|
الاستدلال بالروايات العامّة
أمّا العامّة، فقد ذهب سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) إلى أنّ المستفاد منها هو الاحتمال الثالث؛ أي أنّ حكم الاتّجار به تابع للجهة التي تحقّق الاتّجار لأجلها، قال (سلام الله علیه): المستفاد من فقرات رواية تحف العقول هو الاحتمال الثالث. قال: «وأمّا تفسير التجارات في جميع البيوع، ووجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له، وكذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز، فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد وقوامهم به في اُمورهم؛ ووجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره، ممّا يأكلون ويشربون» إلى أن قال: «وكلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وإمساكه واستعماله وهبته وعاريته. وأمّا وجوه الحرام من البيع، فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله»، ـ إلى أن قال: ـ «أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، أو بيع الميتة»، ـ إلى أن قال: ـ «فهذا كلّه حرام محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه بوجه من الوجوه، لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام...».([362]) فإنّ مقتضى إطلاق صدرها، أنّ كلّ شيء يكون فيه وجه من وجوه الصلاح، جاز الاتّجار والتكسّب به مطلقاً، وإن كان فيه وجه أو وجوه من الفساد. ومقتضى إطلاق ذيلها مع قطع النظر عن الصدر، وعن جهة تأتي الإشارة إليها، أنّ كلّ ما فيه جهة من جهات الفساد، يحرم الاتّجار به. ومقتضى الجمع بينهما عرفاً، أنّ ما فيه جهة صلاح وفساد، إذا كان التقلّب لأجل الصلاح يكون حلالاً، وإن كان لجهة الفساد يكون حراماً، بل مقتضى مناسبة الحكم والموضوع وفهم العرف والعقلاء من الرواية، من أنّ جهة الفساد أوجبت حرمة المعاملة لأجل ترتّب الفساد عليها، أنّ التقلّبات بهذه الجهة محرّمة، فلا إشكال في استفادة ذلك عرفاً. مضافاً إلى ظهور قوله: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» في أنّ تقلّب هذا الشيء في ذلك الوجه الحرام حرام. واحتمال أن يكون المراد أنّ تقلّب الإنسان في ذلك الشيء المشتمل على الفساد حرام، بعيد مخالف للظاهر، سيّما مع ما مرّ من مناسبة الحكم والموضوع، ومقابلة الصدر والذيل، مضافاً إلى ظهور بعض فقراتها الأخر، مثل ما ذكر في تفسير الإجارات في ذلك أيضاً. فلو كانت الرواية معتمدة، صارت موجبةً للتصرّف في سائر روايات الأبواب؛ لحكومتها عليها لو فرض لها إطلاق. ونحوها رواية فقه الرضا(علیه السلام)([363]) والدعائم([364])، فإنّ مقتضي الجمع العقلائيّ بين صدرهما وذيلهما، والمناسبة بين الحكم والموضوع، أنّ الحلّيّـة والحرمة تابعتان للاستعمال في جهة الصلاح والفساد، على نحو ما تقدّم في رواية التحف([365]). نعم، يمكن استفادة عدم الجواز فيما إذا علم أنّـه يستعمله في جهة الفساد، من رواية التحف وما يتلوها أيضاً ([366]). وأمّا النبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فقال سيّدنا الأستاذ (سلام الله علیه) بعد ذكره الاحتمالات في المراد منه وفي الظاهر منه، وأنّـه لعلّ الأظهر منها أن يراد أنّ الله إذا حرّم شيئاً فى الجملة بأيّ نحو؛ سواء تعلّقت الحرمة بذاته، أو نهى عن شربه، أو أكله، أو لبسه، أو غير ذلك، حرّم ثمنه؛ لإسقاطه ماليّته شرعاً، أو لتحريم ثمنه بما هو، لاقتضاء الإطلاق وللتفاهم العرفيّ، المؤيّدتين بالنبويّ، على ما في عوالي اللئالي: «إنّ الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم ثمنه»، وبما في صحيحة ابن مسلم، عن أبي عبدالله(علیه السلام): «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها»، وبما في الروايات الواردة في موارد كثيرة على تحريم الثمن، مع عدم تحريم جميع المنافع. وبعد دفعه احتمال أن يكون نظره في ذلك إلى ما تعلّق التحريم بذات الشيء، بأنّـه بعيد جدّاً على جميع ما فيه من الاحتمالات المتصوّرة، ممّا ذكره بقوله: منها: أن يراد به أنّ التحريم إذا تعلّق بذات شيء، بأن يقال: حرّمت عليكم الميتة مثلاً، حرّم ثمنه؛ لأنّ تحريم الذات تحريم جميع منافعها، ومنها الثمن، فيكون بياناً لحدود ما شرّع الله تعالى، لا لأصل التشريع. أو يراد الإخبار بالملازمة بين ما إذا تعلّق الحرمة بذات شيء، وبين حرمة ثمنه. إمّا لأنّ حرمة ذات شيء حرمة جميع الانتفاعات منها بلا وسط، كالشرب والأكل وهكذا، وهي ملازمة لحرمة ثمنه؛ لأجل إسقاط ماليّته، فلا يجوز معاملته، أو لحرمة ثمنه بما هو ثمنه، نظير ما مرّ. وإمّا لأنّ حرمة ذاته، بحرمة الانتفاعات المقصودة منه، ومع سلبها لا يصحّ بيعه؛ لأنّـه مسلوب المنفعة عرفاً بهذا اللحاظ وفي محيط القانون، فيكون ثمنه حراماً لعدم وقوع المعاملة. أو مع سلبها يحرم ثمنه بحكم الشرع، وبعنوان كونه ثمنه، نظير ما تقدّم. أو يراد أنّ الله إذا حرّم شيئاً في الجملة بأيّ نحو؛ سواء تعلّقت الحرمة بذاته، أو نهى عن شربه، أو أكله، أو لبسه، أو غير ذلك، حرّم ثمنه؛ لإسقاطه ماليّته شرعاً، أو لتحريم ثمنه بما هو. أو يراد أنّـه إذا حرّمت منافعه المقصودة؛ سواء حرّمها بتعليق الحكم على ذاته، أو على تلك المنفعة المقصودة، حرّم ثمنه.([367]) قال ما هذا لفظه: ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النبويّ، وإن كان حرمة ثمن ما حرّم؛ سواء بيع لاستفادة المنفعة المحرّمة، أو المحلّلة، وسواء بيع لمن يستفيد منه في المحرّم أو لا، لكن لا يبعد دعوى دلالتها على التحريم في القسم الأوّل من الشقّين؛ لمناسبة الحكم والموضوع، والوثوق بأنّ التحريم إنّما هو للفساد المترتّب عليه. فلا يشمل ما إذا بيع لصلاح حال الناس، وللجهة المحلّلة، سيّما مع ما تقدّم من دلالة رواية تحف العقول والرضويّ والدعائم، على ذلك([368]). ----------------- [362]. تحف العقول: 331؛ وسائل الشيعة 17: 83، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 2، الحديث 1. [363]. راجع: فقه الرضا: 250، باب التجارات، والبيوع والمكاسب؛ مستدرك الوسائل 13: 65، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 2، الحديث 1. [364]. دعائم الإسلام 2: 18، كتاب البيوع، الفصل 2، الحديث 23؛ مستدرك الوسائل 13: 65، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 2، الحديث 2. [365]. تحف العقول: 333. [366]. المكاسب المحرّمة 1: 38 ـ 40. [367]. المكاسب المحرمّة 1: 43 ـ 44. [368]. نفس المصدر: 44.
|