|
بيع الدهن المتنجّس
لا إشكال ولا كلام في جواز بيع الدهن المتنجّس، والمعاوضة عليه في الجملة، وكذا في جواز الانتفاع به في الجملة، وهذا يكون من المستثنى عن حرمة بيع المتنجّس، بناءً على كون الأصل في النجس المنع منه؛ لحرمة الانتفاع به إلّا ما خرج بالدليل، أو لحرمة بيعه، وإن جاز الانتفاع به نفعاً مقصوداً محلّلاً. وأمّا بناءً على ما عرفت من كون الأصل فيه جواز البيع وجواز الانتفاع به فيما لا يشترط فيه الطهارة، فجوازهما فيه على القاعدة. وكيف كان، فلا إشكال في جواز بيع الدهن المذكور، وعن جماعة ([767]) الإجماع عليه في الجملة، ورواياته مستفيضة: منها: صحيحة معاوية بن وهب، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: قلت له: جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل، فقال(علیه السلام): «أمّا السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله، والزيت يستصبح به»([768]). ومنها: صحيحة الحلبي، قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الفأرة والدابّـة تقع في الطعام والشراب، فتموت فيه؟ فقال: «إن كان سمناً أو عسلاً أو زيتاً فإنّـه ربما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله وكُله، وإن كان الصيف فارفعه حتّى تسرّج به...»،([769]) الحديث. ومنها: موثّقة أبي بصير، قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت، فتموت فيه، قال: «إن كان جامداً فيطرحها وما حولها، ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائباً فأسرج به، وأعلمهم إذا بعته»([770]). ومنها: رواية إسماعيل بن عبدالخالق، عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: سأله سعيد الأعرج السمان، وأنا حاضر، عن الزيت والسمن والعسل تقع فيه الفأرة، فتموت، كيف يصنع به؟ قال: «أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج، فأمّا الأكل فلا، وأمّا السمن فإن كان ذائباً فهو كذلك، وإن كان جامداً والفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها وما حولها، ثمّ لا بأس به، والعسل كذلك إن كان جامداً»([771]). ومنها: موثّقة معاوية بن وهب وغيره، عن أبي عبدالله(علیه السلام) في جرذ مات في زيت، ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه وبيّنه لمن اشتراه، ليستصبح به»([772]). وتوهّم معارضة هذه الأخبار مع رواية عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)، قال: سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة؟ قال: «لا تدهن به، ولا تبعه من مسلم»([773])، مدفوعٌ بعدم كونها معارضة لتلك الأخبار. وذلك ـ مضافاً إلى ما فيها من المخالفة للقواعد، حيث تدلّ على حرمة الإدهان بالدهن المتنجّس، وما فيها من عدم التفصيل بين الدهن الجامد والمائع ـ أنّ من المحتمل عدم كون الحكم فيها كلّيّاً متوجّهاً إلى عامّة المكلّفين، بل كان حكماً شخصيّاً ناظراً إلى عليّ بن جعفر بالخصوص؛ لأنّ عليّ بن جعفر سأل عن حكم قضيّـة كلّيّـة، والإمام(علیه السلام) لم يجب كلّيّاً بأن يقول: لا تدهن به، ولا تباع به، بل جعل الخطاب متوجّهاً إلى شخص عليّ بن جعفر، وقال: «لا تدهن به، ولا تبعه من مسلم»، وكلّما كان السؤال عامّاً والجواب خاصّاً، كان في إعراض الإمام(علیه السلام) عن الجواب العامّ إلى بيان وظيفة شخص السائل إشعار، بل شهادة في أنّ الحكم يختصّ بشخص السائل؛ لخصوصيّـة فيه، ولا يعمّ غيره. وفي المقام أنّ لعليّ بن جعفر شخصيّـة اجتماعيّـة خاصّة تمتاز بها عن سائر الأفراد، فإنّـه ابن الإمام، وأخ الإمام، وعمّ الإمام، وكأنّ الإمام(علیه السلام) قال: أنت مع هذه الموقعيّـة والمكانة الاجتماعيّـة: «لا تدهن به، ولا تبعه من مسلم». وهذا نظير ما ورد عن زرارة، قال: قلت له: في مسح الخفّين تقيّـة، فقال: «ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحداً: شرب المسكر، ومسح الخفّين، ومتعة الحجّ». قال زرارة: ولم يقل: الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحداً ([774]). إذا عرفت هذا، فالكلام والإشكال يقع في مواضع: الموضع الأوّل: أنّ صحّة بيع هذا الدهن هل هي مشروطة باشتراط الاستصباح به صريحاً، أو يكفي قصدهما لذلك، أو لا يشترط شيء منهما، أو التفصيل بلزوم قصد المنفعة المحلّلة إذا كانت المنفعة الغالبة فيه المحرّمة، وعدم لزوم القصد إذا كانت الغالبة منه، المحلّلة؟ فيه وجوهٌ. والأقوال في المسألة ثلاثة: أحدها: جواز بيعه على أن يشترط على المشتري الاستصباح به صريحاً، وهو ظاهر الحلّي في السرائر على ما استظهره الشيخ الأعظم، حيث قال: ظاهر الحلّي في السرائر الأوّل، فإنّـه بعد ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجّسة جُمَع، قال: ويجوز بيعه بهذا الشرط عندنا ([775]).([776]) وفي الاستظهار كلام؛ لاحتمال أن يكون نظره إلى أنّ الجواز مع الاشتراط إجماعيّ، كما يظهر من قوله: عندنا، ولم يحرز الإجماع على الصحّة في غير الصورة، ولم يدلّ ذلك على أنّ مختاره لزوم الاشتراط، بل لا يدلّ على وجود القائل بالاشتراط؛ لأنّ دعوى الإجماع على جوازه مع الاشتراط لا تدلّ على وجود الخلاف في غيره، ولعلّ الأصحاب لم يتعرّضوا له، فلم يحرز الإجماع ولا الخلاف، تدبّر. ثانيها: جواز بيعه مع قصد المتبايعين الاستصباح، من دون لزوم الاشتراط، وهو الظاهر من محكيّ الخلاف، حيث قال: جاز بيعه لمن يستصبح به تحت السماء([777]). بل الظاهر من استدلاله على ذلك بإجماع الفرقة وأخبارهم كونه إجماعيّاً، ونحوه مجرّداً عن دعوى الإجماع عبارة المبسوط، وزاد: أنّـه لا يجوز إلّا لذلك([778]). وظاهره كفاية القصد. وفي مكاسب الشيخ الأعظم(قدس سرّه) بعد ذلك: وهوظاهر غيره ممّن عبّر بقوله: جاز بيعه للاستصباح، كما في الشرائع([779]) والقواعد([780])، وغيرهما([781]).([782]) ثالثها: جواز بيعه مطلقاً من غير اعتبار الاشتراط والقصد، وهو الظاهر من تصريح جماعة ([783]) بعدم اعتبار قصد الاستصباح، على ما نقله الشيخ الأعظم(قدس سرّه) في مكاسبه، فإنّ القصد إذا لم يكن معتبراً، فالشرط غير معتبر بطريق أولى. والبحث في هذا الموضع وتحقيق الحقّ فيه يتمّ في أمرين: أحدهما: في مقتضى القواعد. ثانيهما: في مدلول أخبار الباب. ---------------- [767]. منهم: ابن زهرة في غنية النزوع 1: 213؛ والشيخ الطوسي في الخلاف 3: 187، المسألة 312؛ وابن إدريس في السرائر 2: 222. [768]. الكافي 6: 261، باب الفأرة تموت في الطعام والشراب، الحديث 2؛ وسائل الشيعة 17: 97، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6، الحديث 1. [769]. التهذيب 9: 86/361، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك وما يحرم منه، الحديث 96؛ وسائل الشيعة 24: 195، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 43، الحديث 3. [770]. التهذيب 7: 129/562، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة...، الحديث 33؛ وسائل الشيعة 17: 98، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6، الحديث 3. [771]. قرب الإسناد: 117، الحديث 435؛ وسائل الشيعة 17: 98، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6، الحديث 5. [772]. التهذيب 7: 129/563، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة...، الحديث 34؛ وسائل الشيعة 17: 98، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6، الحديث 4. [773]. قرب الإسناد: 208، الحديث 1019؛ وسائل الشيعة 17: 100، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 7، الحديث 5. [774]. الكافي 3:32، باب مسح الخفّ، الحديث 2؛ من لايحضره الفقيه 1: 30/95، باب حدّ الوضوء وترتيبه وثوابه، الحديث 8؛ التهذيب 1: 362/1093، باب صفة الوضوء والغرض منه، الحديث 23؛ الاستبصار 1: 76/237، باب جواز التقيّـة في المسح على الخفّين، الحديث 2؛ وسائل الشيعة 1: 457، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 38، الحديث 1. [775]. السرائر 2: 222؛ و 3: 122. [776]. المكاسب 1: 68. [777]. حكی عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة 12: 79؛ الخلاف 3: 187، المسألة 312. [778]. المبسوط 2: 167. [779]. شرائع الإسلام 2: 3. [780]. قواعد الأحكام 2: 6. [781]. كعبارة التنقيح الرائع 2: 7؛ ومجمع الفائدة والبرهان 8: 31؛ وبمعناهما عبارة الشهيد في اللمعة الدمشقيّـة: 108. [782]. المكاسب 1: 68. [783]. حكاه السيّد العاملي عن اُستاذه العلّامة السيّد بحر العلوم في مفتاح الكرامة 12: 80؛ وراجع أيضاً: كفاية الأحكام 1: 423؛ والحدائق الناضرة 18: 90.
|