|
حكم الوضعيّ في المسألة
قال الشيخ(قدس سرّه): ثمّ كلّ مورد حكم فيه بحرمة البيع من هذه الموارد الخمسة، فالظاهر عدم فساد البيع؛ لتعلّق النهي بما هو خارجٌ عن المعاملة، أعني الإعانة على الإثم، أو المسامحة في الردع عنه. ويحتمل الفساد؛ لإشعار قوله(علیه السلام) في رواية التحف المتقدّمة بعد قوله: «وكلّ بيع ملهوّ به، وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله أو يقوي به الكفر والشرك في جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به الحقّ، فهو حرامٌ، محرّمٌ بيعه وشراؤه وإمساكه»([1119]) إلخ، بناءً على أنّ التحريم مسوقٌ لبيان الفساد في تلك الرواية، كما لا يخفى. لكن في الدلالة تأمّلٌ، ولو تمّت، لثبت الفساد مع قصد المشتري خاصّة للحرام؛ لأنّ الفساد لا يتبعّض([1120]). ويمكن أن يناقش في كلامه أوّلاً: أنّ التفصيل بين تعلّق الحرمة بذات المعاملة، وتعلّقه بما هو خارج عن المعاملة، مثل الإعانة، أو المسامحة في الردع، بأنّ الحرمة في الأوّل موجب لفساد البيع وفي الثاني غير موجب له، في غير محلّه، والظاهر أنّ الحرمة مطلقاً موجب لفساد البيع. وذلك، لأنّ العقل، وإن لا يحكم بالملازمة بين حرمة المعاملة وفساده، ولكنّ العرف والعقلاء يحكمون بالتلازم بينهما وأنّ حكم المقنّن في مقام التقنين بحرمة معاملة منافٍ لحكمه بصحّته. وبعبارة اُخرى: أنّ المقنّن ـ كما قاله علماء الحقوق ـ لا يحامي ولا يعاضد من يناقص القوانين، فلا يتمّ الحكم بصحّة معاملة مع حرمتها، وإن كان حرمتها متعلّقة بما هو خارج من ذاتها؛ لكونها حماية عن الناقض للقانون والعاصي له. ولك أن تقول: إنّ عمومات العقود والتجارات وأدلّة حلّيّـة البيع منصرفة عمّا كان محرّماً منها، ولو لم تكن الحرمة متعلّقة بذات المعاملة، بل كانت متعلّقة بأمر خارج منها. وما ذكره الفقهاء من التفصيل بين تعلّق الحرمة بذات المعاملة بكونه موجبة لفسادها، دون ما كانت متعلّقة بعنوان خارج عن المعاملة، فغير موجبة لفسادها، فلعلّه كان من الخلط بين النهي التحريمي والنهي الإرشادي، وكان في إيجاب النهي الفساد نظرهم إلى النهي الإرشادي، فإنّ الأصل في النواهي المتعلّقة بالمعاملات، بل كلّ نهي تعلّق بما ليس هو مقصود بالذات، بل مقصود بالغير، الإرشاديّـة؛ ولمّا نظروا إلى النواهي الخارجة عن عنوان المعاملات، مثل النهي عن الإعانة على الإثم ورأوا أنّها تحريميّـة لا إرشاديّـة، حكموا بعدم كونها موجبة للفساد؛ لعدم التلازم بين الحرمة والفساد عقلاً. والحقّ أنّ النواهي التحريميّـة موجب للفساد مطلقاً؛ سواء كان في العبادات، أم في المعاملات، وسواء تعلّق بذات العبادة والمعاملة، أم بما هو خارج عنها؛ أمّا في العبادات فلوجود الملازمة العقليّـة والعقلائيّـة بين الحرمة والفساد وعدم إمكان التعبّد والتقرّب بالمحرّم. وأمّا في المعاملات فالملازمة العقليّـة بين الحرمة والفساد وإن لم تكن موجودة، لكنّ الملازمة العقلائيّـة ـ كما قلنا ـ موجود بينهما. وبالجملة، التفصيل بين تعلّق الحرمة بذات المعاملة، وبين تعلّقها بما هو خارج عنها، ممّا لا وجه له. وما ذكره الفقهاء (قدّس الله أسرارهم) من التفصيل لعلّه كان ناشئاً من الخلط بين النواهي الإرشاديّـة والنواهي التحريميّـة، وهذا الخلط صار سبباً للتفصيل المذكور. وقد انقدح ممّا ذكرناه، أنّ الأصل في النواهي المتعلّقة بالمعاملات، بل كلّ نهي تعلّق بما هو ليس مقصوداً بالذات، الحمل على الإرشاديّـة. وأنّ النواهي التحريميّـة مطلقاً؛ سواء تعلّق بالعبادات أم بالمعاملات، موجبة للفساد. وثانياً: أنّ رواية تحف العقول الدالّة على حرمة البيع والشراء والإمساك راجعة إلى ما يترتّب عليه الفساد الكلّي المهمّ، كالتقرّب إلى غير الله وتقوية الكفر والشرك وإهانة الحقّ، لا الفساد الجزئي، مثل شرب الخمر المترتّب على بيع العنب. وثالثاً: تأمّله في دلالة كون التحريم فيها مسوقاً لبيان الفساد، في غير محلّه؛ لأنّ الرواية وردت لسدّ باب الاكتساب بالحرام، وسدّ باب الاكتساب بالحرام يحصل بالحكم بحرمة المعاملة وفسادها، لا بالحرمة فقط؛ هذا مضافاً إلى ما قلناه من الملازمة العقلائيّـة بين الحرمة والفساد. ورابعاً: أنّ ما قاله من أنّـه لو ثبت أنّ التحريم في رواية تحف العقول مسوق لبيان الفساد، لثبت الفساد مع قصد المشتري خاصّة للحرام؛ لأنّ الفساد لا يتبعّض، مخدوش بأنّ الروايات لو تمّت دلالتها على الفساد تختصّ بما إذا قصد المشتري للحرام وعلم البائع بذلك القصد، فإنّ القول بالفساد معه لا بأس به، دون ما إذا كان البائع جاهلاً به وكان الفساد موجباً للضرر عليه، فقصد المشتري في هذا الفرض غير موجب للفساد بالعقل والنقل. أمّا العقل، فلأنّ استلزام الفساد من ناحية المشتري الفساد من ناحية البائع، بما أنّـه موجب للظلم على البائع فيما كان الفساد من ناحيته، مع عدم تقصير منه في ذلك؛ لجهله بقصد المشتري، كما هو المفروض، والظلم قبيح عند العقل، فلابدّ من عدم تحقّقه. وأمّا النقل، فلكون استلزام الفساد من ناحية المشتري الفساد من ناحية البائع أيضاً موجب لكون وزر المشتري وعصيانه سبباً للضرر والوزر على البائع، وهو منفيّ بقوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[1121]). فحديث تحف العقول، لو تمّ دلالته على فساد المعاملة مطلقاً، حتّى من ناحية البائع والضرر عليه، بما أنّـه مخالفٌ للعقل والنقل لابدّ من عدم شمول إطلاقه لمفروض البحث؛ لكونه مخالفاً لهما، فلا اعتبار به. ولك أن تقول: إنّهما قرينة على عدم الإطلاق، فالحديث ـ على الدلالة ـ لا إطلاق فيه؛ لما ذكر أوّلاً. وأنّ التبعيض في المعاملة، بأن يكون من طرف البائع صحيحاً، ومن طرف المشتري فاسداً من الممكن ثانياً؛ لأنّ صحّة المعاملة وفساده من الأحكام الجعليّـة العرفيّـة العقلائيّـة، ولامانع من أن يجعل لها الصحّة من جانب والفساد من جانب آخر؛ بمعنى أنّ ما يوجب الضرر على البائع يجب على المشتري تحمّله، وما يوجب نفع البائع يحكم بصحّته ونفوذه، وهذا نظير ما ورد في النكاح من أنّـه إذا تزوّج الرجل المرأة في عدّتها ولم يدخل بها حلّت للجاهل ولم تحلّ للآخر([1122]). ومعناه صحّة النكاح من طرف الرجل، فتأمّل، فإنّ الفقهاء (قدّس الله أسرارهم) وإن ذكروا أنّ التبعيض في النكاح الذي عليه الرواية وفي العقود مشكل، ولذا قد التجئوا إلى توجيه الرواية بوجوهٍ([1123])، ولكن على ما قلناه من صحّة التبعيض في العقود، وأنّها عقلائيّـة، فلا يحتاج إلى التوجيه والتأويل فيها، بل يؤخذ بظاهرها من التبعيض، إن لم يكن مخالفاً للإجماع. ------------------ [1119]. تحف العقول: 333. [1120]. المكاسب 1: 145. [1121]. الأنعام (6): 164. [1122]. الكافي 5: 426، باب المرأة التي تحرم على الرجل فلا تحلّ له أبداً، الحديث 2؛ التهذيب 7: 307/1276، باب من يحرم نكاحهنّ بالأسباب دون الأنساب، الحديث 34؛ الاستبصار 3: 187/679، باب من عقد على امرأة في عدّتها مع العلم بذلك، الحديث 6؛ وسائل الشيعة 20: 450، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، الحديث 3. [1123]. كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام 7: 337؛ والشيخ حسن في جواهر الكلام 29: 431؛ والسيّد الخوئي في كتاب النكاح 1: 208.
|