|
النوع الثاني/الاكتساب بما يحرم لتحريم ما يقصد به
ممّا يحرم التكسّب به ما يحرم لتحريم ما يقصد به، وهو على أقسام: القسم الأوّل: ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاصّ، إلّا الحرام. وقبل الورود فيه ينبغي من بيان اُمورٍ: الأمر الأوّل: لا إشكال ولا خلاف في حرمة التكسّب به، وعليها الإجماع، بل هي من ضروريّات فقه الشيعة الإماميّـة، لو لم نقل بأنّها من ضروريّات فقه الإسلام. ولا يخفى أنّ اللازم من حرمة المعاملة تكليفاً ـ كما سبق البحث عنه([923]) ـ بطلانها أيضاً، لكنّ الشأن هو البحث عن الأدلّة العامّة على الحرمة على سبيل القاعدة الكلّيّـة الشاملة لجميع أصناف الخمسة من هذا النوع، لتكون دليلاً على الحرمة، وإن لم يكن عليها دليل خاصّ في صنف منه، كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى حرمة التكسّب في غير هياكل العبادة من الأصناف الأربعة لهذا النوع من آلات القمار، واللهو، وأواني الذهب والفضّة، والدراهم الخارجة المعمولة لأجل غشّ الناس. وليعلم أنّ ما يمكن أن يستدلّ أو استدلّ به على ذلك وجوهٌ: أحدها: مواضع من حديث تحف العقول، مثل قوله(علیه السلام): «فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله وشربه، أو كسبه، أو نكاحه، أو ملكه، أو إمساكه، أو هبته، أو عاريته، أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، لما في ذلك من الفساد، أو البيع للميتة، أو الدم، أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش، أو الطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شيء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام ومحرّم، لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه، بوجه من الوجوه، لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام»([924]). وقوله(علیه السلام): «وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله، أو يقوي به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي، أو بابٌ من الأبواب يقوى به باب من أبواب الضلالة، أو باب منأبواب الباطل، أو باب يوهن به الحقّ، فهو حرام محرّم، حرام بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته، وجميع التقلّب فيه، إلّا في حال تدعوا الضرورة فيه إلى ذلك»([925]). وقوله(علیه السلام): «إنّما حرّم الله الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجيء منها الفساد محضاً، نظير البرابط والمزامير والشطرنج، وكلّ ملهوٍّ به، والصلبان والأصنام، وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام، وما يكون منه وفيه الفساد محضاً، ولا يكون فيه ولا منه شيء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه وتعلّمه، والعمل به، وأخذ الأجر عليه، وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها»([926]). ثانيها: قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ(([927]). فإنّ أكل المال في مقابل ما تكون منافعه المقصودة محرّمة يكون من أكل المال بالباطل الذي يكون محرّماً للآية. وكونه باطلاً ولامال إنّما هو من حيث استلزام حرمة المنافع لسقوطه عن الماليّـة شرعاً، وأكل المال في مقابل ما ليس بمال عرفاً من أكل المال بالباطل، فكذلك أكل المال في مقابل ما حرّمت منافعه شرعاً أكل للمال بالباطل، فيكون منهيّاً عنه بالآية. لايقـال: إنّ ما حرّمت منافعه شرعاً مال عرفاً؛ لما فيه من المنافع عندهم، فلا يكون أكل المال في قباله أكل مال بالباطل عرفاً. لأنّـه يقال: إنّ العرف بعد الالتفات إلى حرمة الشيء شرعاً، وكونها موجبة لسلب الماليّـة عنه شرعاً، يحكم بأنّ أكل المال في قباله من أكل المال بالباطل، تحكيماً لأدلّة الحرمة على الآية وخروج المال العرفيّ عن ماليّته بالدليل الحاكم. هذا، ولا يخفى عليك عدم دلالة الآية الشريفة ـ مع ذلك كلّه ـ على حرمة المعاملة والبيع على ذلك الباطل، فإنّ غاية مدلولها حرمة التصرّفات في الأموال المقابلة للباطل، وأين هذا من حرمة المعاملة وبيعه؟! كما أنّها لا تدلّ أيضاً على الحرمة، وإن كان حرف الباء الداخل على كلمة «الباطل» بمعنى السببيّـة أيضاً، كما هو الظاهر منه. وذلك لأنّـه ليس في الآية ـ على هذا أيضاً ـ دلالة على أزيد من حرمة التصرّفات بسبب الباطل. نعم، في الآية دلالة على بطلان المعاملة والبيع على ذلك الباطل على كلّ من الاحتمالين، كما لا يخفى؛ حيث إنّ حرمة التصرّف في المال المقابل للباطل أو الحاصل بسببه ليس إلّا من جهة بطلان المعاملة عليه عرفاً، وحمل الحرمة على التعبّد مع صحّة المعاملة بعيد ومخالف لما يرون من الملازمة بين حرمة التصرّف وبطلان المعاملة. ثالثها: النبويّ: «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»([928]). فإنّ ما حرّمت منافعه يصدق عليه أنّـه محرّم، فيحرم ثمنه. ولايخفى أنّ ما فيه من حرمة الثمن، ففيه احتمالان، بل وجهان: أحدهما: حرمة الثمن بما هو ثمن للحرام؛ قضاءً لظاهر العناوين في الموضوعيّة. ثانيهما: حرمة الثمن بما هو أكل لمال الغير، لا بما هو هو، كما استظهره الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سرّه) بقرينة عدم تعارف حرمة الثمن بما هو هو وبعده عرفاً. وليس في شيء منهما الدلالة على حرمة الاكتساب به؛ لنحو ما مرّ آنفاً في الآية، إلّا أن يقال بالملازمة العرفيّـة على حرمة الثمن والبيع. ثمّ إنّـه قد ظهر ممّا مرّ عدم صحّة الاعتماد على هذه الوجوه الثلاثة لإثبات القاعدة؛ أي حرمة التكسّب بجميع أنواع ما يقصد به الحرام؛ وذلك لما مرّ([929]) من الإشكال في حديث تحف العقول بأنّـه ضعيف سنداً، ومضطرب متناً، وفي آية النهي عن أكل المال بالباطل بعدم الدلالة على حرمة البيع تكليفاً، وفي النبويّ بذلك وبالإرسال، ففيه الضعف دلالة وسنداً. ولكن مع ذلك، كان القول بعدم الحرمة أيضاً أشكل. وذلك أوّلاً: لارتكاز المتشرّعة على حرمة بيع آلات اللهو، كالعيدان والمزامير والبرابط ونحوها، وبيع آلات القمار، كالنرد والشطرنج ونحوهما، وبيع الصنم والصليب ونحوهما. وعلى حرمة بيع الجارية المغنّية التي حرفته وعمله التغنّي. وعلى حرمة بيع الدراهم والدنانير المغشوشة المعمولة لأجل غشّ الناس، بل ارتكاز العقلاء قد قامت على منعها، خصوصاً في الدراهم والدنانير المغشوشة. ويلحق بتلك الأشياء ما يكون مثلها في أنّـه لا يقصد من وجوده الخاصّ إلّا الحرام؛ قضاءً لتنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّـة. وثانياً: أنّ مثل هذه الأشياء منشأ فساد وضلال، ودفع الفساد والضلال واجب على كلّ أحد بأيّ نحو أمكن، ومن أنحاء دفع الفساد ترك بيعه وشرائه والمعاملة عليه. لكن لا يخفى عليك أنّـه لم يكن الوجه الثاني شاملاً لأواني الذهب والفضّة ـ كما لا يخفى ـ فلم يبق إلّا الوجه الأوّل، لكن في كفايته لإثبات القاعدة تأمّل وإشكال؛ حيث إنّ الارتكاز مع وجوده في مورد الشكّ يكون الشكّ منتفياً، ومع عدمه يكون عدم الارتكاز ملازماً مع عدم الحرمة، فتدبّر جيّداً. الأمر الثاني: أنّ الشيخ(قدس سرّه) ([930]) قد ذكر لهذا القسم الأوّل خمسة أقسام: هياكل العبادة، آلات القمار، آلات اللهو، أواني الذهب والفضّة، الدراهم والدنانير المغشوشة، وقد جعل لكلّ واحد من الخمسة بحثاً مستقلاً. ولايخفى أنّ الخمسة المذكورة أصناف لنوع واحد، وهو: «ما يكون منافعه المقصودة محرّمة»، فلا ينبغي البحث عن كلّ واحدة منها مستقلاً، بل المناسب أن يبحث عن جميع هذه الأصناف في ضمن بحث جامع مشترك. فتأمّل. الأمر الثالث: أنّ بيع ما له المنافع المحرّمة يتصوّر على صور أربعة: الصورة الاُولى: أن تكون منافعه مع بقائه على هيئته محرّمة، ولا يكون له منفعة محلّلة موجبة لماليّته بمادّته وحدها أيضاً، كالصنم الصغير المتّخذ من العود، فإنّـه مع بقائه على هيئته لا ماليّـة له؛ لحرمة منافعه، كما أنّـه لا ماليّـة لمادّته بعد الكسر وصيرورتها خشباً؛ لعدم المنفعة الموجبة لماليّته، لقلّتها ووقوعها في البلاد التي لا ينتفع من العود للإحراق، كغالبها في عصرنا هذا. الصورة الثانية: ما كان له منفعة محرّمة ومنفعة محلّلة، والمنفعتان متساويان، كالأجهزة الصوتيّـة والتصويريّـة التي يمكن استخدامها في سماع الصوت ورؤية التمثال المحرّم والمحلّل، وكالسيف والبندقيّـة، ونحوها. الصورة الثالثة: ما تكون منفعته المحلّلة نادرة لا يعتبرها العقلاء، ولا تكون موجبة لماليّته، كالخمر لسقي الأشجار مع وفور الماء أو التسميد بها، وكآلات الخشبة الموسيقيّـة المحرّمة للإحراق مع وفور الخشب والعود. الصورة الرابعة: ما يكون منفعته المحلّلة نادرة ولكنّها مع ذلك موجب لماليّته، غير أنّ ماليّـة المنفعة المحلّلة أقلّ من المنفعة المحرّمة. أمّا الصورة الاُولى، فلا شكّ ولاشبهة في حرمة بيعها وبطلانه؛ لأنّها القدر المتيقّن ممّا مرّ من ارتكاز الحرمة والإجماع ونحوها ممّا استدلّ به للقاعدة. وأمّا الصورة الثانية، فهي خارجة عن البحث، وهو: «ما يكون منافعه المقصودة محرّمة»، وداخل فيما له منفعة محلّلة ومحرّمة متساوية. ولا شكّ في إباحة بيعها وصحّته إذا قصد المتبايعان المنفعة المحلّلة، أو لم يقصدا شيئاً من المنفعة المحرّمة والمحلّلة، كما هو الظاهر الواضح، وعليه السيرة، أو لم يقصد البائع البيع للمنفعة المحرّمة وإن كان المشتري قاصداً لذلك، فيكون مثل بيع العنب بمن يعلم البائع أنّـه يشتريه للخمر ويكون مباحاً وصحيحاً أيضاً، كما يأتي في محلّه. وأمّا مع كون قصدهما وداعيهما في التكسّب بها بالبيع ـ مثلاً ـ المنفعة المحرّمة، أو اشتراطهما ذلك فيه، ففي حرمة البيع وبطلانه مطلقاً، وعدمهما مطلقاً، أو التفصيل بين صورة الاشتراط والقصد بالحرمة والبطلان مع الشرط دون صورة القصد وجوهٌ. وبما أنّ هذه الصورة خارجة عن القسم الأوّل المبحوث عنه، لما في وجوده منفعة الحلال والحرام، ومحلّ البحث ما لا يقصد من وجوده إلّا الحرام، فترك البحث عنها وإحالته إلى محلّه أولى. وأمّا الصورة الثالثة، وهي: «ما يكون منفعته المحلّلة نادرة وغير موجبة لماليّتـه»، فالظاهر أنّـها ملحق بالصـورة الاُولى في الحكم؛ لشمول إطلاق الأدلّة لها أيضاً. وأمّا الصورة الرابعة، وهي: «ما تكون منفعته المحلّلة النادرة موجبة لماليّته»، فإن قصد المتبايعان المنفعة المحلّلة يقع البيع جائزاً وصحيحاً، غاية الأمر لو كان الثمن زائداً عن مقدار ماليّـة منفعته المحلّلة، وكان المشتري جاهلاً بذلك، كان له خيار الغبن؛ لأنّ البيع بأزيد من ثمن المثل مع جهل المشتري به موجب لتحقّق خيار الغبن، وكان البائع مرتكباً للحرام لو تحقّق منه الخدعة والمكر في تغبين المشتري، إلّا أنّ حرمة الخدعة والمكر لا يوجب حرمة البيع وبطلانه؛ لأنّها متعلّقة بأمر خارج عن البيع، وإن كان مصادفاً معه، فتأمّل. وأمّا لو قصدا المنفعة المحرّمة يقع البيع محرّماً وباطلاً؛ لشمول الأدلّة الدالّة على بطلان بيع ما تكون منافعه محرّمة له، فإنّـه من أكل المال بالباطل، فتشمله الآية الشريفة الدالّة على حرمة الأكل بالباطل، الملازم مع بطلان المعاملة عرفاً، وكذا يشمله النبويّ المذكور: «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»؛ حيث إنّ حرمة الثمن ملازم عرفاً مع حرمة بيعه، كما أنّها بملاحظة كونها موجبة لعدم الماليّـة لذلك الشيء ـ كما لا يخفى ـ لابدّ وأن يقع البيع على ذلك الشيء المحرّم باطلاً؛ لعدم ماليّته. هذا كلّه في الاُمور التي أردنا تقديمها على البحث فيه ـ أي في القسم الأوّل ـ ونشرع حينئذٍ في البحث عنه، والشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سرّه) جعل لكلّ من أقسامه الخمسة بحثاً مستقلاً وعلیحدة، ونبحث عنها كذلك تبعاً له في مسائل: ----------------------- [923]. سبق البحث عنه في الصفحة: 49. [924]. تحف العقول: 333. [925]. نفس المصدر. [926]. نفس المصدر: 335. [927]. البقرة (2): 188. [928]. عوالي اللئالي 2: 110، الحديث 301. [929]. مرّ في الصفحة: 39 وما بعدها. [930]. راجع: المكاسب 1: 111 ـ 118.
|