|
الاستدلال بالإجماع على حرمة التكسّب بالأعيان النجسة
وممّا استدلّ على حرمة التكسّب بالأعيان النجسة هو الإجماع. والبحث فيه يقع في مقامين: المقام الأوّل: في الكبرى وحجّيّـة الإجماع في المسألة: إنّ الإجماع المدّعى في المسألة ـ ولو سلّم تحقّقه ـ لا يكون حجّة؛ لاحتمال استناده إلى الآيات والروايات المذكورة سابقاً، والإجماع إنّما يكون حجّة فيما ليس للعقل إليه سبيل ولا للنقل فيه دليل، بأن كان مخالفاً للقواعد والعمومات والإطلاقات ولم يقم دليل خاصّ عليه، ففي مثله، كان شهرة القدماء فيه حجّة، فضلاً عن إجماعهم؛ لكشفه عن وصول المطلب إليهم يداً بيد عن المعصومين(علیهم السلام)، أو عن دليل معتبر عندهم لو وصل إلينا لحكمنا باعتباره. المقام الثاني: في الصغرى وتحقّق الإجماع في المسألة وعدمه. ولقد أجاد سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) في التتبّع والبحث عن الصغرى بما لا مزيد عليه، مع عدمه في كلمات السابقين على الشيخ(قدس سرّه)، مثل مفتاح الكرامة، أو المعاصرين له، كالجواهر، قال(سلام الله علیه): وأمّا كلمات الفقهاء من دعاوي الإجماع وغيره فمختلفة: فمنها: ما تعرّضت للحكم الوضعيّ أو ظاهرها ذلك، كعبارات الخلاف والوسيلة والغنية والتذكرة. فالشيخ في الخلاف ادّعى الإجماع على عدم جواز بيع ما كان نجساً، وعدم جواز بيع السرجين النجس والخمر والمني وغيرها([266]). وهو ظاهر في عدم الجواز الوضعيّ. ويؤيّده تعبيره بعدم الجواز في كثير من الموارد التي لا تكون التجارة بعنوانها محرّمة، كقوله: لا يجوز بيع العبد الآبق منفرداً، وقوله: لا يجوز بيع الصوف على ظهور الغنم منفرداً ([267])، وقوله: لا يجوز السلم في اللحوم، ولا يجوز أن يؤجّل السلم إلى الحصاد والدياس([268])، إلى غير ذلك. فالجواز واللاجواز في المقامات ظاهران في الوضعيّ، كما مرّ. وأمّا السيّد ابن زهرة والعـلّامة في التذكرة، فقد ذكرا في شرائط العوضين الطهارة أو الإباحة. ففي التذكرة: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصليّـة»، إلى أن قال: «ولو باع نجس العين كالخمر والميتة والخنزير لم يصحّ إجماعاً»([269])، ثمّ تمسّك بالآيتين. فمورد دعوى الإجماع هو عدم الصحّة. ثمّ قال: «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعاً منّا. وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد؛ للإجماع على نجاسته، فيحرم بيعه»، إلى أن قال: «ولأنّـه رجيع نجس، فلم يصحّ بيعه كرجيع الآدمي»([270]). والظاهر من الحرمة، الوضعيّـة، ولو بالقرائن، مع أنّ مورد دعواه الإجماع، عدم الجواز الظاهر في الوضعيّ، وكذا الحال في سائر كلماته، ولو بملاحظة عنوان البحث وملاحظة استدلالاته المناسبة للبطلان، لا حرمة البيع بعنوانه، أعني الإنشاء عن جدّ، كما لا يخفى. وقال ابن زهرة في جملة من كلامه: «واشترطنا أن يكون منتفعاً به، تحرّزاً ممّا لا منفعة فيه كالحشرات وغيرها، وقيّدنا بكونها مباحة، تحفّظاً من المنافع المحرّمة، ويدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل»([271]). ثمّ تمسّك بإجماع الطائفة. وأمّا ابن حمزة، فقد ذكر ما لا يجوز تملّكه في شريعة الإسلام من أقسام بيع الفاسد([272]). ثمّ إنّ جملة من الإجماعات المدّعاة في الموارد الخاصّة أيضاً، موردها الحكم الوضعيّ، كمحكيّ إجماع التذكرة على عدم صحّة بيع الخمر والميتة، وكذا ما عن المنتهى والتنقيح في الميتة، وإجماع الخلاف على عدم جواز بيع أشياء منها الكلب([273]). وعن المنتهى: الإجماع على عدم صحّة بيعه([274]). وعن إجارة الخلاف: الإجماع على عدم صحّة جعل جلد الميتة اُجرة ([275]). وعن المبسوط: لا يصحّ بيع الخنزير ولا إجارته ولا الانتفاع به إجماعاً([276]). ومنها: ما تعرّضت لحرمة مطلق الانتفاع أو خصوص التكسّب به؛ بمعنى أنّ ما يكتسب بالأعيان النجسة حرام، كالإجماعين المحكيين عن شرح الإرشاد والتنقيح، قالا في بيان حرمة بيع الأعيان النجسة: «إنّما يحرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع، وكلّ محرّم الانتفاع لا يصحّ بيعه، أمّا الصغرى فإجماعية»([277]). انتهى. فإنّ أخذ الثمن من أوضح الانتفاعات بها، وأمّا أصل إيقاع البيع فليس انتفاعاً، كما هو ظاهر. وفي المنتهى جعل عنوان البحث كذلك: «في ضروب الاكتساب، وفيه مباحث: البحث الأوّل فيما يحرم التكسّب به، وهو أنواع: الأوّل الأعيان النجسة»([278]). انتهى. وهو كما ترى ظاهر في أنّ محطّ البحث اُمور يحرم التكسّب بها، أي كسب المال بها، ولهذا يشكل في دعاويه، الإجماع على حرمة بيع الاُمور المذكورة في خلال بحثه، أن يكون مراده حرمة عنوان البيع، مع أنّ في استدلالاته ما ينافي ذلك، فراجع. وعن التحرير: «يحرم التكسّب فيما عدى الكلاب الأربعة إجماعاً منّا»([279]). انتهى. والظاهر أنّـه ليس معنى التكسّب نفس المعاملة، بل تعاطي الثمن في مقابل الأعيان. وفي المراسم تقسيم المكاسب على خمسة أضرب، حسب الأحكام الخمسة، ومراده المتاجر، ثمّ قسّم المعايش، إلى ثلاثة أضرب: مباحٌ ومحظورٌ ومكروهٌ ([280]). ولعلّ مراده بالمعايش مقابل المكاسب، وهو ما يكتسب وما هو معيشته بالاكتساب، وإن كانت عبارته مشوّشة، ولعلّ ذلك هو المراد من عبارة المحقّق([281])، حيث جعل المقسم ما يكتسب به، وقسّمه إلى أقسام؛ لعدم صحّة العبارة إلّا بالحمل على أنّ التقسيم لما يكتسب، أي ما يتعاطي في مقابل المذكورات، فكأنّـه قال: ثمن الأعيان النجسة حرام، وكذا باقي الأقسام، ولا يضرّ كون بعض الأقسام حراماً بعنوان الثمن وبعضها بعنوان كونه مال الغير، وهذا، وإن كان خلاف ظاهر قوله مايكتسب به، وكذا يستشكل في المكاسب المكروهة، حيث إنّ ذات المعاملة مكروهة، لكن لا يبعد أن يكون لفظة «به» زائدة من قلم النسّاخ، وإلّا فالكلام في المكاسب المحرّمة، وهي جمع مكسب بمعنى مايكسب، لا ما يكتسب به. وأمّا في المكروهات، فلعلّه قائل بكراهة ما يكسب فيها أيضاً، ككراهة أصل العمل، كما لا يبعد. ومنها: ما هي ظاهرة في الحرمة التكليفيّـة لأصل المعاملة، أو يدّعى ظهورها فيها، كعبارة نهاية شيخ الطائفة ([282]). وفي الانتصار: «وممّا انفردت به الإماميّـة القول بتحريم بيع الفقّاع وابتياعه»، ـ إلى أن قال: ـ «وإن شئت أن تبنى هذه المسألة على تحريمه، فتقول: قد ثبت حظر شربه، وكلّ ما حظر شربه حظر ابتياعه وبيعه، والتفرقة بين الأمرين خروج عن إجماع الاُمّة» ([283]). انتهى. وهو دعوى الإجماع في خصوص الفقّاع، لو سلّم ظهوره في الحرمة التكليفيّـة، ولاريب في حرمة البيع والشراء في الخمر والفقّاع وكلّ مسكر، إنّما الكلام في سائر أنواع النجاسات والمحرّمات: وعن نهاية الإحكام: «بيع الدم وشراؤه حرام إجماعاً، لنجاسته وعدم الانتفاع به»([284]). ويحتمل بملاحظة التعليل بعدم الانتفاع به، أن يكون المراد بالحرمة، الوضعيّـة منها، ويحتمل أن يكون هذا الإجماع مستنقذاً من الإجماع على عدم الانتفاع به، بتوهّم أنّ نفس البيع والشراء من الانتفاعات. وعنه أيضاً، الإجماع على تحريم بيع العذرة وشرائها([285]). ويأتي فيه ما تقدّم، مع قرب احتمال الخلط بين المقامات الثلاثة المتقدّمة، فتوهّم من الإجماع على عدم جواز البيع، الإجماع على حرمته نفساً. هذا، مع ما تقدّم من ظهور حرمة البيع في الوضعيّـة، ولابدّ في بيان الحرمة التكليفيّـة في نفس إيقاع المعاملة، من بيان أوضح ممّا ذكر. فتحصّل ممّا مرّ، عدم دليل معتدّ به معتمد في غير المسكرات على حرمة عنوان المعاملة شرعاً، إلّا أن يدّعى أنّ اعتماد الأصحاب على خبر تحف العقول، أو كفاية مطابقة فتواهم لمضمونها في جبر سندها. وفي كلتا الدعويين منع، بل لم يثبت مطابقة فتوى المشهور لمضمونها، كما ظهر ممّا تقدّم من الإجماعات المنقولة ([286]). ------------------------ [266]. الخلاف 3: 167 و 185 ـ 186، المسألة 270، 310 و 311. [267]. الخلاف 3: 168 و 169، المسألة 274 و 276. [268]. الخلاف 3: 201 و 204، المسألة 7 و 12. [269]. تذكرة الفقهاء 10: 25. [270]. نفس المصدر: 31. [271]. غنية النزوع 1: 213. [272]. الوسيلة: 254. [273]. تذكرة الفقهاء 10: 25؛ منتهى المطلب 15: 349 و 351؛ التنقيح الرائع 2: 5؛ الخلاف 3: 181 ـ 182، المسألة 302. [274]. منتهى المطلب 15: 354. [275]. الخلاف 3: 511، المسألة 44. [276]. جواهر الكلام 22: 9؛ المبسوط 2: 165. [277]. مفتاح الكرامة 12: 44؛ جواهر الكلام 22: 9؛ مجمع الفائدة والبرهان 8: 29؛ التنقيح الرائع 2: 5. [278]. منتهى المطلب 15: 347 ـ 349. [279]. تحرير الأحكام الشرعيّـة 2: 258. [280]. المراسم: 171. [281]. شرائع الإسلام 2: 3. [282]. النهاية: 363. [283]. الانتصار: 437، المسألة 248. [284]. نهاية الإحكام 2: 463. [285]. نفس المصدر. [286]. المكاسب المحرّمة 1: 24 ـ 30.
|