|
منع صغرويّـة ما نحن فيه للقاعدة الكلّيّـة المذكورة
أقول: إنّ هذه القاعدة والكبرى الكلّيّ تامّ، ولا إشكال ولا كلام فيه، إلّا أنّ الشأن في صغرويّـة ما نحن فيه لهذه القاعدة الكلّيّـة. ويمكن منع صغرويّـة ما نحن فيه للقاعدة الكلّيّـة المذكورة من طرق أربعة: الأوّل: أنّ الشهرة والإجماع الجابر لضعف سند الرواية، والإعراض الموهن للحديث، هو الشهرة والإجماع والإعراض من الفقهاء، وبطنة الحديث في عصر الأئمّة المعصومين(علیهم السلام)، وأمّا الشهرة والإجماع من الفقهاء في عصر الغيبة الصغرى وبعدها، ليس لها هذه الخاصيّـة، وكذا إعراضهم؛ لعدم كشفها عن الخلل في الرواية، لأنّ فتاوى الفقهاء في عصر الغيبة الصغرى وبعدها فقد نشأ عن اجتهاداتهم وآرائهم. وما قيل من أنّ الاُصول المتلقّاة حجّة، تامّ إذا كانت من الاُصول المتلقّاة في عصر الأئمّة(علیهم السلام)، دون ما تحقّقت بعد عصر الأئمّة(علیهم السلام)، وإثبات الشهرة والإجماع من أصحاب الأئمّة(علیهم السلام) في الموارد التي وردت فيها الروايات المتخالفة الكثيرة في الطرفين، مشكلٌ؛ لعدم طريق لنا إلى إثبات فتوى الأصحاب، إلّا متون رواياتهم، والروايات فيما نحن فيه من الجانبين ـ حسب الفرض ـ كثيرة ومشهورة نقلها، فلا سبيل لنا إلى إثبات الشهرة أو الإجماع من أصحاب الأئمّة(علیهم السلام). ويؤيّد ما ذكرناه ما في كشف القناع عن وجوه حجّيّـة الإجماع قال المحقّق التستري: فما قد يقال: من أنّ فتاوى القديمين والشيخين والسيّدين وأضرابهم تكشف عن فتاوى خواصّ الأئمّة وأصحابهم؛ لكونه حملة علومهم وعياب أخبارهم، ولم يكونوا ليذهبوا عن مذاهبهم، ويخرجوا من متابعة آثارهم، ويخفى عليهم المهمّ من فتاويهم وأقوالهم، مع أنّ اُصولهم نصب أعينهم، وعليها مبنى أحكامهم وأعمالهم، فهو مجرّد وهم وخيال، وأشبه شيء بالأمانيّ والآمال، ولو كان الأمر كذلك، فما هذا الاختلاف العظيم بينهم، والاضطراب الجسيم في فتاوى واحد منهم، فكلّما زاد أحدهم في التحرير كتاباً، وفي التقرير جواباً، زاد في الاجتهاد اضطراباً، وفي الحكم ارتياباً. فهذا شيخ الطائفة وقدوة الإماميّـة تنبئك كتب فتاويه بما قلنا، وتنادي كتب أخباره الحاوية لما بلغه عن السلف بما بيّنّا. وهذا ثقة الإسلام الكليني، مع ما عرفت من أحواله، يصـرّح في أوّل الكافي بأنّـه لم يتيسّر له تميز المجمع عليه من غيره، إلّا فيما قلّ، وأنّـه لم يجد طريقاً أحوط وأوسع من البناء في الأخبار المختلفة على التخيير والتسليم دائماً، كما هو الظاهر من كلامه، أو في الأغلب، وإذا رأيت أحداً منهم قلّ اضطرابه في الفتوى، وكان له رأي واحد فيما ذكره من المسائل، فكثيراً مّا يكون منشاؤه الاقتصار على اُصول الأحكام، أو قلّه التصنيف والمراجعة، أو قصور الفهم عن إدراك دقائق المطالب والأدلّة، أو نقص في الورع والديانة، فلو كان كغيره لظهر منه من الاضطراب والاختلاف ما ظهر من غيره، وهذا كلّه يشهد بما قلنا وسيأتيك مزيد تكميل وتشييد لذلك في المطالب الآتية ([601]). الثاني: عدم حصول الإجماع في كلمات المتقدّمين. الثالث: أنّ الإجماع من المتأخّرين، وإن تحقّق في المسألة، إلّا أنّ الإجماع منهم ليس بحجّة؛ وذلك لأنّـه ليس عند المتأخّرين ما خفي ولم يصل إلينا. الرابعة: أنّ الإجماع من المتأخّرين (قدّس الله أسرارهم) إجماع حدسيّ لا حسّيّ، فلا يكون حجّة. ثمّ إنّ هذه الطرق الثلاثة الأخيرة مستـفاد من مـضامين كلمات سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه)، وإليك نصّها، قال (سلام الله علیه): والشهرة في المسألة، أهمّها ما حكي عن الحلّي أنّـه قال ـ بعد نقل صحيحة البزنطي المتقدّمة ([602]) الدالّة على جواز الانتفاع بأليات الغنم ـ بهذه العبارة: «لا يلتفت إلى هذا الحديث، فإنّـه من نوادر الأخبار، والإجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرّف فيها بكلّ حال، إلّا أكلها للمضطرّ»([603]).([604]) أقول: إنّ ما ذكره محمّد بن إدريس من أنّـه لا يلتفت إلى الصحيحة؛ لانعقاد الإجماع على تحريم الميتة والتصرّف فيها بكلّ حال، لا يلتفت إليه؛ لأنّ الإجماع منعقد على تحريم الميتة، والصحيحة مربوط بالقطعة المبانة من الحيّ، وهي لا تكون ميتة حقيقة ووجداناً، ولاحكماً؛ لعدم الدليل عليه، فلا يكون الإجماع المذكور دليلاً على خلافها. فكان المناسب لسيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) الإشكال عليه بما قلناه. ثمّ قال (سلام الله علیه): ويظهر من المسالك([605]) أيضاً أنّ عدم جواز الانتفاع بأليات الميتة، والمبانة من الحيّ، موضع وفـاقٍ. وفي مفتـاح الكرامـة ـ بعد حكايـة عـدم جـواز الانتفـاع عن المحقّـق([606])، والعـلّامة ([607])، والشهيدين([608])، والفاضل الهندي([609]) ـ قال: «وهو قضيّـة كلام الباقين قطعاً؛ لوجهين: أحدهما: أنّ مفهوم اللقب معتبر إجماعاً في عبارات الفقهاء، وبه يثبت الوفاق والخلاف. الثاني: ملاحظة السوق والقرائن»([610]). انتهى. لكن يظهر منه عدم تحصيل الإجماع أو الشهرة من كلمات الفقهاء، وإنّما الاستفادة من اجتهاده، ولا يخفى ما فيه، كما أنّ صريح المحقّق الأردبيلي([611])، والمحدّث المجلسـي([612]) منع الإجماع. ويظهر من السيّد الرياض عدم عثوره على اتّفاق الأصحاب، حيث قال: «مع أنّ ظاهرهم الاتّفاق عليه، كما قيل»([613]) والمحكيّ عن الروضة: جواز الاستصباح به([614])، وتبعه جملة من متأخّري المتأخّرين([615]). وعن الشيخ في ذيل حديث زرارة، المتقـدّم في الاستقاء بجلد الخنزير، أنّـه قال: «الوجـه أنّـه لا بأس أن يستقي به، لكن يستعمل ذلك في سقي الدوابّ والأشجار ونحو ذلك»([616]). وهذا منه، وإن يحتمل أن يكون في مقام جمع الروايات ودفع التناقض عنها، لكن لو لم يجز ذلك لسقي الدوابّ والأشجار أيضاً، يكون من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب. وعنـه في النهايـة ([617])، وعـن ابـن البرّاج([618])، والمحقّـق في الشـرائع والنافع،([619]) وتلميذه كاشف الرموز([620])، والعـلّامة في الإرشاد([621]): جواز الاستقاء بجلودها لغير الصلاة والشرب. وعن صاحب التنقيح ميله إليه([622]). وعن السرائر أنّـه مرويّ([623])، ولعلّه يشعر بميله إليه. تأمّل. وصرّح في القواعـد بجواز الوضوء بحوض اتّخذ من جلد الميتـة إذا كان كرّاً ([624]). وعن ابن الجنيد وفقه الرضا أنّ جلد الميتة يطهر بالدباغ([625])، فلا محالة يجوز الانتفاع به حينئذٍ عندهما، بل هو محتمل الصدوق، بل الصدوقين؛ لموافقة فتواهما له نوعاً ([626])، ولِنقل الأوّل رواية عن الصادق(علیه السلام)، تدلّ على جواز جعل اللبن والماء ونحوهما في جلد الميتة ([627])، مع قوله قبيل ذلك في حقّ كتابه: «لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتى به، وأحكم بصحّته، واعتقد فيه أنّـه حجّة بيني وبين ربّي»([628]). انتهى. وهو وإن لم يف بهذا العهد في كتابه، كما يظهر للمراجع به، لكن رجوعه عنه في أوّل الكتاب في غاية البعد. وقال في المقنع: «لا بأس أن تتوضّأ من الماء إذا كان في زقّ من جلدة ميتة، ولا بأس بأن تشربه»([629]). وتجويز ابن الجنيد ومن بعده، وإن كان مبنيّاً على طهارة جلدها بالدباغ، أو عدم تنجّس المائع به ـ على احتمال في كلام الصدوق ـ لكن مع ذلك تكون استفادة الإجماع من كلام القوم مشكلاً، فإنّ الإجماع التقديري ليس بشيء، هذا مع عدم وضوح مسلك ابن إدريس في باب الإجماع([630]). فالأشبه الجواز، والأحوط الترك، هذا حال جواز الانتفاع([631]). ----------------------- [601]. كشف القناع: 59 ـ 60. [602]. تقدّمت الرواية وتخريجها في الصفحة: 247. [603]. السرائر 3: 574، نقله (سلام الله علیه) ملخّصاً عنه. [604]. المكاسب المحرّمة 1: 80 ـ 81. [605]. مسالك الأفهام 12: 84. [606]. شرائع الإسلام 3: 175. [607]. تذكرة الفقهاء 10: 32. [608]. الدروس الشرعيّـة 3: 12؛ مسالك الأفهام 12: 60؛ الروضة البهيّـة في شرح اللمعة الدمشقيّـة 7: 309. [609]. كشف اللثام 9: 276. [610]. مفتاح الكرامة 12: 90. [611]. مجمع الفائدة والبرهان 8: 35، و 11: 220. [612]. بحار الأنوار 77: 77، ذيل الحديث 5. [613]. راجع: رياض المسائل 8: 139 ـ 140. [614]. حكاه الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 8: 35؛ وراجع أيضاً: الروضة البهيّـة في شرح اللمعة الدمشقيّـة 3: 207. [615]. راجع: كفاية الأحكام 2: 916. [616]. التهذيب 1: 413/1301، باب المياه وأحكامها، ذيل الحديث 20، وفي التهذيب هكذا: «الوجه في هذا الخبر أنّه لا بأس بأن يستقى به غير أنّه لا يجوز استعمال ذلك الماء في الوضوء ولا الشرب، بل يستعمل فى غير ذلك من سقى الدوابّ والبهائم وما أشبه ذلك»؛ وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، ذيل الحديث 16. [617]. النهاية: 587. [618]. المهذّب 2: 443، لم نجد منه عبارة صريحة يتعرّض للمسألة، إلّا أنّه قال: «ولا يجوز عمل دلو من جلود الميتة، ولا استعماله في الماء، وقد ذكر جواز ذلك فيما عدا الشرب والطهارة، والأحوط ترك استعماله في ذلك وفي غيره». وفي الجواهر 36: 401: «ويجوز الاستقاء بجلود الميتة لما لا يشترط فيه الطهارة وإن كان نجساً، كما في النافع والإرشاد ومحكيّ النهاية، بل وابن البرّاج؛ لأنّه قال: الأحوط تركه». [619]. شرائع الإسلام 3: 179؛ المختصر النافع: 254. [620]. كشف الرموز 2: 374. [621]. إرشاد الأذهان 2: 113. [622]. التنقيح الرائع 4: 56. [623]. السرائر 3: 115. [624]. قواعد الأحكام 1: 192. [625]. نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة 1: 342، المسألة 262؛ وفقه الرضا: 303. [626]. راجع: المقنع: 18، والفقيه 1: 11. ونقل عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة 2: 93. [627]. الفقيه 1: 9، باب المياه...، الحديث 15. [628]. الفقيه 1: 3، مقدّمة الكتاب. [629]. المقنع: 18. [630]. راجع: السرائر 1: 51، مقدّمة السرائر، ذيل كلام السيّد المرتضى. [631]. المكاسب المحرّمة 1: 81 ـ 83.
|