|
الاستدلال بالكتاب على حلّيّـة الانتفاع بالأشياء من كلّ وجه
ويمكن الاستدلال على حلّيّـة الانتفاع بالأشياء من كلّ وجه بآيات من الكتاب، منها: قوله تعالى: Cهُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ(([436]). فإنّ الآية الشريفة بإطلاقها تدلّ على حلّيّـة جميع الانتفاعات من جميع ما في الأرض؛ لأنّ مقتضى خلق الأشياء لانتفاع أبناء البشر هو عدم حرمة أنواع الانتفاعات منها، فحرمة بعض الانتفاعات في بعض الأشياء مخالف لإطلاق الآية، كما أنّ عمومها يدلّ على أنّ جميع الأشياء خلق لانتفاع أبناء البشر، فلو قام دليل على حرمة جميع أنواع الانتفاعات من شيء خاصّ، حتّى الانتفاع به حال الاضطرار، فهو مخالف لعموم الآية الشريفة ولا يمكن تخصيصها به؛ لأنّ لسان الآية آبية عن التخصيص. ولا يخفى أنّ تقييد الحكم بما في الأرض من باب الغلبة وكونه مورداً للابتلاء، وإلّا فلاخصوصيّـة ولاموضوعيّـة لما في الأرض، فالحكم يشمل ما في السماء أيضاً. ومنها: قوله تعالى: Cيَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌB([437]). تقريب الاستدلال: إنّ الأكل في الآية الشريفة كناية عن مطلق التصرّفات؛ لعدم صحّة إرادة معناه الحقيقيّ، فإنّ كثيراً من الأشياء بل أكثرها غيرقابل للأكل بمعنى المضغ بين الأسنان وابتلاعه، وهذا قرينة على أنّ المراد منه هو المعنى الكنائي. ويشهد لذلك قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاض[438]) وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(([439]). كما أنّ قوله تعالى: (حَلالاً طَيِّباً) حال للأكل، لا وصف ولا قيد احترازيّ لهيئة الأمر. فالآية تدلّ على حلّيّـة أنواع الانتفاعات ممّا في الأرض، وكونها حلالاً طيّباً، كما أنّ تقييد الحكم بما في الأرض من باب ابتلاء الناس به، لا لخصوصيّـة فيه. ومنها: قوله تعالى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)([440]). وتقريب الاستدلال بها كسابقها. ويشهد على أنّ المراد من الأكل في هذه الآية أيضاً معناه الكنائي ـ مضافاً إلى ما ذكر في الآية السابقة ـ قوله تعالى في الآية السابقة عليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ)([441])، فإنّ المراد ممّا أحلّ الله لكم، عامّ يشمل أنواع الانتفاعات، بقرينة شأن نزولها، فقد ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: نزلت هذه الآية في أميرالمؤمنين(علیه السلام) وبلال وعثمان بن مظعون، فأمّا أميرالمؤمنين(علیه السلام) فحلف أن لا ينام بالليل أبداً، وأمّا بلال فإنّـه حلف أن لا يفطر بالنهار أبداً، وأمّا عثمان بن مظعون، فإنّـه حلف أن لا ينكح أبداً، فدخلت إمرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة، فقالت عائشة: مالي أراك معطّلة؟ فقالت: ولمن أتزيّن؟ فو الله ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا، فإنّـه قد ترهّب ولبس المسوح وزهد في الدنيا، فلمّا دخل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أخبرته عائشة بذلك، فخرج فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيّبات، ألا إنّي أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»، فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك، فأنزل الله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ...)([442]).([443]) --------------------------- [436]. البقرة (2): 29. [437]. البقرة (2): 168. [438]. البقره (2): 188. [439]. النساء (4): 10. [440]. المائدة (5): 88. [441]. المائدة (5): 87. [442]. المائدة (5): 89. [443]. تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 179 ـ 180؛ وحكاه عنه صاحب تفسير نور الثقلين 1: 664 ـ 665.
|