|
ثانيهما: مدلول أخبار الباب
وأمّا بحسب الروايات الخاصّة الواردة في الباب، فالتحقيق أنّها أيضاً لا دلالة فيها على اعتبار اشتراط المنفعة المحلّلة، ولا اعتبار قصدها، ولا مانعيّـة قصد المنافع المحرّمة، فلا مخالفة لها مع القواعد. فمنها: موثّقة أبي بصير، قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت، فتموت فيه، قال: «إن كان جامداً فيطرحها وما حولها، ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائباً فأسرج به، وأعلمهم إذا بعته»([797]). وهي إنّما تدلّ على وجوب إعلام المشتري بعد وقوع البيع، ولا دلالة فيها على الاشتراط، ولا على قصد المنفعة المحلّلة، ولا على وجوب الإعلام قبل البيع، بل ظاهر قوله(علیه السلام) قال: «وأعلمهم إذا بعته» هو الإعلام بعد البيع. ولو كان مراده الإعلام حين البيع أو حين إرادته، لكان عليه أن يشترط كذلك، ويجعل أحدهما شرطاً للأمر بالإعلام، بأن يقول: وأعلمهم حين البيع أو حين إرادته، وحمل «إذا بعته» على إذا أراد البيع خلاف الظاهر. ومنها: موثّقة معاوية بن وهب وغيره، عن أبي عبدالله (علیه السلام) في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ قال: «بعه وبيّنه لمن اشتراه، ليستصبح به»([798]). وهذه الرواية أيضاً كسابقتها، لا دلالة فيها على أزيد من وجوب الإعلام بعد البيع، من دون الدلالة على وجوبه قبله، بل هي أظهر من سابقتها في ذلك، كما لا يخفى، حيث جعل التبيين بعد البيع، من دون اشتراطه به بأن يقول: وبيّنه إذا بعته، نحو ما في الموثّقة. لكن خصوصيّـة كون الإعلام بعد البيع ـ الظاهر من الخبرين ـ ملغاة بمناسبة الحكم والموضوع والتفاهم العرفيّ؛ حيث إنّ المتفاهم العرفيّ من وجوب إعلام المشتري كونه مجعولاً تحفّظاً واحتياطاً على عدم انتفاع المشتري منه في المنافع المحرّمة، من دون ارتباطه بالبيع، ولذلك يجب الإعلام؛ قضاءً لإطلاق الخبرين ولو مع عدم قصد البايع إسراج المشتري. ومنها: رواية إسماعيل بن عبد الخالق، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: سأله سعيد الأعرج السمان، وأنا حاضر، عن الزيت والسمن والعسل تقع فيه الفأرة، فتموت، كيف يصنع به؟ قال: «أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له، فيبتاع للسراج...»([799]). وهذه الرواية أيضاً لا دلالة فيها على شرطيّـة الإعلام وإسراج المشتري. وقد يتوهّم أنّ هذه الرواية تدلّ على اشتراط قصد الإسراج، بل اشتراط شرطه؛ لأنّ البيع قد تعلّق به النهي إلّا إذا ابتاع المشتري للإسراج، فما كان المشتري لم يقصد الإسراج كان بيعه منه منهيّاً عنه، والنهي عن شيء في شيء يدلّ على مانعيّـة ذلك الشيء، كما أنّ الأمر بشيء في شيء تدلّ على الشرطيّـة، فقصد الإسراج أو شرطه معتبر في البيع. لكن إلغاء الخصوصيّـة بفهم العرف لمناسبة الحكم والموضوع مقتضية لكون وجوب التبيّن في هذه الرواية ـ كالروايتين السابقتين ـ وجوباً احتياطيّاً تحفّظيّاً في البيع، تحفّظاً واحتياطاً لعدم انتفاع المشتري به في المنافع المحرّمة، فهي لا تدلّ على أزيد ممّا تدلّ عليه الروايتين السابقتين. ولمزيد التوضيح في هذا الحديث وما مرّ في السابقين عليه، نقول: في الحديث احتمالات: أحدها: ما قيل بأنّ المستفاد منها اعتبار البيان في صحّة البيع حينه. ثانيها: أن يكون المراد وجوب الإعلام قبل البيع ليكون البيع لغاية الإسراج. ثالثها: أن لا يكون وجوب الإعلام مربوطاً بالبيع أصلاً، بل يكون واجباً لأن يتحرّز المشتري عنه في الاستعمالات المشروطة بالطهارة وعدم وقوعه في الحرام، ومقتضى الجمود على ظاهرها، وإن كان هو الأوّل ـ أي اعتبار الاشتراط والتبيين في متن العقد في الصحّة، واعتبار إسراج المشتري أيضاً، فيكون إرشاداً إلى بطلان البيع مع الإخلال بأحدهما ـ لكنّ المستفاد منها عرفاً هو خلافه، حيث إنّ المتبادر منها أيضاً هو أنّ وجوب التبيين إنّما هو لعدم وقوع المشتري في الحرام، وإن كان عن جهل، فإنّـه لو لم يبيّن ذلك ربما يقع فيه، بل ربما يوجب العسر والحرج عليه لو تبيّن بعد الاستعمالات كونه نجساً. نعم، قرّر في محلّه أنّ الأوامر والنواهي المتعلّقة بالمعاملات وأجزائها إرشاد إلى جزئيّـة المأمور به ومانعيّـة المنهيّ عنه، مثل لا تصلّ في وَبر ما لا يؤكل لحمه، لكنّـه إنّما يتمّ إذا لم يكن هناك قرينة توجب صرف ظهورها عن ذلك، كما في ما نحن فيه. إذا عرفت هذا، عرفت أنّـه لا تعارض بين هذه الروايات باعتبار أنّ الأوّلتين تدلاّن على وجوب الإعلام بعد البيع، أمّا الاُولى فواضح، وأمّا الثانية، فلأنّها تدلّ على وجوب إعلام المشتري، فلابدّ أن يكون بعد تحقّق البيع والشراء، والأخيرة دالّة على اعتباره قبل البيع والنهي عن البيع، إلّا بعد البيان؛ لما عرفت أنّ ذلك إنّما هو مع الجمود على ألفاظ هذه الروايات، مع قطع النظر عن القرائن، وأمّا معها، فكلّها دالّة على أمر واحد. وعلى فرض تعارضهما، فمقتضى الجمع بينهما هو ما ذكرناه أيضاً. فتلخّص أنّ هذه الروايات لا تدلّ على شرطيّـة التبيين للبيع. ومنه يعلم: أنّـه لا خصوصيّـة للبيع، بل وجوب الإعلام يجري في سائر المعاوضات والمعاملات حتّى الهبة أيضاً؛ لوحدة المناط، وإلغاء الخصوصيّـة من البيع إلى سائر المعاوضات والمعاملات. ثمّ إنّ سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) بعد الجواب عن الروايات بما ذكرناه، قال: والإنصاف أنّ الروايات متوافقة المضمون، والظاهر من جميعها ـ بقرينة المقام ـ أنّ لزوم التبيين لمحض التحرّز، والبيع لغاية غير الأكل كالاستصباح، من غير دخالة فيه أو في قصد الاستصباح للصحّة، وهو ظاهر. ويمكن الاستشهاد لعدم جواز البيع مع قصد الانتفاع بالمحرّم برواية تحف العقول([800])، ودعائم الإسلام([801])، بل بالرضويّ([802])، والنبويّ: «إنّ الله إذا حرّم...»([803])، وقوله: «إنّ الذي حرّم شربه حرّم ثمنه»([804])، وقوله: «إنّ الله إذا حرّم أكل شيء حرّم ثمنه»([805])، المحمولة بأجمعها على التحريم مع قصد الفساد. وبالروايات الواردة في العصير([806])، الدالّة على أنّـه إذا غلى لا يجوز بيعه ممّن يجعله حراماً. وروايات حرمة بيع الخمر([807])، المحمولة على ما إذا كان البيع لأجل الفساد. وبعض الروايات الواردة في الجارية المغنّية ([808])، إلى غير ذلك([809]). وهي وإن لم تبلغ حدّ استفادة الحكم جزماً في المقام؛ لضعف ما دلّت وقصور غير الضعيف عن إثبات الحكم للمتنجّس، لكنّ الحكم بالصحّة جرأة، سيّما مع الظنّ بمخالفته لمذاق الشرع، تأمّل، فلا يترك الاحتياط فيه([810]). ولقد أجاد فيما أفاده (سلام الله علیه)، لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ غاية ما يستفاد من الروايات هو حرمة البيع بقصد المنفعة المحرّمة إذا كان المتبايعان كلاهما قصدا المنفعة المحرّمة، أو قصد خصوص المشتري ذلك، مع علم البائع به، دون ما إذا قصد البائع ذلك، دون المشتري، أو كان الانتفاع بالمنافع المحرّمة مغفولاً عنها؛ لبعد ترتّب الحرام والفساد عليه في الصورتين، فعلى هذا، كان الصور أربعة: إثنتين منها منهيّ عنها في الشريعة حسب مذاق الشرع والروايات، وإثنتين منها غير متعلّق للحرمة. الموضع الثاني([811]): في وجوب الإعلام الذي كان هو الظاهر من بعض الأخبار والبحث فيه يكون تارة في صحّة البيع وبطلانه بتركه؛ أي وجوبه الشرطي، واُخرى في التكليفيّ منه، من حيث إنّـه هل يجب مطلقاً، حتّى بالنسبة إلى العالم بنجاسة الدهن أو من لا يبالي عنها؛ لكونه نفسيّاً تعبّديّاً، أو أنّـه مختصّ بغيرهما ممّن يحتمل فيه تأثير الإعلام؛ لكونه نفسيّاً تحفّظيّاً احتياطيّاً، فالكلام في الموضع يتمّ في مبحثين: المبحث الأوّل: الظاهر عدم القول بالوجوب الشرطي، كما أنّ الظاهر أيضاً عدمه؛ للأصل، ولعدم الدليل عليه، لا من الأخبار؛ لما مرّ([812]) من عدم دلالتها على ذلك، ولا من غيرها، كما هو المعلوم الواضح، فلا يبطل البيع بتركه. وأمّا بناءً على وجوبه كذلك، فتركه موجب لبطلان البيع، وانتفاء المشروط بانتفاء شرطه. نعم، بناءً على اشتراط الاستصباح والإسراج أو قصده، لا ينبغي الإشكال في عدم وجوبه ـ أي الإعلام وعدم بطلان البيع بتركه ـ ؛ لعدم كونه شرطاً، واشتراطهما غير متوقّف على العلم بالنجاسة، لتحقّق الاشتراط، لا سيّما على النحو الأوّل، حيث إنّ كلاً من العلم بالنجاسة والاشتراط يكون مستقلاً عن الآخر والتوقّف في العمل بالشرط على ذلك العلم، حيث إنّـه من الاُمور الدخيلة فيه، مربوط بمقام التكوين والخارج، لا بالعقد والاشتراط الاعتباري، كما لا يخفى. وبذلك يظهر عدم تماميّـة ما ذكره الشيخ(قدس سرّه) من لزوم الإعلام على القول باشتراط الاستصباح؛ لتوقّف القصد على العلم بالنجاسة، لعدم التوقّف، كما عرفت. هذا مضافاً إلى ما بيّن مدّعاه ووجهه من الاختلاف، فمدّعاه وجوب الإعلام على اشتراط الاستصباح، ووجهه توقّف القصد على الإعلام، وهذا كما ترى. المبحث الثاني: قد مرّ([813]) أنّ الأخبار ظاهرة في الوجوب الشرعيّ النفسيّ التحفّظيّ الاحتياطيّ؛ أي لغاية التحفّظ عن وقوع المشتري في الحرام والابتلاء بالنجس. فعليه لا يجب ذلك إذا علم بعدم ابتلائه به بالشرب والملاقات ونحوهما، بل لا يجب مع علمه بعدم تأثير الإعلام فيه؛ لكونه ممّن لا يبالي بالدين، وليس الكلام هاهنا في جواز البيع منه أو تسليطه عليه في الفرض. ولو فرض أنّـه باعه مع الغفلة عن عدم مبالاته وأراد أن يعلمه بعد تحويل الزيت، ثمّ بعده علم بأنّـه لا يبالي بالنجس ولا تأثير لإعلامه، لم يجب عليه ذلك؛ لأنّ وجوب الإعلام نظير وجوب الاحتياط، لا نفسيّـة له؛ بمعنى أنّـه لا يكون الإعلام ذا مصلحة في نفسه، وإن كان الوجوب نفسيّاً بمعنى آخر. وبالجملة، وجوبه للتوصّل إلى أمر آخر، ومع حصوله على أيّ حال أو عدم حصوله كذلك، لا يجب، نظير وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّهما مع عدم احتمال التأثير لا يجبان، كما هو الواضح. والشيخ الأعظم(قدس سرّه) بعد استظهاره ذلك من بعض الأخبار، استظهر منه أيضاً قاعدة كلّيّـة، وهو إعلام الجاهل بما يعطى إذا كان انتفاع الغالب فيه محرّماً، قال: ففيه إشارة إلى وجوب إعلام الجاهل بما يعطى، إذا كان الانتفاع الغالب به محرّماً، بحيث يعلم عادة وقوعه في الحرام لولا الإعلام، فكأنّـه قال: أعلمه لئلّا يقع في الحرام الواقعي بتركك الإعلام([814]). وفيه: أنّ غاية ما يستفاد من روايات الباب ـ من جهة إلغاء الخصوصيّـة ـ وجوب إعلام الجاهل بما يعطى، إذا كان الانتفاع الغالب به هو الأكل المحرّم، بحيث يعلم عادة وقوعه في الأكل المحرّم لولا الإعلام؛ لعدم الخصوصيّـة للدهن عرفاً، وعدم الفرق بينه وبين غيره، حيث إنّ المناط المتفاهم عرفاً هو عدم وقوعه في الأكل المحرّم. وأمّا إلغائها من مورد الأخبار ـ وهو إعطاء الدهن المتنجّس، الغالب فيه الانتفاع بالأكل المحرّم ـ إلى مطلق إعطاء ما يكون الغالب فيه الانتفاع المحرّم، وإن لم يكن أكلاً، كاللبس النجس مثلاً، فممنوع؛ لما في الأكل من الخصوصيّـة أو احتمالها، فإنّ أكل المحرّم، وكذا شربه مؤثّر في الروح والنفس، ولهذا حرم أكل بعض المأكولات والمشروبات، فلا يمكن إلغاء الخصوصيّـة والتعدّي من الأكل المحرّم ـ الوارد في هذه الروايات ـ إلى مثل اللبس واستفادة تلك القاعدة الكلّيّـة التي ذكرها الشيخ(قدس سرّه)؛ لما عرفت من الخصوصيّـة، فإنّ الإلغاء منوطٌ بإحراز عدم الخصوصيّـة، ولا أقلّ من احتماله. نعم، إسراء الحكم من البيع إلى كلّ إعطاء، ومن الدهن إلى كلّ مأكول، بل إلى كلّ مأكول ومشروب، تامّ وفي محلّه؛ لعدم الخصوصيّـة للبيع، ولا للدهن، ولا للأكل بالنسبة إلى الشرب، فإنّ المناط في الجميع واحد، والخصوصيّـة ملغاة بنظر العرف وفهمه من الأخبار. --------------- [797]. التهذيب 7: 129/ 562، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة...، الحديث 33؛ وسائل الشيعة 17: 98، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6، الحديث 3. [798]. التهذيب 7: 129/563، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة...، الحديث 34؛ وسائل الشيعة 17: 98، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6، الحديث 4. [799]. تقدّم تخريجها في الصفحة: 310. [800]. تحف العقول: 331. [801]. دعائم الإسلام 2: 18، كتاب البيوع، الفصل 2، الحديث 23. [802]. فقه الرضا: 250، كتاب التجارة والبيوع والمكاسب. [803]. عوالي اللئالي 2: 110، الحديث 301؛ و ص 328، الحديث 33؛ و3: 472، الحديث 48. [804]. الكافي 5: 230، باب بيع العصير والخمر، الحديث 2؛ التهذيب 7: 136/601، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة...، الحديث 72؛ وسائل الشيعة 13: 223، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 1. وفي المصادر كلّها: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها»، وفي التهذيب: «قد حرم ثمنها». [805]. عوالي اللئالي 1: 181، الحديث 240؛ مستدرك الوسائل 13: 73، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6، الحديث 8. وفيهما: «إنّ الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه». [806]. وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 59. [807]. وسائل الشيعة 17: 223، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55. [808]. وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 4 ـ 7. [809]. راجع: وسائل الشيعة 17: 226، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 57. [810]. المكاسب المحرّمة 1: 136 و 137. [811]. مرّ الموضع الأوّل في الصفحة: 312. [812]. مرّ في الصفحة: 322 ـ 325. [813]. مرّ في الصفحة: 323 ـ 324. [814]. المكاسب 1: 73.
|