|
المبحث الأوّل: في مقتضى العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة
هل العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة يكون كالعلم التفصيلي في حرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيّتين، أم كالشكّ البدوي، فمخالفته القطعيّـة غير حرام فضلاً عن وجوب موافقته القطعيّـة، أو كالعلم التفصيلي في حرمة المخالفة القطعيّـة، وكالشكّ البدوي في عدم وجوب الموافقة القطعيّـة؟ فيه وجوهٌ بل أقوالٌ: فالأوّل هو المعروف المشهور. وعليه، فلا يجوز بيع المشتبة من المذكّى بالميتة. والثالث هو المختار للمحقّق القميّ. وعليه، فبيعهما معاً غير جائز دون أحدهما فقط، فهو جائزٌ. والثاني هو الذي يظهر من المقدّس الأردبيلي ترجيحه بحسب الأدلّة والقواعد وميله إليه وعليه، يجوز بيعهما معاً، فضلاً عن أحدهما، كما لا يخفى، فإنّـه قال ذيل عبارة القواعد: «ويحرم المشتبه بالميته» ما لفظه: تحريم أكل المشتبه بالميتة هو مقتضى ما تقرّر عندهم من تغليب الحرام على الحلال، إذا كان الاشتباه في المحصور؛ للرواية التي ينقلونها أنّـه قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال»([384]). ولأنّـه يجب الاجتناب عن المحرّم، وما يحصل إلّا باجتناب الكلّ، فيجب. لكن ما نعرف دليلاً لما تقرّر من تغليب الحرام، إلّا مثل المذكورات، والرواية النبويّـة(صلی الله علیه و آله و سلم) ما نعرفها. وإن سلّمت ووجدت صحيحة، فهي معارضة بما ذكرناه مراراً من صحيحة عبدالله بن سنان، قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام، فهو لك حلال أبداً، حتّى تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه»([385]). وقريبٌ منها، صحيحة ضريس الكناسي الثقة، قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن السمن والجبن، نجده في أرض المشركين بالروم، لا نأكله؟ فقال: «أمّا علمت أنّـه قد خلطه الحرام، فلا تأكله، وأمّا ما لم تعلم، فكله، حتّى تعلم أنّـه حرام»([386]). فيه تأمّل، فتأمّل، والأصل والعمومات وحصر المحرّمات يرجّح الحلّ. مع أنّـه يمكن قراءة «الحرام»([387]) منصوباً، ليكون مفعولاً وموافقاً لغيرها، ولكن أظنّ وجود غيرها أيضاً. وقد يمنع وجوب الاجتناب عن المحرّم حين الاشتباه، فتأمّل([388]). لكنّ الحقّ الموافق للتحقيق أنّ العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة، كالعلم التفصيلي في وجوب الموافقة وحرمة المخالفة القطعيّتين. ولا يخفى أنّ ما استدلّ به على حرمة المخالفة القطعيّـة في الشبهة المحصورة من العلم الإجمالي، بأنّ تجويز الشارع ارتكاب جميع الأطراف، ترخيص منه في المعصية، والترخيص في المعصية قبيح عقلاً ومحال على الشارع الحكيم، غير تامّ على ما حقّقه سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) في محلّه؛ مبنيّاً على عدم قيام العلم الإجمالي بمعنى اليقين على وجوب الاجتناب عن الميتة في البين وحرمتها في المورد، حتّى يكون ترخيص المخالفة ترخيصاً في المعصية؛ لعدم اليقين في المورد، ولا في غيره في غير موارد الضروريّ، وعلى وجوده، نادر جدّاً، فما في المورد ليس إلّا الحجّة الإجماليّـة على ذلك الوجوب والحرمة، وهي إطلاق أدلّة تحريم الميتة، مثل قوله تعالى: Cحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِB([389])، فإنّ إطلاقه يقتضي حرمة الميتة واقعاً؛ سواء كان الموضوع معلوماً أو لا، وفي مثله يمكن احتمال الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف فضلاً عن بعضه؛ قضاءً لتقييد الإطلاق بعدم حرمة الميتة في بعض الأطراف، أو في جميع الأطراف، واللازم على الأوّل الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف وعلى الثاني في جميعها، ومن الواضح كون التقييد أمراً ممكناً وليس بمستحيل. نعم، مع قيام العلم الإجمالي، لا يمكن للشارع الحكيم، الترخيص في بعض الأطراف فضلاً عن جميعها؛ لما مرّ([390]) من الإشكال ثبوتاً. هذا، ولكنّ الحقّ ـ كما ذكرناه ـ هو حرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيّتين في موارد الحجّة الإجماليّـة أيضاً، كما هو المعروف، وعليه المحقّقون، لكن لا لما ذكر من الإشكال الثبوتي، بل للإشكال الإثباتي؛ وهو انصراف أدلّة الحلّ، مثل قوله(علیه السلام): «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّـه حرام بعينه»([391])، عن موارد الحجّة الإجماليّـة الموجودة في الشبهة المحصورة. هذا مضافاً إلى الروايات الخاصّة الدالّة على وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة، مثل موثّقة سماعة، قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال: «يهريقهما جميعاً ويتيمّم»([392]). وموثّقة عمّار الساباطي، عن أبي عبد الله(علیه السلام) ـ في حديث طويل ـ قال: سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال: «يهريقهما جميعاً ويتيمّم»([393]). ---------- [384]. عوالي اللئالي 2: 132، الحديث 358؛ مستدرك الوسائل 13: 68، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 5. [385]. الكافي 5: 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 39؛ الفقيه 3: 216/1002، باب في الصيد والذبائح، الحديث 92؛ التهذيب 7: 226/988، باب من الزيادات، الحديث 8؛ و 9: 79/337، باب الذبائح والأطعمة و...، الحديث 72؛ وسائل الشيعة: 17: 87 ـ 88، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 1. [386]. التهذيب 9: 79/336، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك وما يحرم، الحديث 71؛ وسائل الشيعة 24: 235، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 64، الحديث 1، ولكن فيهما: «أنأكله» بدل: «لا نأكله»، و«أمّا ما علمت» بدل: «أمّا علمت»، و«فلا تأكل» بدل: «فلا تأكله». [387]. الوارد في النبويّ المتقدّم في الصفحة السابقة. [388]. مجمع الفائدة والبرهان 11: 271 ـ 272. [389]. المائدة (5): 3. [390]. مرّ في الصفحة: 176 ـ 177. [391]. الكافي 5: 313، باب النوادر، الحديث 40؛ التهذيب 7: 226/989، باب من الزيادات، الحديث 9؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4. [392]. الكافي 3: 10، باب الوضوء من سؤر الدوابّ والسباع والطير، الحديث 6؛ التهذيب 1: 229/662، باب المياه وأحكامها، الحديث 45؛ و ص 249/713، باب تطهير المياه من النجاسات، الحديث 44؛ الاستبصار 1: 21/48، باب الماء القليل يحصل فيه شيء من النجاسة، الحديث 3، وليس في التهذيبين كلمة «جميعاً»؛ وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2. [393]. التهذيب 1: 248/712، باب تطهير المياه من النجاسات، الحديث 43؛ و ص 407/1281، باب التيمّم وأحكامه، الحديث 19؛ وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 14، وفيه تفاوت يسير في اللفظ.
|