|
المَدينة وغُربة البَقيع
إذا تسنّى لكَ السّير في أزقة المدينة وحاراتها، فإنّكَ ستَجد ريحَ النّبيّ وعلي وفاطمة (عليهم وعلى آلهم السلام) مازالت تَعبق في تلك الأماكن. وإذا كُنتَ عاشقاً حقيقيّاً فلا نَشكّ في أنّكَ ستشمّ عِطر سلمان وأبي ذَر والمِقداد وعمّار. وعند دخولكَ المدينة المنوّرة، وإلقائك نَظرة على مَقبرة البَقيع، ستتخيّل غُربتها وتَمثُل أمامكَ وقائعَ مظلوميّة آل بيت الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، فتَغرورق عيناك بالدّموع وتتسارعُ نَبضات قلبك، وترتعش ساقاك دون إرادة منك؛ لكنّ عَيناكَ تُحاول تصوير كلّ ما حَولك، فتتساءل: هل يُمكن لأحد أن يَتجاهل كلّ ذلك الظّلم؟ هل يَستطيع أيّ إنسان سَدّ أُذنيه كي لا يَسمع أنين الزّهراء الطاهرة أو يَتحسّس سكوت عليّ (عليه السلام) ومُكوثه في داره؟ أوَ تَصل الجُرأة بأحد منّا إلى تَغاضي حادثة استشهاد الحَسنيْن (عليهما السلام) أو أدعية زَين العابدين والصّحيفة السجّادية التي تَضمّ بُحوراً من المَعارف الإسلامية بهيئة دُعاء ومُناجاة؟ أيُمكن نسيان تلامذة هؤلاء العِظام من أمثال زُرارة وابن مُسلم، وتَعلّمهم الأحكام الإسلاميّة؟ هل بالإمكان تَجاهُل الإمام باقر العلوم وولده صادق آل بيت مُحمّد (عليهم السلام) اللذيْن رَوّجا للعلوم الإسلاميّة وكانا المؤسّسيْن الحقيقيّيْن للمذهب الشيعيّ الإثنا عشريّ، مُتحمّلين بذلك كلّ أنواع الأذى والتّعذيب والسّجون؟ أيُمكن لأحد نسيان الصّبر الذي تحلّت به السيدة زَينب الكُبرى (عليها السلام) ومُقاومتها للظّلم؟ إنّ كلّ ذلك إنّما يُمثّل هويّتنا وماضينا، وما بقاؤنا ولا استمرارنا إلاّ بذلك التراث العريق، فحُقّ لنا إذاً أن نَعشقهم، ونَكتحلَ بثرى قبورهم. وبعد كلّ ذلك، وفي تلك اللّحظات، تَشعر في قرارة نَفسك أنّ رغبة جامحة تُلحّ عليك بإطلاق صرختكَ بوَجه تلك الغُربة والمظلوميّة، وبوَجه الظّلم والاستبداد اللّذيْن مارسهما بنو أُميّة وبنو العبّاس، وكلّ الطّغاة على مَرّ التأريخ. ولكنّكَ ستُحسُّ بعَجزك عن فعل ذلك، وتأخذّك الغُصّة وتَخنقكَ العَبرة، فتُفضّل ذَرف دموعك بهدوء وسكينة، وتُسارع إلى زَمزمة روحكَ والدّعاء لحالك، أو قراءة زيارة الجامعة الكبير وزيارة أمين الله، فيَغمركَ شذى عبيرهما. ويَبقى ذلك كلّه تَعبيراً عن مُحاربتكَ لمظاهر الكُفر ومَعاقل الطغيان. فهل يُمكنكَ نسيان كلّ ذلك؟
|