|
الاستدلال على حرمة الانتفاع بالميتة مطلقاً
قال: تلك شاة لسودة بنت زمعة زوج النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها، فتركوها حتّى ماتت، فـقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «مـا كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أن تذكّى» وفي نسخة: «أي تذكّى»([565]). قال سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه): ودلالتها واضحة، سيّما إذا كان قوله: «منها» متعلّقاً بالفعل، ويكون المراد هل ينتفع منها بوجه من الوجوه([566]). ثمّ استشكل (سلام الله علیه) في سندها بقوله: لكن في سندها ضعف بعليّ بن أبي مغيرة؛ للوثوق بأنّ توثيق العـلّامة تبع للنجاشي في ابنه الحسن بن عليّ بن أبي مغيرة، وظاهر كلام النجاشي توثيق ابنه، فتعبير السيّد صاحب الرياض عنها بالصحيحة([567]) غير وجيه ظاهراً([568]). ولكن يمكن أن يقال: إنّ النجاشي حكم بوثاقته، كما حكم بوثاقة ابنه، وإليك نصّ كلامه، قال(قدس سرّه): الحسن بن عليّ بن أبي المغيرة الزبيدي الكوفيّ ثقة هو وأبوه، روى عن أبي جعفر وأبي عبدالله8، وهو يروي كتاب أبيه عنه([569]). وفي هذه العبارة ثلاثة احتمالات: الأوّل: أن تكون جملة: «هو وأبوه روى عن أبي جعفر وأبي عبدالله8» مستأنفة مشتملة على المبتدأ والخبر، والواو عاطفة، وعليه لا تكون مفيدة لتوثيق عليّ بن أبي المغيرة، إلّا أنّ هذا الاحتمال واضح البطلان؛ لأنّ «روى» لو كان خبراً عن «هو وأبوه» لابدّ وأن يكون بلفظ التثنية، لا المفرد. الثاني: كون الواو في: «وأبوه روى» مستأنفة، والجملة المستأنفة مشتملة على المبتدأ والخبر، والخبر يطابق المبتدأ في الإفراد، فلا نقاش فيه من هذه الجهة، وكان «هو» من تمام الجملة السابقة. وعليه، تكون هذه العبارة ظاهرة في توثيق الابن، دون الأب، وهذا موافق لما ذهب إليه سيّدنا الأستاذ (سلام الله علیه) وتبعه في ذلك بعض الأعاظم من تلامذته وقال: وأمّا السند، فهو إلى عليّ بن أبي المغيرة صحيح، ولكن في عليّ كلام: فعن العـلّامة توثيقه، ونوقش في ذلك بأنّ منشأ التوثيق، الخطأ في فهم كلام النجاشي. ثمّ بعد نقل كلام النجاشي، قال: فتوهّم من عبارته هذه كون التوثيق للابن والأب معاً، مع وضوح أنّ الواو في قوله: «وأبوه» للاستيناف لا للعطف؛ إذ لا يروى الحسن عن أبي جعفر(علیه السلام)([570]). لكنّـه غير خالٍ عن الإشكال؛ إذ البحث كان في وثاقة الابن وخصوصيّاته، والتعرّض في المبحث الذي مهدّ لخصوصيّات الابن لخصوصيّات الأب، وهي: روايته عن أبي جعفر وأبي عبدالله8، مخالفٌ لما هو المتعارف في علم الرجال. هذا أوّلاً؛ وثانياً: أنّ إضافة كلمة: «هو» في توثيق الأفراد أيضاً مخالف لما هو المتعارف في علم الرجال، لا سيّما في مثل المقام الذي أوجب الإجمال في المقصود. وأمّا ما أفاده بعض تلامذته من أنّ حسن بن عليّ بن أبي المغيرة لا يمكن أن يروي عن أبي جعفر(علیه السلام)، لا بيّن ولامبيّن وجهه في كلامه، بل لو حمل كلام النجاشي على الاحتمال الثالث ـ وهو المختار، كما سيجيء ـ كان ذلك شهادة من النجاشي على روايته عن أبي جعفر(علیه السلام). الثالث: كون الواو في: «هو وأبوه» عاطفة، يعطف «أبوه» على «هو»، وكون المعطوف والمعطوف عليه من تمام الجملة السابقة، بكونهما خبراً لـ «ثقة»، وفاعل «روى» ضمير يرجع إلى حسن بن عليّ بن أبي المغيرة. وهذا الاحتمال هو الأظهر من بين المحتملات، وهو المختار؛ إذ ليس فيه شيء يخالف القواعد، إلّا توثيق الأب منضمّـاً إلى توثيق الابن، وهذا المقدار لا إشكال فيه؛ لتعارفه في علم الرجال. وعليه كان عليّ بن أبي المغيرة موثّقاً، وكان الرواية صحيحة. ومنها: حسنة أبي مريم، رويت فيها قضيّـة الشاة المذكور بنحو آخر، قال: قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): السخلة التي مرّ بها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهي ميتة، فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها» قال: فقال أبو عبدالله(علیه السلام): «لم تكن ميتة يا أبا مريم، ولكنّها كانت مهزولة، فذبحها أهلها، فرموا بها»، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها»([571]). لكن ليس لها إطلاق بالنسبة إلى جميع الانتفاعات، بل الظاهر منها عدم جواز الانتفاع بها في الجملة. ثمّ ذكر سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) الاستدلال بروايات، وناقش فيها سنداً أو دلالة، ولقد أجاد فيما أفاد، وإليك نصّ كلامه، قال (سلام الله علیه): ومنها: صحيحة عبدالله بن يحيى الكاهلي على طريق الصدوق، بل الكليني أيضاً، بناءً على وثاقة سهل بن زياد، قال: سأل رجل أبا عبدالله(علیه السلام) ـ وأنا عنده ـ عن قطع أليات الغنم، فقال: «لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك»، ثمّ قال: «إنّ في كتاب عليّ(علیه السلام)، أنّ ما قطع منها ميّت لا ينتفع به»([572]). يظهر منها أنّ عدم جواز الانتفاع بالميتة، كان مفروغاً منه، وإنّما لا ينتفع بالمقطوع؛ لكونه ميتة حكماً وتنزيلاً، أو حقيقة. ومقتضى إطلاق عدم الانتفاع بالأليات، عدم الانتفاع بالميتة أيضاً. إلّا أن يناقش في الإطلاق، بأن يقال: إنّ حكم الميتة لمّا كان مفروغاً منه، لم تكن الرواية إلّا بصدد تنزيل الجزء المقطوع منزلة الميتة في عدم الانتفاع، فيكون الجزء تبعاً في الحكم الثابت للميتة، فيكون مقدار عدم الانتفاع به كمقداره فيها، ولم يتّضح فيها، وليست بصدد بيانه. وبعبارة اُخرى: إنّها ليست بصدد بيان عدم الانتفاع به ابتداء، بل بصدد بيان تشبيهه بها في الحكم الثابت، فلا إطلاق فيها. ومنها: رواية الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن، قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيّاً؟ فكتب: «لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب، وكلّما كان من السخال، الصوف إن جزَّ، والوبر والأنفحة والقرن، ولا يتعدّى إلى غيرها»([573]). وفي نسخة «من الصوف». والظاهر وقوع سقط فيها، ويحتمل أن يكون الأصل: إلّا الصوف، وكان قوله: «وكلّ» عطفاً على «بإهاب»، ويحتمل أن يكون قوله: «وكلّ» مبتدأً محذوف الخبر، هو ينتفع به. وكيف كان، فالظاهر إطلاقها، ولا يبعد فهم المثاليّـة من المذكور، سيّما مع ذيلها، فتدلّ على عدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقاً، لكنّها ضعيفة السند([574]). ومنها: رواية عليّ بن جعفر(علیه السلام)، عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)، قال: سألته عن لبس السمور والسنجاب والفنك، فقال: «لا يلبس ولا يصلّي فيه، إلّا أن يكون ذكيّاً»([575]). لكنّها مع ضعفها مخصوصة باللباس. ومنها: رواية تحف العقول عن الصادق(علیه السلام) في حديث، قال: «وكلّ ما أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه والصلاة فيه، وكلّ شيء يحلّ أكله فلا بأس بلبس جلده الذكيّ منه، وصوفه وشعره ووبره، وإن كان الصوف والشعر والريش والوبر من الميتة وغير الميتة ذكيّاً فلا بأس بلبس ذلك، والصلاة فيه»([576]). ويمكن الخدشة في دلالتها بعد الغضّ عن سندها، بأنّ الظاهر من قوله: «فلا بأس بلبسه والصلاة فيه»، أنّـه بصدد بيان حكم اللبس في الصلاة، فقوله: «فلا بأس بلبسه»، كالأمر المقدّمي المذكور توطئة، كقوله: «لا بأس بلبس الحرير والحرب فيه، ولا بأس بالجلوس في المسجد والقضاء فيه، ولا بأس بأخذ الماء من الدجلة والشرب منه»، إلى غير ذلك. فحينئذٍ يكون قوله: «وكلّ شيء يحلّ أكله...» بصدد بيان اللبس في الصلاة أيضاً، وكذا الفقرة الأخيرة، فلا يستفاد منها حكمان: تكليفيّ مربوط بأصل اللبس ووضعي مربوط بالصلاة، كما هو ظاهر عند العارف بأساليب الكلام، ولا أقلّ من أن يكون احتمالاً مانعاً عن الاستدلال. ومنها: رواية عليّ بن جعفر، عن أخيه(علیه السلام)، قال: سألته عن الماشية تكون للرجل، فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها؟ قال: «لا، ولو لبسها فلا يصلّي فيها»([577]). وهي أيضاً ـ مع ضعفها واختصاصها باللبس ـ يمكن التأمّل في دلالتها على الحرمة؛ لضعف دلالة «لا يصلح» عليها، لو لم نقل بإشعاره أو دلالته على الكراهة، سيّما مع قوله: «ولو لبسها»، فإنّ فرض اللبس في ما هو محرّم لا يخلو من بعد. ومنها: موثّقة سماعة، قال: سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والفراء؟ فقال: «لا بأس ما لم يعلم أنّـه ميتة»([578]). وفيه: أنّـه لا إطلاق في مفهومها، فإنّـه بصدد بيان حكم المنطوق لا المفهوم، فلا يستفاد منها إلّا ثبوت البأس مع العلم في الجملة. بل التحقيق: أنّ المفهوم قضيّـة مهملة، حتّى في مثل قوله: إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء. هذا إذا قلنا بإلغاء الخصوصيّـة عن المنطوق، وإلّا فلا يثبت الحكم في المفهوم إلّا بالنسبة إلى أكل الجبن وتقليد السيف، مع أنّ إثبات البأس أعمّ من الحرمة، مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّ الحكم في الجبن محمول على التقيّـة، لو كان الجواب عن السؤالين. ومنها: ما عن عوالي اللئالي: قد صحّ عنه(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّـه قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»، وقال في شاة ميمونة: «ألّا انتفعوا بجلدها؟»([579]). وعن ابن أبي ليلى، عن عبدالله بن حكيم، قال: قرأ علينا كتاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في أرض جهينة وأنا غلام شابّ: «أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولاعصب»([580]). وعن دعائم الإسلام، عن عليّ(علیه السلام) أنّـه قال: «سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: لا ينتفع من الميتة بإهاب ولاعظم ولاعصب»([581])، إلى غير ذلك. ثمّ إنّ هذه الروايات على طوائف: منها: ما دلّت على عدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقاً، ولو بإلغاء الخصوصيّـة عرفاً، كموثّقة سماعة ورواية الجرجاني وعليّ بن أبي المغيرة. ومنها: ما دلّت على عدم جواز اللبس، كروايتي عليّ بن جعفر، ورواية تحف العقول ـ على إشكال مرّ الكلام فيها ـ . ومنها: ما دلّت على عدم جواز الانتفاع بإهاب ولاعصب. ويمكن جعلها من الطائفة الاُولى، بدعوى إلغاء الخصوصيّـة. ومنها: ما دلّت على عدم جواز تقليد السيف إذا كان جلده من الميتة، وهي موثّقة سماعة ([582]).([583]) فتحصّل ممّا ذكر: أنّ الروايات المستدلّ بها على عدم جواز الانتفاع من الميتة مخدوشة؛ إمّا سنداً، وإمّا دلالة، وإمّا سنداً ودلالة، إلّا رواية عليّ بن أبي المغيرة، وقد سبق([584]) ذكرها. ويمكن أن يقال: إنّ هذه الروايات بأجمعها ناظرة سؤالاً وجواباً إلى المنع عن الانتفاعات المقصودة من الحيوان بما هو حيوان، كأكل لحمه، ولبس جلده والافتراش به، لا لانصراف المنفعة إلى المنافع المقصودة، بل، لأنّ السؤال كان من الميتة، فإنّ السائل سأل عن الانتفاع بالحيوان الميتة فيما ينتفع به لو كان حيّاً، فلا دلالة فيها على حرمة الانتفاع من الميتة في المنافع الغير المقصودة من الحيوان بما هو حيوان، حيّاً كان أم ميتةً، كإطعام الطيور والسماك والتسميد به، فإنّـه لا فرق في هذه المنافع بين الحيوان وغيره ممّا ينتفع به في الإطعام والتسميد. وبعبارة اُخرى: أنّ مثل هذه الانتفاعات ليس من منافع الحيوان بما هو حيوان. ---------------
|