|
الروايات الواردة في بيع السلاح من أعداء الدين
وأمّا الكلام في الروايات الخاصّة الواردة في المسألة على نحو الإجمال هو أنّـه إن كانت الروايات موافقة للقواعد فبها ونعمت، وإن كانت مخالفة لها بالتباين، كاقتضائها جواز البيع مع خوف الفساد وهدم أركان الإسلام أو التشيّع ونحوه، أو قتل الأنفس المحترمة وهتك عرضهم وأمثاله، فضلاً عن الظنّ أو العلم بذلك، فلامناص إلّا عن تقييده أو طرحه؛ لعدم حجّيّـة المخالف للكتاب والسنّـة والاُصول المسلّمة، كما أنّـه لو دلّ على عدم الجواز فيما يخاف في تركه عليهما كذلك لابدّ إلّا من تقييده، وذلك واضح. وأمّا على التفصيل فدونك الروايات: فمنها: حسنة أبي بكر الحضرمي أو صحيحته، قال: دخلنا على أبي عبدالله(علیه السلام) فقال له حكم السراج: ما ترى فيمن يحمل السروج إلى الشام وأداتها؟ فقال: «لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، إنّكم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج والسلاح»([1130]). ورواية هند السرّاج، قال: قلت لأبي جعفر(علیه السلام): «أصلحك الله إنّي كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم، فلمّا أن عرفني الله هذا الأمر ضقت بذلك، وقلت: لا أحمل إلى أعداء الله، فقال: «إحمل إليهم، فإنّ الله يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم ـ يعني: الروم ـ وبعهم، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا، فمن حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك»([1131]). وهاتان الروايتان صارتا منشأً للقول بالتفصيل؛ تارة بين زمان الهدنة وغيره مطلقاً، واُخرى التفصيل كذلك في خصوص البيع من المخالفين والأخذ بإطلاق ما تأتي للمنع عن البيع من الكفّار([1132]). والتحقيق: أنّ الروايتين قاصرتان عن إثبات هذا التفصيل في المقامين؛ لأنّ السؤال فيهما عن حمل السلاح إلى الشام في عصر الصادقين8، وهو عصر لم تكن للشيعة الإماميّـة مملكة مستقلّة وحكومة على حدّة، بل كان المسلمون كافّة تحت حكومة واحدة، وهي سلطنة خلفاء الجور (لعنهم الله)، فلم يكن في حمل السلاح إلى الشام خوف على حوزة الشيعة وبلادهم؛ لعدم الموضوع لهما، ولهذا نزّلهم منزلة أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث كلّهم جمعيّـة واحدة تديرهم حكومة واحدة، لم تكن في تقويتها تقوية على خلاف حوزة الشيعة الإماميّـة وحكومتها؛ لعدم تشكيلهما، بل كانت تقوية للمسلمين في مقابل الكفّار، كما أشار إليه في الرواية الثانية. فلا يجوز التعدّي عن مثل تلك الهدنة التي كانت كهدنة في عصر أصحاب الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى مطلق الهدنة والسكون، كما إذا كانت لنا سلطنة مستقلّة ودولة على حدّة ولهم كذلك، وكانت بيننا هدنة وتعاقد، ومع ذلك يكون في تقويتهم فساد أو مظنّـة، بل احتماله بحيث خيف على دولة التشيّع وحكومته من ذلك. ويستفاد من تعليل الثانية، أنّ كلّ مورد يدفع عدوّ قويّ بعدوّ مأمون منه، يجوز بيع السلاح منه لدفعه. وكيف كان، لا يمكن القول بجواز بيع السلاح ونحوه من الكفّار أو المسلمين المخالفين بمجرّد عدم الحرب والهدنة، بل لابدّ من النظر إلى مقتضيات اليوم وصلاح المسلمين والملّة، كما أنّ عصر الصادقين8 كان من مقتضيات الزمان جواز دفع السلاح إلى حكومة الإسلام وجنودها؛ لمدافعة المشركين من غير ترتّب فساد عليه، وكلّما كان كذلك يجوز، بل قد يجب، فلا يستفاد منهما أمر زائد عمّا هو مقتضى حكم العقل، كما تقدّم.([1133]) ومنها: رواية محمّد بن قيس، قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أنبيعهما السلاح؟ قال: «بعهما ما يكنّهما، الدرع والخفّين ونحو هذا»([1134]). لايخفى عليك أنّ هذه الرواية تدلّ على عدم الجواز؛ لما كانت الفئتان في حال المقاتلة، فلا إطلاق فيها على عدم الجواز مطلقاً، وعلى إطلاقها حتّى فيما تكون مقاتلتهم مفيدة في دفع الهجمة على بلاد المسلمين، فإطلاقها مقيّد بما مرّ([1135]). ومنها: رواية السراد، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: قلت له إنّي أبيع السلاح، قال: «لا تبعه في فتنة»([1136]). ومنها: مكاتبة أبي القاسم الصيقل، قال: كتبت إليه إنّي رجل صيقل أشتري السيوف وأبيعها من السلطان أجائز لي بيعها؟ فكتب(علیه السلام): «لا بأس به»([1137]). إطلاقهما مقيّدتان بحكم العقل القطعي بما إذا لم يخف على حوزة الإسلام أو الشيعة، وبرواية أبي بكر الحضرمي المفصّلة بين عصر الهدنة والمباينة بالمعنى المتقدّم([1138]). هذا، مع إمكان المناقشة في الثانية بأنّها غير مربوطة بمحلّ البحث، وهو بيع السلاح بأعداء الدين، حيث إنّ مورد السؤال هو بيع السيوف من السلطان من جهة كون البيع له إعانة على الظلم، ومن جهة أنّ البائع مع بيعه السلاح من السلطان هل يدخل في أعوان الظلمة أم لا؟ وأنّى ذلك ببيعه إلى أهل الحرب والمشركين ممّن يخاف منهم الهجمة على المسلمين، وجوابه بعدم البأس به يكون شاهداً على ذلك، فإنّ سلطان المسلمين لابدّ له من السلاح، لحفظ حوزة الإسلام والمسلمين. وبالجملة، الرواية مربوطة ببيع السلاح من سلطان المسلمين، لا بيع السلاح بأعداء الدين، المورد بالبحث في المقام. وفي الاُولى بأنّ الظاهر منها، السؤال عن تكليفه الشخصيّ في ذلك العصر، ولم يكن البيع من الكفّار المستقلّين في الحكومة مورد ابتلائه، بل كان بائعاً للسلاح في داخلة مملكة الإسلام، والمراد بالفتنة هي الفتنة الحاصلة بين طائفتين من المسلمين، لا بين المسلمين وغيرهم، فإنّـه لا معنى لعدم الجواز من المسلمين في هذه الصورة، مع أنّـه في رواية السرّاج صرّح بالجواز في صورة مدافعة المسلمين عن الكفّار. وبالجملة، لا إطلاق فيها يشمل جوازه من المشركين المستقلّين في الحكومة أو المخالفين المستقلّين فيها. والإنصاف أنّـه لا يستفاد من الروايات شيء وراء حكم العقل. ثمّ إنّ الكلام في بطلان المعاملة، كالكلام في بطلان معاملة بيع العنب للتخمير، أو ممّن يعلم أنّـه يجعله خمراً، فالأرجح البطلان كما تقدّم([1139])، فلو قلنا في المقام بالصحّة فلوالي المسلمين نقض البيع حسب ما تناسب المصالح العامّة. ومنها: صحيحة عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى(علیه السلام)، قال: سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة، قال: «إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس»([1140]). هذه الصحيحة، وإن دلّت بمفهومها على عدم جواز بيع السلاح بالمشركين، لكن لا إطلاق فيها لعدم الجواز، بحيث تدلّ عليه حتّى فيما لم يخف منهم على بلاد الإسلام، أو فيما كان حمل السلاح إليهم مفيداً لدفع الهجمة على بلاد المسلمين، أو في غيرهما ممّا يكون الحكم فيها عقلاً، الجواز. وذلك، لأنّ الإطلاق في المفهوم محتاج إلى إحراز كون المتكلّم في مقام بيانه مستقلاً، وذلك غير محرز في الصحيحة. ومنها: رواية الصدوق بإسناده، عن حمّاد بن عمرو وأنس بن محمّد، عن أبيه جميعاً، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه (علیهم السلام) ـ في وصيّـة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) لعليّ(علیه السلام) ـ قال: «يا عليّ كفر بالله العظيم من هذه الاُمّة عشرة: القتات» ـ إلى أن قال: ـ «وبائع السلاح من أهل الحرب»([1141]). والحكم فيهما معلّق على أهل الحرب، والظاهر المتفاهم منهم، الجماعة المستعدّون للحرب ولم تكونوا منقادين للمسلمين، وتكون مباينة بينهم وبين المسلمين، فإنّ العناوين ظاهرة في الفعليّـة. ومعلوم أنّ أهل الحرب، أي الطغاة على المسلمين، يخاف منهم على حوزة الإسلام، أو على نفوس المسلمين أو طائفة منهم، سيّما مع قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «كفر بالله العظيم» الذي لايقـال إلّا إذا كانت المعصية معصية عظيمة. واحتمال أن يكون المراد بأهل الحرب مطلق الخارج عن الذمّة، كيهوديّ خرج عنها في بلاد المسلمين، مقطوع الفساد. ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سرّه) بعد نقل رواية أبي بكر الحضرمي، ورواية هند السرّاج، قال: وصريح الروايتين اختصاص الحكم بصورة قيام الحرب بينهم وبين المسلمين؛ بمعنى وجود المباينة في مقابل الهدنة، وبهما يقيّد المطلقات جوازاً ومنعاً، مع إمكان دعوى ظهور بعضها في ذلك، مثل مكاتبة الصيقل: أشتري السيوف وأبيعها من السلطان أجائزٌ لي بيعها؟ فكتب: «لا بأس به»([1142])، ورواية عليّ بن جعفر، عن أخيه(علیه السلام) قال: سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة؟ قال: «إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس»([1143]). ومثله ما في وصيّـة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) لعليّ(علیه السلام): «يا عليّ كفر بالله العظيم من هذه الاُمّة عشرة أصناف»، وعدّ منها: «بائع السلاح من أهل الحرب»([1144]). فما عن حواشي الشهيد من أنّ المنقول أنّ بيع السلاح حرامٌ مطلقاً في حال الحرب والصلح والهدنة؛ لأنّ فيه تقوية الكافر على المسلم، فلا يجوز على كلّ حالٍ([1145])، شبه الاجتهاد في مقابل النصّ، مع ضعف دليله، كما لا يخفى([1146]). انتهى كلامه رفع مقامه. لكنّـه قد انقدح ممّا ذكرنا سابقاً المناقشة فيما أفاده (قدس سرّه)؛ وذلك لما مرّ من أنّ مكاتبة الصيقل، ورواية عليّ بن جعفر، ورواية وصيّـة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)لعليّ(علیه السلام) ، لم تكن مربوطة بالمسألة وبيع السلاح من أعداء الدين، أوّلاً. وإطلاق المشركين شامل لحالة كونهم من أهل الحرب، وحالة كونهم في حال الهدنة والصلح، فالنهي عن حمل السلاح إلى المشركين غير موجب لظهور الرواية في اختصاص الحكم بصورة قيام الحرب بينهم وبين المشركين، كما لا يخفى، فإنّـه مخالف لذلك الإطلاق، ثانياً.
|