|
الاستدلال على الحرمة بالآيات الشريفة
ثمّ إنّـه قد استدلّ على حرمة التكسّب بالأعيان النجسة بآيات: منها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[240]). تقريب الاستدلال على ما في المكاسب المحرّمة: أنّ وجوب الاجتناب متفرّع على الرجس، فيدلّ على علّيّـة الرجس لذلك، وأنّ المذكورات واجبة الاجتناب؛ لكونها رجساً، فتدلّ الآية على وجوب الاجتناب عن كلّ رجس، ومقتضى إطلاق وجوب التجنّب عنه، الاجتناب عن جميع التقلّبات، ومنها: البيع والشراء([241]). وفيه أوّلاً: أنّ وجوب التجنّب في الآية الشريفة متفرّع على الرجس، وحمل الرجس مطلقاً أو في خصوص المورد على النجاسة المعهودة مشكل، بل ممنوع؛ لما في الآية من ذكر الميسر والأنصاب والأزلام، فإنّها لا يطلق عليها النجاسة المصطلحة. وثانياً: أنّ الظاهر من الآية الشريفة أنّ وجوب الاجتناب متفرّع على الرجس الذي هو من عمل الشيطان، وكون الشيء من عمله بأيّ معنى كان، لا يمكن لنا إحرازه إلّا ببيان من الشارع، ومع الشكّ في كون شيء من عمله ـ كغير الخمر من النجاسات ـ لا يصحّ الاستدلال لحرمة بيعه وشرائه بما في الآية من وجوب الاجتناب؛ حيث إنّـه من التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقيّـة، كما لا يخفى. وبعبارة أوضح: أنّ جعل المذكورات في الآية الشريفة من عمل الشيطان إمّا بمعنى أنّها من مبدعات الشيطان ومصنوعاته، كما احتمل في الخمر؛ استناداً إلى بعض الأخبار الواردة فيها، وإمّا من جهة كون تلك الاُمور نفسها من عمل الشيطان ادّعاءً، وإمّا من جهة كون الأفعال المتعلّقة بهذه الاُمور والتصرّف فيها من عمل الشيطان. وعلى كلّ الاحتمالات، لابدّ من إحراز الصغرى، الذي هو الموضوع في الآية الشريفة من الخارج، حتّى ينطبق الكبرى الموجود في الآية عليه؛ إذ لا يكاد يمكن إحرازه بنفس الآية الشريفة، لعدم تكفّل الأدلّة لإثبات موضوع نفسها. وثالثاً: أنّ الاجتناب عن الشيء إنّما يكون ظاهر في اجتناب ما يناسب ذلك الشيء، لا في اجتناب جميع ما يكون مربوطاً به، فالاجتناب عن الخمر عبارة عن ترك شربها، والاجتناب عن الميسر عبارة عن ترك اللعب به، وعن الأصنام بترك العبادة له، فأين الدلالة فيها على وجوب الاجتناب عن جميع التقلّبات؟ ومنها: قوله تعالى: Cوَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِی كَانَتْ عَلَيْهِمْB([242]). تقريب الاستدلال: أنّ الآية الشريفة بعمومه تدلّ على حرمة كلّ ما كان خبيثاً، وبإطلاقه على حرمة جميع التقلّبات، ومنها: البيع والشرب. والنجاسات من أظهر مصاديق الخبائث عرفاً، فيحرم التصرّف فيها بأنواع التصرّفات، ومنها: بيعها وشرائها والتكسّب بها. وفيها ما لايخفى؛ فإنّ الآية ناظرة عرفاً إلى أكل الطيّبات والخبائث، لا إلى سائر التصرّفات، مع أنّ الخبائث مقولة بالتشكيك عرفاً، فإنّ الشيء الواحد بالنسبة إلى تصرّف خاصّ خبيثٌ، وبالنسبة إلى تصرّف آخر لا يكون خبيثاً، مثلاً: الدم بالنسبة إلى أكله خبيث عرفاً، وبالنسبة إلى بيعه وشرائه لا يكون خبيثاً. ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)243]). والاستدلال بها أضعف من الاستدلال بالآيتين السابقتين؛ لأنّ السورة الشريفة من السور المكّيّـة النازلة في أوائل البعثة وظهور الدعوة، حتّى قيل: إنّها أوّل سورة نزلت من القرآن، ومال بعضهم إلى أنّ النازل أوّلاً هي الآيات السبع الواقعة في أوّل السورة، واحتمل بعضهم أن تكون السورة أوّل ما نزل على النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدّة في أوّل البعثة. وكيف كان، فالمتيقّن أنّ السورة من أوائل ما نزل على النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) من السور القرآنية، ([244])ومن البعيد، بل غير الصحيح، كون المراد من الرجز، النجس المعهود؛ لما فيه من نزول القرآن عن مرتبته العالية السامية، ممّا فيه تحدّى الناس من الإتيان بآية، بل وجملة مثله، بالأمر بترك بيع الدم أو الميتة مثلاً وبهجره في أوائل البعثة وبالآيات النازلة فيها، مع أنّ من المعلوم عدم كون ذلك بمهمّ أصلاً، فضلاً عن الأهميّـة الموجبة لذلك، فلابدّ إلّا من كون المراد من الرجز غير الأعيان النجسة في الآية النازلة في أوائل البعثة والأمر بهجرها وبالتكسّب بها. هذا أوّلاً. وثانياً: أنّ الرجز لم يأت بمعنى العين النجس في التفاسير، بل في التفاسير له معانٍ ثلاثة: ففي تفسير الميزان: قيل: الرجز ـ بضمّ الراء وكسرها ـ ، العذاب، والمراد بهجره هجر سببه، وهو الإثم والمعصية، والمعنى اهجر الإثم والمعصية. وقيل: الرجز اسم لكلّ قبيح مستقذر من الأفعال والأخلاق، فالأمر بهجره أمر بترك كلّ ما يكرهه الله ولا يرتضيه مطلقاً، أو أمر بترك خصوص الأخلاق الرذيلة الذميمة... . وقيل: الرجز هو الصنم، فهو أمر بترك عبادة الأصنام([245]). ثمّ لو سلّمنا أنّ الآيات والروايات دالّة على حرمة التكسّب بالأعيان النجسة تكليفاً، لكانت مختصّة بما لا يكون لها منفعة محلّلة مقصودة، وأمّا إذا كانت لها منفعة محلّلة مقصودة، ولو نادراً وبيعت لذلك، فلا تدلّ هذه الأدلّة على حرمته؛ وذلك لأنّ المنساق من الآيات والروايات إلى الذهن هو ذلك، فإذا قيل مثلاً: حرّم عليكم بيع الميتة، يتبادر إلى الذهن أنّها محرّمة إذا بيعت للمنافع المحرّمة، كالشرب، لا المنافع المحلّلة المقصودة للعقلاء. ويؤيّد ذلك، مضافاً إلى ذهاب الشيخ الأعظم إليه([246]) مع وسعة نظره ودقّته، استثناء بعض الأعيان النجسة، ككلب الصيد، وكلب الماشية، وكلب الحائط والزرع، فإنّ استثنائها عن حرمة بيع الأعيان النجسة لا يكون إلّا لوجود المنفعة المحلّلة المقصودة لها، ولعلّ الروايات الدالّة على عدم البأس ببيع العذرة ([247]) ناظرة إلى ذلك؛ أي إلى بيعها لمنافعها المحلّلة، كالتمسيد، وتقوية الأراضي للزراعة أيضاً. -------------------- [233]. الكافي 5: 126، باب السحت، الحديث 2؛ التهذيب 6: 368/1061، باب المكاسب، الحديث 182؛ تفسير القمّي 1: 170؛ وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5. [234]. التهذيب 7: 135/599، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة وما يجوز من ذلك وما لا يجوز، الحديث 70؛ وسائل الشيعة 17: 94، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 7. [235]. الفقيه 3: 105/435، باب المعايش والمكاسب والفوائد والصناعات، الحديث 83؛ وسائل الشيعة 17: 94، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 8. [236]. الفقيه 4: 262/824، باب النوادر، الحديث 4؛ وسائل الشيعة 17: 94، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 9. [237]. الكافي 5: 126، باب السحت، الحديث 1؛ التهذيب 6: 368/1062، باب المكاسب، الحديث 183؛ وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 1. [238]. الكافي 5: 127، باب السحت، الحديث 3؛ وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 2. [239]. راجع: مصباح الفقاهة 1: 86. [240]. المائدة (5): 90. [241]. المكاسب المحرّمة 1: 19. [242]. الأعراف (7): 156. [243]. المدّثّر (74): 1 ـ 5. [244]. راجع: الميزان في تفسير القرآن 20: 79؛ ومجمع البيان 9 ـ10: 384. [245]. الميزان في تفسير القرآن 20: 81؛ وراجع أيضاً: مجمع البيان 9 ـ 10: 385. [246]. المكاسب 1: 19.
|