|
حرمة البيع بدليل النهي عن المنكر
الوجه الثالث:([1049]) أدلّة النهي عن المنكر، بأن يقال: دفع المنكر كرفعه واجب، ولا يتمّ إلّا بترك البيع فيما نحن فيه. ونقول في بيانه: الظاهر وجوب دفعه كرفعه؛ شرعيّاً كان أو عقليّاً، أمّا على كونه شرعيّاً، كما حكاه في الجواهر عن السيّد([1050]) والحلّي([1051]) والحلبي([1052]) والخواجة نصيرالدين الطوسي([1053]) والمحقّق الكركي([1054]) وفخرالمحقّقين([1055]) ووالده في بعض كتبه([1056])، بل عن المختلف نسبته إلى الأكثر([1057])، بل عن السرائر نسبته إلى جمهور المتكلّمين والمحصّلين من الفقهاء([1058])، فلشمول الأدلّة للدفع أيضاً بلا إشكال، لو لم نقل بأنّ الواجب هو الدفع، بل يرجع الرفع إليه حقيقة؛ لوجهين: أحدهما: أنّـه لا إشكال في أنّـه ليس المراد من النهي عن المنكر، النهي عنه بعد تحقّقه وتعيّنه في الخارج، لاستحالته؛ حيث إنّ النهي عن الشيء زجر عن وقوعه في الخارج، فيستحيل تعلّقه بالخارج المتحقّق، فإنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه، فلابدّ أن يكون متعلّقاً بالشيء قبل تحقّقه. وإن شئت قلت: إنّ الخارج ظرف سقوط التكليف بالإطاعة أو العصيان، والطبيعة بما هي هي ظرف ثبوت التكليف بالأمر به أو النهي عنه. وعلى هذا، فلا إشكال في أنّ النهي عن المنكر يكون نهياً عنه قبل تحقّقه في الخارج، لكن في توقّفه على تلبّس الفاعل بالمنكر، حتّى يكون النهي نهياً عن استمراره، وعدم توقّفه عليه، فيجب النهي عنه فيما لو علم بأنّ الغير بصدد الإتيان به وأنّـه همّ به وإن لم يتلبّس وجهان: أقواهما الثاني، فإنّ بعض الأخبار الواردة في النهي عن المنكر([1059]) وإن كان فيها إشعار، بل ظهور في الأوّل، لكنّ الظاهر كون ذلك للغلبة، حيث إنّ العلم بما في ضمير الأفراد نادر ومخالف للعادة، فتلك الروايات واردة مورد الغالب، لا لأنّ لموردها الموضوعيّـة والخصوصيّـة. وعلى هذا، فمع فرض العلم والاطّلاع بتحقّق المعصية منه بعد ذلك وأنّها سيوجد منه، وجب ردعه دفعاً للمنكر. وبالجملة، المتعلّق لوجوب النهي في الأخبار هو المنكر، فالدفع والرفع كلاهما واجبان، كما لا يخفى، لا المنكر الخارجي حتّى يختصّ الوجوب بالرفع دون الدفع. ثانيهما: أنّـه على تسليم اختصاص الأدلّة بنهي المتلبّس عن المنكر واختصاصه بالرفع لا يصحّ اختصاص الحرمة به؛ لأنّـه لا إشكال في إلغاء الخصوصيّـة منه إلى غير المتلبّس ممّن همّ بصدور المعصية، للعلم بأنّـه لا دخل لتلبّس الفاعل بالمنكر واشتغاله بفعله في وجوب النهي عنه، وإنّما المقصود عدم تحقّق المعصية في الخارج واجتناب الناس عنها، فلا فرق في ذلك بين الدفع والرفع. ولك أن تقول: إنّ النهي في الرفع يكون نهياً عن الاستمرار على المعصية، ومن المعلوم عدم الفرق في وجوبه بين الدفع على نحو الاستمرار أو الدفع عن أصل الوجود، فإنّ العرف لا يفرّق بينهما ويرى أنّ المناط هو عدم تحقّق المعصية مطلقاً، لا عدمها بعد التلبّس بالنهي عن الاستمرار. هذا كلّه بناءً على الوجوب الشرعيّ. وأمّا بناءً على الوجوب العقليّ، فعدم الفرق في وجوب الرفع والدفع أوضح؛ حيث إنّ ملاكه قبح ترك النهي عن الإتيان بمبغوض المولى استمراراً أو حدوثاً بالهمّ بإتيانه. هذا، لكن مع ذلك كلّه، الاستدلال به غير تمام لوجوهٍ: أحدها، وهو العمدة: أنّ المناط في وجوب النهي عن المنكر ليس هو عدم تحقّق المنكر كيفما كان، بل المناط فيه عدم تحقّق المنكر من المكلّف بإرادة منه، وهذا المناط لا يلازم مع مطلق دفع المنكر حتّى يجب مطلقاً، بل يكون في بعض الموارد، وهو ما إذا كان النهي عن المنكر موجباً لإرادة من اهتمّ بالمنكر عدم إتيانه اختياراً؛ لالتفاته إلى مفاسد المنكر وعذابه. ويدلّ على ما ذكرنا الكتاب والسنّـة: أمّا الكتاب، فمثل قوله تعالى: (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)([1060]). فإنّ الآية تدلّ على أنّ المؤمنين بعضهم يأمر بعضهم بالمعروف وينهاه عن المنكر؛ لأنّ بعضهم أولياء بعض ومحبّ له والمحبّ يحبّ فعل المعروف من أخيه عن إرادة وترك المنكر عنه عن إرادة. وقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)([1061]). فإنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ اُمّة الإسلام خير اُمّة؛ لوجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم، فهي دالّة على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببٌ لاتّصاف الاُمّة بأنّهم خير اُمّة، واتّصاف الاُمّة بهذا الوصف لا يحصل إلّا بعد قيام الاُمّة بالمعروف وتركهم المنكر عن إرادة. وأمّا السنّـة، فروايات: منها: ما روي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّـه قال: «ألا أحدّثكم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء، بمنازلهم من الله ]عزّوجلّ[ على منابر من نور»؟ قيل: من هم يا رسول الله؟ قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «هم الذين يحبّبون عباد الله إلى الله ويحبّبون الله إلى عبـاده»، قلنـا: هذا حبّب الله إلى عباده فكيف يحبّبون عباد الله إلى الله؟ قال: «يأمرونهم بما يحبّ الله، وينهونهم عمّا يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبّهم الله»([1062]). فإنّ الرواية تدلّ على أنّ المناط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الإطاعة، والإطاعة لا تصدق إلّا مع إرادة وقصد. ومنها: مرفوعة يعقوب بن يزيد، رفعه قال: قال أبوعبدالله(علیه السلام): «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى، فمن نصرهما أعزّه الله، ومن خذلهما خذله الله»([1063]). فإنّ الرواية يستفاد منها أنّ مناط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فعل المكلّف المعروف وتركه المنكر عن إرادة؛ لأنّهما خلقان من خلق الله، وخلق الله في أوامر نفسه ونواهيه بيان ذلك حتّى يطيعوه العباد عن إرادتهم. ومنها: رواية عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «لمّا نزلت هذه الآية: Cيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراًB([1064]) جلس رجل من المسلمين يبكي، وقال: أنا عجزت عن نفسي، كلّفت أهلي، فقال رسوالله(صلی الله علیه و آله و سلم): «حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك»([1065]). ومنها: مرسلة الفقيه، قال: وسئل الصادق(علیه السلام) عن قول الله عزّوجلّ: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) كيف نقيهنّ؟ قال: «تأمرونهنّ وتنهونهنّ»، قيل له: إنّا نأمرهنّ وننهاهنّ فلا يقبلن، قال: «إذا أمرتموهنّ ونهيتموهنّ فقد قضيتم ما عليكم»([1066]). ومنها: رواية فقه الرضا: وأروي أنّ رجلاً سأل العالم(علیه السلام) عن قول الله عزّوجلّ: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) قال: «يأمرهم بما أمرهم الله، وينهاهم عمّا نهاهم، فإن أطاعوا كان قد وقاهم، وإن عصوه كان قد قضى ما عليه»([1067]). فإنّ هذه الروايات الثلاث لا تدلّ إلّا على كفاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا على وجوب دفع المنكر كيفما كان. ويشهد على ما ذكرنا من الاختصاص بالانتهاء عن إرادة وتوجّه إلى عواقب المنكر وجوه: أحدها: أنّ الأمر والنهي الواردين في الروايات لا يكونان علّة تامّه للإطاعة، ولاشرطاً لها، بل هما من معدّات صدور المعروف وترك المنكر عن المكلّف عن إرادة، وهذا تدلّ على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد أمر بهما بغرض التهذيب وتحقّق الإرادة في النفوس حتّى يتحقّق منها فعل المعروف وترك المنكر عن إرادة. ثانيها: أنّ أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدلّ على عدم كون المناط فيهما فعل المعروف كيفما كان، وترك المنكر كيفما كان؛ لأنّ فعل المعروف وترك المنكر كيفما كان منكر، وأدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاصر عن إثبات جواز المنكر. ثالثها: أنّ بعض الفقهاء قد اشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، مضافاً إلى علمه بالمعروف والمنكر، عمله بهما أيضاً حتّى يكون أمره ونهيه أوقع في النفوس، وهذا الشرط وإن لم يكن شرطاً فقهيّاً، ولكنّـه فيه شهادة على أنّ المناط فيهما هو تأثير الأمر والنهي في المكلّف حتّى يعمل بالمعروف ويترك المنكر عن إرادته. ثانيها: ـ أي ثاني الوجوه في الإشكال على أدلّة النهي عن المنكر: ـ أنّ من شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو احتمال التأثير، فمع علم البائع بأنّـه لو لم يبع المشتري العنب مع علمه بجعله خمراً لباعه الآخر ويصل المشتري إلى مقصوده المنكر ـ أي جعله خمراً ـ لا يجب عليه دفعه وردعه عن ذلك؛ لانتفاء شرط الوجوب، وهو احتمال التأثير، فلاحرمة في بيعه من جهة ترك الواجب، وهو النهي عن المنكر؛ لعدم وجوبه مع وجود بائع آخر. ---------------------- [1049]. مرّ الوجه الثاني في الصفحة 436. [1050]. الشافي في الإمامة 1: 119. [1051]. السرائر 2: 21. [1052]. الكافي في الفقه: 264. [1053]. تجريد الاعتقاد: 310. [1054]. جامع المقاصد 3: 485. [1055]. إيضاح الفوائد 1: 397. [1056]. تحرير الأحكام الشرعيّـة 2: 240؛ تذكرة الفقهاء 9: 441. [1057]. مختلف الشيعة 4: 456. [1058]. جواهر الكلام 21: 358. [1059]. انظر: وسائل الشيعة 16: 117، كتاب الأمر والنهي، أبواب الأمر والنهي، الباب 1. [1060]. التوبة (9): 71. [1061]. آل عمران (3): 110. [1062]. روضة الواعظين 1: 55/67، الحديث 51؛ مشكاة الأنوار: 136؛ مستدرك الوسائل 12: 182، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، الباب 1، الحديث 19، مع تفاوت يسير. [1063]. الكافي 5: 59، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحديث 11؛ التهذيب 6: 177/357، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحديث 6؛ وسائل الشيعة 16: 124، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، الباب 1، الحديث 20، وفيه: «قال أبو جعفر». [1064]. التحريم (66): 6. [1065]. الكافي 5: 62، باب، الحديث 1؛ التهذيب 6: 178/364، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحديث 13؛ وسائل الشيعة 16: 147، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، الباب 9، الحديث 1. [1066]. الفقيه 3: 280/1334، باب حقّ المرأة على الزوج، الحديث 9؛ وسائل الشيعة 20: 177، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الباب 92، الحديث 4. [1067]. فقه الرضا: 375؛ مستدرك الوسائل 12: 200، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، الباب 8، الحديث 2.
|