|
منشأ اختلاف الأقوال
والمنشأ لاختلاف الأقوال في المسألة اختلاف روايات الباب، وقاعدة العلم الاجمالي، والقواعد الأخر في الأبواب الأخر، فبعضهم أفتى على طبق الروايات، مثل الشيخ في النهاية، وابن حمزة في الوسيلة، وبعضهم ذهب إلى لزوم طرح الروايات، لكونها مخالفة لقاعدة العلم الإجمالي، وأفتى على وفق هذه القاعدة، كابن إدريس، وبعضهم أفتى على وفق القواعد الأخر. ولقد أجاد المقدّس الأردبيلي في بيان الأقوال ومنشأ اختلافها، فنكتفي بنقل عبارته، وإليك نصّها، قال(قدس سرّه) ذيل عبارة الإرشاد: «ويحرم المشتبه بالميتة، فإن بيع على مستحلّيه قصد المذكّى»: ولمّا كان خلاف ما تقرّر عندهم ـ من عدم جواز التصرّف في الميتة وعدم إباحة أكل ثمنها ـ فذكروا أنّـه يقصد بيع المذكّى([424]) لا الميتة. وفيه أيضاً إشكال من جهة لزوم صحّة بيع المجهول، وهم لا يجوّزونه. ومن جهة أنّـه قد يأخذ أكثر من ثمن المذكّى، فإنّـه يبيع الاثنين ظاهراً. ومن جهة أنّـه يقصد بيع الواحد، والمشتري أكثر. وأنّـه لو كان مع قصد ذلك يصحّ البيع لصحّ بيعه من الغير المستحلّ أيضاً، ومع ذلك، فيه: أنّـه ما يحلّ له أن ينتفع به، فلا يجوز البيع عليه، فتأمّل. قال في المختلف ـ للتفصّي عن ذلك ـ: إنّ ذلك ليس ببيع حقيقة، بل استنقاذ مال عن يد كافر.([425]) وهو جيّد. لكن ينبغي تخصيص الحكم بمن يحلّ ماله من الكفّار الحربي الغير المأمون، لا الذمّي، ولا المأمون، ولا المنتمي بالإسلام، وكأنّـه مقصود وترك للظهور. ولكن حمل الروايتين([426]) على ذلك لا يخلو عن بُعد، وكذا عبارات الأصحاب وأنّـه حينئذٍ لا يحتاج إلى قولهم: فيقصد بيع المذكّى، وهو ظاهر. فالظاهر أنّـه بيع حقيقيّ مع العمل بهما، وحينئذٍ ينبغي أن يقال بالاستثناء عن عدم جواز بيع المجهول لوسلّم، خصوصاً إذا كان المشتري يشترى المعلوم ولم يكن عنده مجهول، فإنّ العلّة الغرر، ولا شكّ حينئذٍ في عدمه منهما معاً، وهو ظاهر. وكذا([427]) عن الضرر([428]) بقصده أحدهما، وقصد المشتري إيّاهما. ولكن ينبغي أن لا يبيع بأكثر من ثمن المذكّى، وحمل الخبرين على هذا، وإن كان بعيداً، أو يخصّص عدم الانتفاع بالميتة وعدم جواز أكل ثمنه، إلّا في هذه الصورة. وكذا([429]) تسليط الكافر على أكل الميتة؛ للنصّ والشهرة. ومن لم يعمل بالخبر الواحد مثل ابن إدريس يطرحهما ولم يجوّز بيعه. ونقل في شرح الشرائع عن الدروس، الامتحان بالنار([430]) كما سيجيء القول في اللحم المطروح الذي لم يعلم ـ ولو بقرينة ـ كونه من الذكيّ أو من الميتة؛ لرواية شعيب، عن أبي عبدالله(علیه السلام) في رجل دخل قرية فأصاب بها لحماً لم يدر أذكى هو أم ميّت؟ قال: «يطرحه على النار، فكلّ ما انقبض فهو ذكيّ، وكلّ ما انبسط فهو ميتة»([431]). وهو غير بعيد، إذا كان مذهبه ذلك، وعمل بهذه الرواية. لكنّ العمل بها مشكل؛ لضعفها بوقف إسماعيل بن عمر([432])، واشتراك شعيب، مع مخالفتها لما تقدّم من أدلّة التحريم في هذه المسألة؛ لأنّـه يعلم من الرواية أنّ كلّ ما انقبض فهو حلال، وما انبسط فهو حرام، فهو بعينه جار فيما نحن فيه. فإيراد شرح الشرائع بتضعيفه ـ مع تسليم الأصل ـ ببطلان القياس، مع أنّـه قياس مع الفارق؛ إذ في اللحم المطروح وجود الميتة مشكوك، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ وجودها متيقّن، وليس كلّ ما يجري في المشتبه يجري في الميتة ([433])، محلّ التأمّل؛ لما علم من الرواية، العلّة، وهي حصول العلم بتعيين أحدهما، وهو أعمّ من المطروح والمشتبه بالميتة، على أنّـه ليس بفارق، فإنّ المطروح بحكم الميتة شرعاً عندهم، وأنّ كلّ واحد من الميتة والمشتبه يحتمل أن يكون ميتة، فوجود الميتة يقيناً هنا لا ينفع، فلابدّ أن يمنع استقلال العلّة مع الاشتباه، ومثله يرد في جميع القياسات المنصوصة العلّة، أو يمنع الأصل، فتأمّل([434]). وينبغي الإشارة إلى نكتتين في ذيل كلامه: الأوّل: أنّـه (قدس سرّه) قال بعد نقل كلام العـلّامة في المختلف: «إنّ ذلك ليس ببيع حقيقة، بل استنقاذ مال عن يد كافر»: وهو جيّدٌ، لكن ينبغي تخصيص الحكم بمن يحلّ ماله من الكفّار الحربي الغير المأمون، لا الذمّي، ولا المأمون، ولا المنتمي بالإسلام([435]). أقول: حمل الروايات على بيعه ممّن لا حرمة لماله، حمل على ما لا مورد له على المتعارف؛ لحرمة أموال الناس كلّهم؛ لبناء العقلاء، الممضاة شرعاً، واستقرار سيرة المسلمين عليه، إلّا الكافر الحربي في حال الحرب وزمان الحرب ومكان الحرب، فحمل الروايات على بيعه من الكافر الحربي حمل على الفرد النادر جدّاً، بل على ما لا مورد له حسب المتعارف. الثاني: أنّ ما قاله (قدس سرّه)، من عدم حرمة مال الكافر الحربي الغير المأمون، بإطلاقه غير تامّ، فإنّ الكافر الحربي المحكوم بأنّـه لا حرمة لماله ولنفسه ـ كما قلناه ـ هو الحربي حال الحرب وزمان الحرب وفي مكان الحرب، لا الحربي الغير المأمون الذي يكون قابلاً لأن يقع المحاربة معه، في مقابل الذمّي والمؤتمن والمعاهد.
--------------------- [424]. يعني البائع حين إنشاء البيع. [425]. مختلف الشيعة 8: 337، المسألة 39. [426]. هما صحيحة الحلبي وحسنته. [427]. عطف على قوله(قدس سرّه): عن عدم جواز بيع المجهول. [428]. يعني الضرر الحاصل بمثل هذا النوع من البيع، فإنّ اختلاف قصدي البائع والمشتري ضرر، والله العالم. [429]. يعني يخصّص أدلّة عدم جواز تسليط الكافر على أكل الميتة في هذه المسألة؛ للنصّ والشهرة. [430]. مسالك الأفهام 12: 59؛ وراجع: الدروس الشرعيّـة 3: 14. [431]. الكافي 6: 261، باب آخر من اختلاط الميتة بالذكيّ، الحديث 1؛ التهذيب 9: 48 / 200، كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد والذكاة، الحديث 200، وسائل الشيعة 24: 188، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 37، الحديث 1، وفي الكلّ: «فهو ميّت» بدل: «فهو ميتة». [432]. سندها كما في الكافي هكذا: محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن إسماعيل بن عمر، عن شعيب. (الكافي 6: 261، باب آخر منه، الحديث 1). [433]. مسالك الأفهام 12: 59. [434]. مجمع الفائدة والبرهان 11: 273 ـ 275. [435]. نفس المصدر: 273.
|