|
وجوه الجمع بين الروايات المجوّزة والروايات الدالّة على الحرمة
ثمّ إنّ الأعاظم قد تكلّفوا للجمع بين الروايات الدالّة على الجواز والروايات المستدلّ بها على المنع بوجوهٍ: منها: ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سرّه) ([1092])من حمل الروايات المانعة على الكراهة؛ لشهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة، كما أفتى به جماعة ([1093])، ويشهد له صحيحة الحلبي، عن بيع العصير ممّن يصنعه خمراً، قال: «بعه ممّن يطبخه أو يصنعه خـلاً أحبّ إليّ، ولا أرى بالأوّل بأساً»([1094]). واستشكل عليه بأنّ في الأخبار لا يوجد شاهد على الحمل على الكراهة إلّا صحيحة الحلبي، فما قاله الشيخ(قدس سرّه) من شهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة لا وجه له، إلّا أن يقال: إنّ نفي البأس في الروايات بمعنى نفي الحرمة، لو قلنا بأنّ البأس هو الحرمة. ولكن يمكن أن يقال: إنّ صحيحة الحلبي أيضاً ليس فيها شهادة على حمل الروايات على الكراهة؛ لأنّ فيها: «بعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلاً أحبّ إليّ، ولا أرى بالأوّل بأساً» وكلمة «أحبّ» لا تدلّ على الكراهة، بل على أنّ الثاني أفضل وأحبّ من الأوّل، فإنّها أفعل تفضيل. ومنها: ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سرّه) أيضاً من حمل كلّ طائفة من الروايات على مورده؛ أي بأن نلتزم بالحرمة في مسألة بيع الخشب ممّن يعمله صليباً أو صنماً؛ لظاهر تلك الأخبار، والعمل في مسألة بيع العنب وشبهها على الأخبار المجوّزة ([1095]). وقد استشكل عليه باُمور أربعة: أحدها: ما استشكل عليه الشيخ الأعظم(قدس سرّه) نفسه من أنّ: «هذا الجمع قول فصل، لو لم يكن قولاً بالفصل»([1096]). ثانيها: ما استشكله السيّد صاحب العروة، من أنّ حمل الروايات الدالّة على الجواز على مورده منافٍ للقاعدة الكلّيّـة التي يستفاد من بعضها، وهو خبر يزيد بن خليفة، حيث جاء «بعته حلالاً فتجعله حراماً، فأبعده الله»([1097]).([1098]) ثالثها: ما استشكله السيّد صاحب العروة أيضاً، من أنّ هذا الجمع منافٍ لصدر مكاتبة ابن اُذينة: أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: «لا بأس»([1099]).([1100]) لكن يمكن أن يجاب عن إشكال الثاني للسيّد(قدس سرّه) بأنّ مكاتبة ابن أذينة غير منافٍ لهذا الجمع؛ إذ لا منافات بين جواز بيع العنب ممّن يعمله خمراً، والخشب ممّن يعمله برابط، وبين حرمة بيع الخشب لمن يصنعه صلباناً وصنماً. رابعها: ما مرّ([1101]) في ذيل الوجه الخامس من وجوه الأدلّة للحرمة من سيّدنا الاُستاذ(سلام الله علیه) ببعد التفصيل بين الصليب والخمر، بل عدم صحّته، بعد كون الصليب ظاهراً هو ما يصنع شبيه ما صلب به المسيح(علیه السلام) على زعمهم، وإنّما يكرمونه لذلك ولا يعبدونه كما يعبد الصنم كما زعم([1102]). وقد مرّ جوابه([1103]). ومنها: ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سرّه) أيضاً، من حمل الروايات المانعة على صورة اشتراط جعل الخشب صليباً أو صنماً أو تواطئهما عليه، والروايات المجوّزة على صورة العلم وعدم الاشتراط. واستشكل عليه (قدس سرّه) بقوله: وفيه أنّ هذا في غاية البعد؛ إذ لا داعي للمسلم على اشتراط صناعة الخشب صنماً في متن بيعه أو في خارجه، ثمّ يجيء ويسأل الإمام(علیه السلام) عن جواز فعل هذا في المستقبل وحرمته. وهل يحتمل أن يريد الراوي بقوله: «أبيع التوت ممّن يصنع الصنم والصليب»: أبيعه مشترطاً عليه وملزماً في متن العقد أو قبله: أن لا يتصرّف فيه إلّا بجعله صنماً؟»([1104]). إن قلت: إنّ اللام في رواية عمرو بن حريث «ليصنع»([1105]) تدلّ على الاشتراط والتواطئ. قلت: إنّ «اللام» في «ليصنع» في رواية عمرو بن حريث للغاية والعاقبة، مثل: «لدوا للموت وابنوا للخراب»([1106]) لا للاشتراط، مع أنّ اللام إنّما جاء على نقل الشيخ في التهذيب([1107])، دون نقل الكليني([1108])، فلايمكن التمسّك به للدلالة على الاشتراط. ومنها: حمل الروايات المجوّزة على التقيّـة؛ لأنّ الروايات صادرة في زمان خلفاء العبّاسي، وفي زمانهم عمل الخمر وشربه كان رائجاً، والخلفاء يشربونه، وفي منع بيع العنب لمن يجعله خمراً خوف السعاية إلى الخلفاء، فالروايات صدرت تقيّـة. ويرد عليه: أنّ حمل الروايات على التقيّـة مشكل؛ لأنّ الروايات متكفّل لبيان القاعدة الكلّيّـة، وهو قوله(علیه السلام): «إنّما باعه حلالاً في الإبّان الذي يحلّ شربه أو أكله، فلا بأس ببيعه»([1109])، ولو كان الروايات صدرت تقيّـة لكفى فيه قول الإمام(علیه السلام) بأنّـه لا بأس به، من دون احتياج إلى بيان القاعدة الكلّيّـة؛ لعدم التقيّـة فيه، كما لا يخفى. ومنها: حمل الروايات المجوّزة على ما إذا لم يعلم أنّ المشتري يجعل هذا العنب الذي يشتريه من البائع خمراً أم لا، والروايات المانعة على ما إذا علم البائع ذلك من المشتري. ولكنّ الظاهر عدم تماميّـة شيء من هذه الجموع والمحامل؛ لكونها تبرّعيّـة، والجمع التبرّعيّ لا اعتبار به. ثمّ إنّـه يظهر من سيّدنا الاُستاذ(سلام الله علیه)،([1110]) والمقدّس الأردبيلي(قدس سرّه)،([1111]) والسيّد صاحب الرياض(قدس سرّهما)([1112]) من ذهابهم إلى عدم صحّة التمسّك بهذه الروايات على إثبات جواز بيع العنب ممّن يعلم أنّـه يجعله خمراً، مع كثرتها، وصحّة سندها، وكون بعض رواتها من أصحاب الإجماع، وموافقتها لفتوى الأكثر. وذلك لمخالفتها مع الكتاب والعقل والاُصول المسلّمة والروايات المستفيضة المانعة ([1113]). ------------------- [1092]. انظر: المكاسب 1: 131. [1093]. منهم: المحقّق في شرائع الإسلام 2: 4؛ والعـلّامة في إرشاد الأذهان 1: 357؛ والشهيد في اللمعة الدمشقيّـة: 61؛ ونسبه الشيخ حسن في جواهر الكلام 22: 31 إلى المشهور. [1094]. تقدّم تخريجها في الصفحة السابقة. [1095]. انظر: المكاسب 1: 131. [1096]. انظر: المكاسب 1: 132. [1097]. تقدّم تخريجه في الصفحة: 459. [1098]. حاشية المكاسب (للسیّد الیزدي)1: 7. [1099]. تقدّم تخريجها في الصفحة: 459. [1100]. حاشية المكاسب (للسیّد الیزدي)1: 7. [1101]. مرّ في الصفحة: 455. [1102]. المكاسب المحرّمة 1: 221. [1103]. مرّ جوابه في الصفحة: 456. [1104]. المكاسب 1: 131. [1105]. تقدّم تخريجها في الصفحة: 453 و 454. [1106]. نهج البلاغة: 493، باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الرقم 132. [1107]. التهذيب 6: 373/1084، باب المكاسب، الحديث 205. [1108]. الكافي 5: 226، باب جامع فيما يحلّ البيع والشراء منه وما لا يحلّ، الحديث 5. [1109]. تقدّم تخريجها في الصفحة: 457. [1110]. راجع: المكاسب المحرّمة 1: 219. [1111]. مجمع الفائدة والبرهان 8: 49 ـ 51. [1112]. رياض المسائل 8: 53 و 54. [1113]. راجع: وسائل الشيعة 17: 223، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55.
|