|
جواز بيع الميتة للمنفعة المحلّلة
الجهة الثانيه: هل يجوز بيعها وسائر الانتقالات فيما جاز الانتفاع به وكانت المنفعة المقصودة محلّلة موجبة للماليّـة، كالاستقاء بجلدها لزرع البساتين مثلاً، أم لا يجوز، كبيعها للمنافع المحرّمة؟ وجهان: أحدهما: الجواز، وهو الأقوى لوجوه؛ من عمومات العقود والشروط والتجارة، ومن إطلاق خصوص عناوين المعاملات، ومن بناء العقلاء على صحّته وجوازه، مع عدم دليل على المنع، سوى ما استدلّ به من الأخبار الخاصّة على المنع، ممّا يكون ـ على التماميّـة ـ مقدّماً على تلك الوجوه، لكن سيأتي([632]) عدم التماميّـة. ومن صحيحة محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، عن أبي القاسم الصيقل وولده، قال: كتبوا إلى الرجل(علیه السلام): جعلنا الله فداك" إنّا قوم نعمل السيوف وليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرّون إليها، وإنّما علاجنا من جلود الميتة، من البغال والحمير الأهليّـة، لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسّها بأيدينا وثيابنا، ونحن نصلّي في ثيابنا، ونحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا، لضرورتنا إليها؟ فكتب(علیه السلام): «اجعل ثوباً للصلاة»([633]). كيفيّـة الاستدلال بالرواية: أنّها تدلّ على جواز الانتفاع من الميتة في المنافع المسئول عنها، ومنها: شرائها وبيعها؛ وذلك لأنّ الإمام(علیه السلام) أجاب في الأسئلة بقوله(علیه السلام): «اجعل ثوباً للصلاة»، من دون تعرّض للجواب عن بقيّـة ما سئل عنه، بل سكت عنه، وسكوت الإمام(علیه السلام) في مثل المقام يدلّ على الجواز؛ لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. إن قلت: إنّ السؤال في الرواية عن البيع والشراء حال الاضطرار والضرورة، والجواب من الإمام(علیه السلام) أيضاً وارد على مورد السؤال، وهو مقام الضرورة والاضطرار. قلت: إنّ المراد من الاضطرار الموجود في جملة «إنّا قوم نعمل السيوف، ليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرّون إليها» هو الاضطرار والاحتياج في التجارة والتكسّب بعمل السيوف على نحو المتعارف، لا الاضطرار الرافع لحرمة المحظورات، ولا الاضطرار في العلاج بالميتة، فإنّ السؤال عن العلاج بجلود الميتة وقع بعده. وكذا الاضطرار المستفاد من جملة: «وإنّما علاجنا من جلود الميتة، من البغال والحمير الأهليّـة، لا يجوز في أعمالنا غيرها» اضطرار إلى هذا النوع من الكسب والحرفة والتجارة على نحو المتعارف، وليس المراد منها الاضطرار المجوّز لارتكارب الحرام. والشاهد عليه: أنّ الإمام(علیه السلام) لم يقتصر في الجواز بالاكتفاء بقدر رفع الاضطرار، والضرورات تتقدّر بقدرها. وأمّا الضرورة في جملة: «نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا، لضرورتنا إليها» هي الضرورة إلى الجواب عن الإمام(علیه السلام). وأمّا حمل الرواية على بيع السيوف، لا بيع الجلود، كما يظهر من الشيخ الأعظم(قدس سرّه) ([634])، فهو كما ترى. وتؤيّدها رواية أبي مخلّد السرّاج، قال: كنت عند أبي عبدالله(علیه السلام) إذ دخل عليه معتّب، فقال: رجلان بالباب، فقال: «أدخلهما»، فدخلا، فقال أحدهما: إنّي رجل سرّاج، أبيع جلود النمر، فقال: «مدبوغة هي؟» قال: نعم، قال: «ليس به بأس»([635]). فإنّ حكمه(علیه السلام) بعدم البأس ببيع جلود النمر، مع ترك الاستفصال من أنّ جلود النمر ذكيّـة أم ميتة، مفيد للعموم. لايقـال: إنّها صدرت تقيّـة؛ وذلك لمكان جواب السائل عن سؤال الإمام(علیه السلام) من كونها مدبوغة بقوله: نعم، والعامّة هم القائلون بأنّ جلود الميتة تطهر بالدباغة، فالرواية موافقة لهم. لأنّـه يقال: حمل الرواية الموافقة للعامّة على التقيّـة، مختصّ بالخبرين المتعارضين، حيث إنّ الأحكام المشتركة بيننا وبين العامّة كثيرة. هذا مضافاً إلى أنّـه ـ كما ذكره سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) ـ يحتمل كون الدباغة شرطاً في الجواز بما هي هي، لا بما أنّها توجب التطهير. قال سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه): وتؤيّده صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج، قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الفراء أشتريه من الرجل الذي لعلّي لا أثق به، فيبيعني على أنّها ذكيّـة، أبيعها على ذلك؟ فقال: «إن كنت لا تثق به فلا تبعها على أنّها ذكيّـة، إلّا أن تقول: قد قيل لي: إنّها ذكيّـة»([636]). فإنّ مقتضى إطلاقها جواز الاشتراء والبيع، وإن كان الرجل مجهول الحال، ولم يكن في سوق المسلمين، إلّا أن يقال بكونها بصدد بيان حكم آخر، وهو جواز الشهادة بمجرّد قول البائع، مع عدم وثاقته، فإطلاقها مشكلٌ، بل ممنوعٌ ([637]). ولكن يمكن أن يناقش في جعلها مؤيّداً؛ وذلك لأنّ عبدالرحمن بن الحجّاج من مشايخ الثقات وعظماء الشيعة وأكابر المحدّثين، وقد أدرك أبا عبدالله وأبا الحسن موسى بن جعفر وعليّ بن موسى الرضا(علیهم السلام)، ووثّقه النجاشي مكرّراً، وقال في حقّه: «ثقة ثقة»([638]). ومثله يعلم أنّ الجلود المشتراة من غير المسلم ومن غير سوق المسلمين محكومة بكونها ميتة، فلا مجال للتمسّك بالإطلاق وترك الاستفصال من الإمام(علیه السلام). مع أنّها ظاهرة في أنّ الرجل غير موثّق به، بعد الفراغ عن كونه مسلماً وعن كون الشراء في سوق المسلمين؛ لأنّ الظاهر من جملة: «أشتريه من الرجل الذي لعلّي لا أثق به» أنّ المشكلة إنّما هي في عدم كون الرجل موثوقاً به، وإلّا فعليه أن يسئل عن عدم وثوقه بكونه مسلماً. هذا، مضافاً إلى أنّ الرواية ليست في مقام بيان جواز بيع الجلود، حتّى يؤخذ بإطلاقها، بل هي في مقام بيان أنّها لاتباع على أنّها ذكيّـة إلّا مع الوثوق بالتذكية، فالرواية في مقام بيان حكم آخر، فلا يؤخذ بإطلاقها. لايقـال: إنّ الروايات الثلاث مربوطة بجلد الميتة، والبحث هنا في جواز بيع الميتة، والميتة شيء وجلدها شيء آخر؛ لأنّ الميتة لا يصدق على أجزائه، كصدق لفظ الماء على أفراده، وصدق لفظ القرآن على أبعاضه. لأنّـه يقال: إنّ الميتة، وإن لا يصدق على جلدها، إلّا أنّ حكم جلد الميتة يسري إلى نفس الميتة وأجزائها الأخر؛ لإلغاء الخصوصيّـة العرفيّـة منه إليها وإلى سائر أجزائها، حيث إنّ العرف يرى كون ذكره بالخصوص في مثل المقام من جهة الابتلاء، لا لخصوصيّـة فيه، وبها يتمّ المطلوب. -----------------
|