله رجل فقال له: جعلت فداك أسمع قوماً يقولون: إنّ الزراعة مكروهة؟ فقال له: «ازرعوا واغرسوا، فلا والله ما عمل الناس عملاً أحلّ ولا أطيب منه، والله ليزرعنّ الزرع، وليغرسنّ النخل بعد خروج الدجّال».([27]) ومنها: مرفوعة سهل بن زياد، قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «إنّ الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع والضرع، كيلا يكرهوا شيئاً من قطر السماء».([28]) ومنها: رواية محمّد بن عطيّـة في الكافي والفقيه والتهذيب، قال: سمعت أباعبدالله(علیه السلام) يقول: «إنّ الله عزّوجلّ اختار لأنبيائه الحرث والزرع، كيلا يكرهوا شيئاً من قطر السماء».([29]) وزاد في الفقيه: قال: وسئل عن قول الله عزّوجلّ: Cوَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَB([30]) قال: «الزارعون».([31]) ومنها: رواية يزيد بن هارون، قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) يقول: «الزارعون كنوز الأنام، يزرعون طيّباً أخرجه الله عزّوجلّ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلة، يدعون المباركين».([32]) فإنّ في مثل الحلف منه(علیه السلام) على أنّـه ما عمل الناس عملاً أحلّ ولا أطيب من الزراعة، وفي مثل الابتهاج بقطر السماء، والتوكّل على الله، وكون الزارعين يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأنّهم يدعون مباركين، شهادة على مطلوبيّـة نفس الزراعة والرعي، من دون نظر إلى التكسّب بهما. --------------------- [26]. لاحظ: صحيح البخاري 3: 48، باب رعي الغنم على قراريط، مع اختلاف في اللفظ؛ بحارالأنوار 61: 117. [27]. الكافي5: 260، باب فضل الزراعة، الحديث 3؛ الفقيه 3: 158/694، باب بيع الثمار، الحديث 5؛ التهذيب 6: 384/1139، باب المكاسب، الحديث 260؛ وسائل الشيعة 19: 32، كتاب المزارعة والمساقات، الباب 3، الحديث 1، مع تفاوت يسير. [28]. الكافي 5: 260، باب فضل الزراعة، الحديث 2؛ وسائل الشيعة 19: 33، كتاب المزارعة والمساقات، الباب 3، الحديث2. [29]. الكافي 5: 260، باب فضل الزراعة، الحديث 1؛ وسائل الشيعة 19: 33، كتاب المزارعة والمساقات، الباب3، الحديث 3. [30]. إبراهيم (14): 12. [31]. الفقيه 3: 160/703، باب بيع الثمار، الحديث 14؛ وسائل الشيعة 19: 34، كتاب المزارعة والمساقات، الباب 3، الحديث 4. [32]. الكافي 5: 261، باب فضل الزراعة، الحديث 7؛ وسائل الشيعة 19: 34، كتاب المزارعة والمساقات، الباب3، الحديث 7.
|