|
حرمة بيع هياكل العبادة
المسألة الاُولى: البحث عن هياكل العبادات. الهياكل جمع هيكل اسم لموضع الصنم، أطلق على نفس الصنم من باب إطلاق الحالّ على المحلّ. وحرمة التكسّب بها بمثل البيع وبطلانه بما هو هو ممّا لا كلام ولا إشكال فيه، كما مرّ في الأمر الأوّل([931])، وإنّما الكلام والبحث عن حرمة بيعها والمعاوضة عليها، وعن بطلان المعاملة، المترتّب عليه كون الثمن مقبوضاً بالمعاملة الفاسدة وعدمهما، في الصور المتصوّرة في المسألة من حيث الغاية في المعاملة من كونها للغاية المحرّمة، كبيع الصنم للعبادة أو لغيرها؛ مثل بيعها للكسر وإمحائه، ومن كون غائيّـة العبادة في بيعه مثلاً معلومة أو مشكوكة، ومن غيرهما ممّا سيظهر. والصور المتصوّرة: أحدها: أنّ المعاملة ـ كالبيع مثلاً ـ كانت واقعة للغاية المحرّمة، كمن باع الصنم للعبادة بنحو التواطي عليها، أو بنحو الاشتراط في ضمن العقد. ثانيها: بيعها ممّن يصدر منه الحرام، كبيعها ممّن يعبدها، أو ممّن يبيعها ممّن يعبدها، كبيع الصنم من مسلم يبيعه من الوثني. ثالثها: بيعها مع العلم بعدم ترتّب الحرام عليها؛ إمّا للعلم بأنّ المسلم المشتري لا يسلّمها إلى الوثني، أو لانقراض الطائفة التي تعبدها، كما لو أخرج صنم من الحفريّات عن الآثار القديمة البادئة الهالك أهلها وانقرضت الطائفة التي تعبدها، وإنّما يشتريها قوم لحفظ الآثار العتيقة، كما تعلّق به أغراض العقلاء أحياناً، وإنّما تشتريها لهيئتها وصورتها الصنميّـة بما أنّها من الآثار القديمة. رابعها: بيعها لمسلم لغرض كسرها وإمحائها، وهو تارة يرجع إلى المشتري، كمن أراد أن يشتهر بين الناس بأنّـه كاسر الأصنام، أو أراد الثواب الاُخرويّ، واُخرى إلى البائع، كما فيما كان عاجزاً عن كسرها، أو كان له مؤنة أراد تحميلها على المشتري، إلى غيرها من الصور. لا إشكال في حرمة بيعها وبطلانه في الصورتين الأوليين التين يترتّب عليهما الحرام لوجوهٍ: أحدها: استقلال العقل بقبح ما يترتّب عليه عبادة الأوثان ومبغوضيّته، بل قبح تنفيذ البيع وإيجاب الوفاء بالعقد، المترتّب عليه عبادة غير الله تعالى. ثانيها: القطع بأنّ الشارع الأقدس، الذي لا يرضى ببيع الخمر وشرائها ولعن بائعها ومشتريها وحرّم ثمنها، وجعله سحتاً، لا يرضى بذلك في الصنم، ولا يرضى ببيعه وشرائه ونحوهما بالأولويّـة القطعيّـة العرفيّـة. وعلى هذا تكون الأخبار الدالّة على تلك الاُمور في الخمر دالّة عليها في الصنم أيضاً. وقد استدلّ مفتاح الكرامة بنحو ذلك لإثبات جواز بيع كلاب الماشية والزرع والبستان من الأخبار([932]) الدالّة على الجواز في كلب الصيد([933]). ثالثها: تنقيح المناط، حيث إنّ المستفاد من أدلّة تحريم ثمن الخمر وسائر المسكرات، وتحريم بيعها وشرائها، كون المناط في ذلك، الفساد المترتّب عليها، ومعلوم أنّ الفساد المترتّب على الأوثان وبيعها وشرائها اُمّ جميع المفاسد، وليس وراء عبّادان قرية. رابعها: الروايات المستفيضة([934])، المنقولة عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)([935])وأبي جعفر(علیه السلام)، وأبي عبدالله(علیه السلام): «أنّ مدمن الخمر كعابد وثن»([936]). ويظهر منها أنّ عبادته شرّ منه ويترتّب عليها فوق ما يترتّب عليه. ومعه، كيف يمكن ذلك التشديد في الخمر لقلع الفساد دون الأوثان؟ خامسها: دلالة الروايات العامّة المتقدّمة ـ كرواية التحف وغيرها ـ على حرمة معاملتها؛ لما فيه من الفساد، وإشعار بعض ما وردت في الخمر، بل ظهوره، كقوله(علیه السلام): «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها»([937])، على بطلان المعاملة، كما مرّ بيانه([938]) في الأمر الأوّل. سادسها: ما ورد في خصوص الصلبان والصنم، وهو صحيح ابن اُذينة، قال: كتبت إلى أبي عبدالله(علیه السلام) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذ منه برابط؟ فقال: «لا بأس»، وعن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً؟ قال: «لا»([939])، وخبر عمرو بن حريث، قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن التوت أبيعه يصنع للصليب والصنم؟ قال: «لا»([940]). نعم، الظاهر أنّ دلالة صحيحة ابن اُذينة بالفحوى؛ لأنّ الصلبان شعار التنصّر وليست كالصنم للعبادة. لكن في وجوب كسرها وعدم الضمان شهادة على عدم ماليّتها لدى الشارع، فلا يصحّ بيعها وشراؤها لتقوّمهما بها، فخرجت بذلك عن شمول أدلّة تنفيذ البيع تحكيماً، وإذا دلّت الصحيحة على عدم كون الصلبان مالاً ولم يصحّ بيعها فتدلّ بالأولويّـة العرفيّـة على عدم كون الصنم مالاً وعدم صحّة بيعه أيضاً. سابعها: دعاوي الإجماع وعدم الخلاف على حرمة التكسّب بهياكل العبادة، كالصنم([941]). بل عن الرياض: الاستدلال على حرمة التكسّب بها بالإجماع المستفيض المنقول في كلام جماعة ([942]) ، وإن أنكر الاستفاضة صاحب مفتاح الكرامة ([943]). وعن المنتهى: حكاية عدم الخلاف على حرمة عملها، المستلزمة لحرمة التكسّب بها على ما قيل([944]). وعن مجمع البرهان: الإجماع عليها ([945]). وفي مفتاح الكرامة بعد نقل الإجماع وعدم الخلاف عن بعض، قال: «والأمر سهلٌ؛ إذ الإجماع معلوم»([946]). وفي كلامه هذا بُعد وعجب؛ حيث إنّ هذا الكلام منه يكون بعد ما ذكر في الإشكال على الرياض من استدلاله للحرمة بالإجماع المستفيض المنقول في كلام جماعة بما لفظه: «ولم أجد نقله إلّا فيما عرفته بعد ملاحظة أربعين كتاباً»، وذلك لبعد علمه بالإجماع بعد عدم نقله في أربعين كتاباً وإنّما نقله عن كتب ثلاثة أو أربعة. وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه»([947]). هذا حال ما علم ترتّب الحرام عليه، ولا يبعد إلحاق صورة احتمال ترتّبه فضلاً عن الظنّ به احتياطاً؛ لأهمّيّـة الموضوع وشدّة الاهتمام به، فلا يقصر عن الأعراض والنفوس، بل أولى منها في إيجاب الاحتياط([948]). ومحصّل ما مرّ: أنّ بيع هياكل العبادات محرّم شرعاً إذا ترتّب عليها العبادة يقيناً؛ للوجوه السبعة المذكورة. وملحق به صورة الشك والظنّ في الترتّب عليه احتياطاً. وهذا ممّا لا إشكال فيه. وإنّما الإشكال والكلام في الصورتين الأخيرتين ممّا لا يترتّب عليهما العبادة، كبيعها مع انقراض الطائفة التي تعبدها ولا يترتّب عليه العبادة، لا في الحال ولا في المستقبل، والمشتري إنّما يشتريها لحفظ الآثار العتيقة. أو بيعها مع وجود الطائفة التي تعبدها، إلّا أنّ المشتري يشتريها لحفظ الآثار العتيقة، مع العلم بأنّـه لا يترتّب عليه العبادة، لا في الحال ولا في المستقبل. أو اشترائها بغرض كسرها. أو اشترائها لاختفائها وإبعادها عن يد الذين يعبدونها. أو اشترائها لإبطال حجّة عبدة الأصنام، كما أبطل إبراهيم (على نبيّنا وعليه وعلى آله السلام) حجّة من يعبدها، حيث جعل الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم لعلّهم إليه يرجعون، وقال (سلام الله علیه) في جواب السائلين: (قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمَ* قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)([949]). وغيرها من الصور التي لا تترتّب عليها العبادة. والجامع بينها: البيع مع العلم والاطمئنان بعدم ترتّب العبادة عليه. والأقوى جواز البيع في هذه الصور؛ لقصور الأدلّة السبعة المذكورة عن الشمول لها. أمّا الأدلّة اللُبّيّـة من الإجماع والعقل والأولويّـة وتنقيح المناط فواضح؛ لعدم الإطلاق لها، والقدر المتيقّن منها غير هذه الصور، مضافاً إلى أنّ دليل العقل والأولويّـة وتنقيح المناط مختصّة بما إذا ترتّب على بيعها الفساد، ومع عدم ترتّب الفساد عليه لا محلّ لجريانها أصلاً؛ لعدم وجود الموضوع والمناط كما هو واضح. وأمّا الأدلّة اللفظيّـة مثل رواية تحف العقول، وحديث: «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»([950])، ورواية عمرو بن حريث([951])، وصحيح ابن اُذينة ([952]) فلعدم الإطلاق لها أيضاً. مع أنّـه على الإطلاق منصرف إلى ما يكون للعبادة في بيع الأصنام والتكسّب بها وصناعتها، وللتكسّب والصناعة والانتفاع ممّا يترتّب عليه الفساد كما في الصلبان؛ إذ من المعلوم أنّ السؤال والجواب كانا عن بيع الخشب والتوت ممّن يصنع الصليب؛ لاستعماله في المنافع المتعارفة منه عند النصارى، لا صنعها وبيعها لمثل حفظه بما أنّـه من الآثار العتيقة. ولا يتوهّم أنّ السؤال، وإن كان عمّا ذكرت، لكن مورد السؤال غير مخصّص؛ لكونه مدفوعاً بأنّ ذلك تمام فيما كان للجواب عموم وإطلاق، لا مثل ما نحن فيه ممّا ليس كذلك لاختصاص الجواب بمورد السؤال من أوّل الأمر، كما لا يخفى على الناظر إلى الخبرين، فإنّـه(علیه السلام) أجاب بكلمة النفي بقوله: «لا»؛ أي لا يجوز ذلك البيع المورد للسؤال. وبعد قصور الدليل كانت أصالة البراءة محكّمة مقتضية للحلّيّـة والصحّة. نعم، يمكن أن يستدلّ للحرمة باستصحاب الحرمة، واستصحاب وجوب الكسر، واستصحاب عدم الماليّـة، إلّا أنّ التمسّك بالاستصحاب أيضاً مخدوش؛ وذلك، لأنّ الشبهة هنا حكميّـة، فإنّ البحث عن الكبرى الكلّيّ، وهو: «حرمة بيع الصنم والصليب فيما لا يترتّب عليه الفساد والعبادة» والاستصحاب في الشبهات الحكميّـة غير جار؛ لعدم الحالة السابقة لها، فإنّ أصل حرمة بيع الصنم والصليب في هذه الصورة مشكوك من أوّل الأمر لا متيقّن، فلا محلّ للاستصحاب؛ لعدم اليقين السابق. إن قلت: إنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّـة الكلّيّـة وإن كان غير جار، لكنّـه بجريانه في الحكم الجزئيّ والشخصيّ من تلك الشبهة الحكميّـة لوجود اليقين فيه يثبت المطلوب، أي الحرمة؛ وذلك لأنّ الصنم والصليب الشخصيّ الجزئيّ المصنوع في الأزمنة السابقة كان بيعها حراماً في تلك الأزمنة؛ لوجود من يعبدها في تلك الأزمنة، والآن كما كان. قلت: إنّ هذا الاستصحاب في الحكم الجزئيّ والمصداق الخارجي وإن كان مفيداً فائدة استصحاب الحكم والموضوع الكلّيّ، لكنّـه فيما نحن فيه لا يكون جارياً كاستصحاب الكلّيّ؛ وذلك لعدم اليقين بالحرمة في الأزمنة السابقة، لعدم العلم بأنّ الصنم في تلك الأزمنة كان للعبادة حتّى يكون بيعه محرّماً فاسداً فيها؛ إذ لعلّه صنع بغرض لعب الأطفال به، أو بغرض هدم حجّة من يعبدها. هذا، مع أنّـه لو سلّم كون صنعه لأجل التعبّد به، كما يقتضية جريان العادة والغلبة، فاستصحاب حرمة بيعه محلّ إشكال، بل منع أيضاً؛ لأنّ المتيقّن من الحرمة هو بيع الصنم للعبادة في تلك الأزمنة، وهذا ليس بمشكوك في الحال أصلاً، بل حرمته ضروريّ فقه الشيعة، بل فقه الإسلام، فلا محلّ للاستصحاب فيه من رأس وليس محلاً للاستدلال به، كما هو الواضح الظاهر، وأمّا استصحاب حرمة بيعه فيما لا يترتّب عليه العبادة والفساد ممّا هو المحلّ للتمسّك به فغير جار؛ لعدم العلم بتلك الحرمة في تلك الأزمنة، فلعلّه كان جائزاً فيها، فحرمة البيع سابقاً غير متيقّن حتّى يستصحب. إن قلت: إنّ كلّيّ حرمة بيع الصنم في الأزمنة السابقة كان متيقّناً؛ إمّا في ضمن حرمة بيعه لأجل التعبّد به، وإمّا في ضمن حرمة بيعه فيما لا يترتّب عليه العبادة، فتستصحب كلّيّ الحرمة. قلت: إنّ هذا الاستصحـاب مـن الاستصحـاب الكلّيّ القسـم الثـالث، والاستصحاب الكلّيّ، لا سيّما القسم الثالث منه غير جارٍ في الأحكام؛ لأنّ الجامع بين الأحكام ليس حكماً شرعيّاً، ولاموضوعاً للحكم الشرعيّ، والاستصحاب إنّما يجري فيما يكون المستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم الشرعيّ، والجامع بين حرمة بيع الصنم فيما يترتّب عليه العبادة وحرمة بيعه فيما لا يترتّب عليه العبادة لا يكون من الأحكام المجعولة الشرعيّـة، ولاموضوعاً للأحكام الشرعيّـة. هذا أوّلاً. وثانياً: أنّ استصحاب القسم الثالث من الكلّيّ بجميع أقسامه الثلاثة غير جار حتّى في الموضوعات أيضاً؛ لدورانه بين متيقّن الزوال ومشكوك الحدوث. بيانه: أنّ القسم الثالث من الاستصحاب الكلّيّ ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوّل: أنّ الكلّيّ كان موجوداً في ضمن فرد يقيناً، وبعد زوال الفرد المتيقّن يحتمل حدوث فرد آخر له مقارناً لزوال الفرد السابق حتّى يبقى الكلّيّ في ضمنه، كما إذا كان كلّيّ الإنسان موجوداً في الدار في ضمن «زيد»، وبعد خروج زيد عن الدار نشكّ في دخول «عمرو» في الدار مقارناً لخروج زيد، ففي هذه الصورة: كلّيّ الإنسان الموجود في ضمن زيد قد زال يقيناً، وكلّيّ الإنسان في ضمن عمرو مشكوك حدوثه، فلا يجري الاستصحاب؛ لعدم العلم بالحالة السابقة. القسم الثاني: أنّ الكلّيّ كان موجوداً في ضمن فرد يقيناً، وبعد زوال الفرد المتيقّن نشكّ في وجود فرد آخر له مقارناً لوجود الفرد الزائل، كما إذا كان الإنسان موجوداً في ضمن «زيد»، وبعد زوال زيد نشكّ في بقاء الإنسان، للشكّ في وجود «عمرو» مقارناً لوجود زيد، والحكم في هذا القسم كسابقه. القسم الثالث: أنّ الكلّيّ كان موجوداً في ضمن مرتبة، وبعد زوال تلك المرتبة نشكّ في بقاء الكلّيّ، للشكّ في بقاء مرتبة اُخرى منه، كما إذا كان كلّيّ الإحمرار موجوداً في ضمن المرتبة الشديدة منه، وبعد ذهاب تلك المرتبة الشديدة نشكّ في بقاء كلّيّ الإحمرار، للشكّ في بقاء مرتبة ضعيفة منه، والحكم في هذا القسم أيضاً كسابقيه. فالاستصحاب الكلّيّ القسم الثالث بجميع أقسامه غير جار، لا في الأحكام، ولا في الموضوعات. ولا يخفى عليك: أنّـه قد ذكرنا ذلك استطراداً على الإجمال، والتفصيل في محلّه. وثالثاً: لو سلّمنا حرمة بيع الصليب في الأزمنة السابقة في الأعمّ ممّا يترتّب عليه العبادة وفيما لا يترتّب عليه العبادة، لكن جعل الحرمة كذلك على الإطلاق لجميع الاُمم غير معلوم؛ إذ لعلّه لم يكن محرّماً للنصارى وللمتديّنين بشريعة عيسى (على نبيّنا وعليه وعلى آله السلام). ومع هذا الاحتمال لا يجري الاستصحاب بالنسبة إلينا؛ لعدم اليقين بحرمته سابقاً، المتّصل بزمان الشكّ حتّى يستصحب. ورابعاً: لو كان الدليل على حرمة بيع الصنم هو العقل؛ بمعنى أنّ الحرمة الشرعيّـة مستكشف من حكم العقل بقبحه، فلا يجري الاستصحاب فيها؛ لعدم جريانه لا في نفس الأحكام العقليّـة ولا في الأحكام الشرعيّـة المستكشف من الأحكام العقليّـة، لعدم تعقّل الشكّ للعقل الحاكم، فإنّـه لا واقع لحكمه إلّا علمه وفهمه، فكيف يعقل الشكّ فيه أو في المستكشف منه؟ نعم، فيما إذا انطبق الحكم العقليّ على مصداق في الخارج، ثمّ شككنا في بقاء الحكم العقليّ في ذلك المصداق، كما إذا لزم إنقاذ غريق عقلاً، ثم شككنا في بقاء لزوم إنقاذه، للشكّ في ارتداده وعدمه ممّا يكون مانعاً عن الوجوب، ففي مثل ذلك يكون الاستصحاب جارياً؛ لتماميّـة أركانه من اليقين والشك، لكنّـه من المعلوم عدم ارتباط مفروض البحث مع هذا النحو من الشكّ واليقين. فتحصّل ممّا ذكرنا، حلّيّـة بيع الصنم والصليب فيما لم يكن الغرض منه الانتفاع المحرّم والعبادة. ولكن سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) بعد تقويته صحّة البيع بغرض كسرهما أو غرض آخر في كسره ممّا يكون موجباً لماليّته ومرغوبيّـة شرائه استشكل فيه بما نصّه: وممّا ذكرناه، تظهر قوّة صحّة البيع لغرض إدراك ثواب الكسر، أو غرض آخر في كسره، موجب لماليّته ومرغوبيّـة اشترائه. إلّا أن يقال باستلزام ذلك لبعض الإشكالات العقليّـة: منها: أنّ الفساد المترتّب على هياكل العبادة، علّة لإسقاط ماليّتها وإيجاب كسرها. وإيجاب الكسر سبب لترتّب الثواب عليه لإيجابه، فلو صار ذلك علّة لماليّتها، يلزم أن يكون الشيء علّة لثبوت نقيض معلول علّة علّته، وذلك مستلزم لنفي علّة علّته المستلزم لعدم ذاته. ومنها: أنّ إيجاب الكسر مضادّ لماليّته، فلو ثبتت الماليّـة به يلزم إيجاد الشيء مضادّه المستلزم لعدم ذاته. ومنها: أنّ إيجاب الكسر لو صار سبباً للماليّـة يلزم منه عدم إيجابه، بل عدم جوازه؛ لأنّـه مال محترم، فيلزم من إيجاب الكسر عدمه([953]). وهذه الإشكالات مندفعة بجوابين: أحدها: ما أجاب به سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) قال: والجواب عنها: أنّ الفساد لا يمكن أن يصير علّة لإسقاط الماليّـة الآتية من قبل معلوله، أي إيجاب الكسر؛ للزوم كون الشيء علّة لعدم معلول معلوله، وهو مستلزم لعدم معلوله المستلزم لعدمه، فهو علّة لسلب الماليّـة الثابتة لها من غير ناحية الكسر. وأيضاً، إنّ إيجاب الكسر على فرض مضادّته للماليّـة لا يمكن أن يكون مضادّاً للماليّـة الآتية من قبله؛ لاستلزام أن يكون الشيء ضدّ معلوله، فيكون ضدّاً للماليّـة التي من غير ناحية الكسر. وأيضاً، إنّ الماليّـة الآتية من قبل وجوب الكسر لا يمكن أن تكون مانعة عن وجوبه، فالماليّـة من غير تلك الناحية مانعة عنه([954]). ثانيها: الجواب بما حقّقه وكان يذكره مكرّراً من الخلط بين التكوين والتشريع؛ حيث إنّ باب التشريع باب الاعتبار والجعل الاعتباري. ومن الواضح اختصاص مثل الأحكام العقليّـة ـ الموجبة لتلك المحاذير ـ بباب التكوين والحقائق الخارجيّـة وعدم جريانها في التشريع والجعل الاعتباري، فإنّ العقل ناظر إلى التكوين في تلك الأحكام، فاستحالة اجتماع الضدّين والمثلين، والمعلول بلاعلّة، والشرط المتقدّم والمتأخّر، مستحيل في التكوين، لا في الاعتبار الذي تمام قوامه بالاعتبار. ألا ترى أنّ غسل المستحاضة في الليلة الآتية شرط لصحّة الصوم اليوم السابق؛ والإجازة حين تحقّقها ناقل للملك في زمان العقد على الكشف وناقل له في زمان الإجازة على النقل. وفي كليهما محذور تأثير الأمر اللاحق في السابق أو السابق في اللاحق، ولا إشكال في أمثال ذلك في التشريع؛ لكونه باب الاعتبار والجعل. وعلى هذا، ففي ما نحن فيه بما أنّ ثبوت الماليّـة وسقوطها شرعاً من الاُمور الاعتباريّـة، فلا محلّ لتلك المحاذير من رأس. صور بيع الصنم والصليب للكسر --------------- [931]. مرّ في الصفحة: 379. [932]. انظر: وسائل الشيعة 17: 118، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14. [933]. قال في مفتاح الكرامة: «أو يستدلّون بالأولويّـة العرفيّـة؛ لأنّه إذا جاز بيع كلب الصيد، وهو ممّا لاتمسّ إليه الحاجة وأكثره لهو وأشر وبطر، فكيف لايجوز بيع كلب الماشية التي لايستقيم بقاؤها في الشامات والفرس إلّا بالكلاب، وكذلك الزرع والبستان، كما هو مشاهد بالعيان؟ والأولويّـة العرفيّـة حجّة. وعلى هذا، فتكون أخبار الباب الدالّة على استثناء كلب الصيد دالّة على غيره من الكلاب الثلاثة». (مفتاح الكرامة 12: 97 و98). [934]. وسائل الشيعة 25: 317، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 13. [935]. الكافي 6: 404، باب مدمن الخمر، الحديث 7؛ وسائل الشيعة 25: 319، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 13، الحديث 6. [936]. الكافي 6: 405، باب مدمن الخمر، الحديث 8؛ التهذيب 9: 108/470، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ...، الحديث 205؛ وسائل الشيعة 25: 319، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 13، الحديث 7. [937]. الكافي 5: 230، باب بيع العصير والخمر، الحديث 2؛ التهذيب 7: 135/599، و601، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة...، الحديث 70 و72؛ وسائل الشيعة 17: 223 و225، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 1 و6. [938]. مرّ بيانه في الصفحة: 379 ـ 382. [939]. الكافي 5: 226، باب جامع فيما يحلّ الشراء والبيع منه وما لا يحلّ، الحديث 2؛ التهذيب 6: 337/1082، باب المكاسب، الحديث 203؛ و 7: 134/590، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة...، الحديث 61؛ وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 1، وفي التهذيب والوسائل: «لا بأس به». [940]. الكافي 5: 226، باب جامع فيما يحلّ الشراء والبيع منه وما لا يحلّ، الحديث 5، وفيه: «عن عمرو بن جرير»؛ التهذيب 6: 373/1084، باب المكاسب، الحديث 205؛ و 7: 134/591، باب بيع الواحد والاثنين وأكثر من ذلك وما يجوز منه وما لايجوز، الحديث 62؛ وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 2. [941]. راجع: جواهر الكلام للشيخ محمّد حسن النجفي 22: 25؛ ومستند الشيعة للنراقي 14: 88؛ والمكاسب للشيخ الأعظم 1: 111. [942]. رياض المسائل 8: 140. [943]. مفتاح الكرامة 12: 105. [944]. منتهى المطلب 15: 370. [945]. مجمع الفائدة والبرهان 8: 41. [946]. مفتاح الكرامة 12: 105. [947]. جواهر الكلام 22: 25. [948]. راجع: المكاسب المحرّمة 1: 161 ـ 164. [949]. الأنبياء (21): 58 ـ 67. [950]. عوالي اللئالي 2: 110، الحديث 301. [951]. تقدّم تخريجها في الصفحة: 389. [952]. نفس المصدر. [953]. المكاسب المحرّمة 1: 166. [954]. نفس المصدر: 166 ـ 167.
|