|
الحکم التکلیفيّ لبیع ما لیس فیه نفع معتدٌّ به عند العقلاء
المقام الأوّل في الحکم التکلیفيّ. فمقتضی الأصل فیه وإن کان هو البراءة والحلّ، لکنّـه تکلّف بعض بإقامة الدلیل علی الحرمة التکلیفيّ، وتصدّی سيّدنا الاُستاذ(سلام الله علیه) لذکر الدلیل، مع الجواب عنه، حیث قال ما لفظه: ولعلّ عدّ هذا القسم في عداد الأنواع المحرّمة؛ لإمكان التمسّك بحرمة نفس المعاملة بقوله تعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾،([1181]) بدعوى شمول الأكل بالباطل لتملّك مال الغير بلا مال في قباله، فيصدق على بيع البائع ونقله ما لا ماليّـة له إلى غيره بعوض له ماليّـة باعتبار تضمنّـه لنقل المال؛ أي العوض إلى نفسه أنّـه أكل مال المشتري؛ أعني تملّكه بالباطل، فيكون حراماً بمقتضى الآية وإمكان التمسّك بها لحرمة الثمن، لا بعنوان التصرّف في مال الغير، بل بعنوان أكل المال بالباطل، بدعوى ظهورها في أنّـه محرّم بهذا العنوان. ويمكن المناقشة في الأولى بأنّ الأكل بالباطل وإن كان كناية، ولا يراد به الأكل مقابل الشرب، لكن لا يستفاد منه إلّا سائر التصرّفات الخارجيّـة، نظير الشرب واللبس، لا مثل إنشاء البيع والصلح ونحوهما ممّا لا يعدّ تصرّفاً عرفاً، ولا أظنّ أن يلتزم أحد بحرمة إنشاء المعاملة على مال الغير مع عدم رضا صاحبه، مع وضوح حرمة التصرّف في مال الغير بلا رضاه، فشمول الآية لمثل التملّك الإنشائي ممنوعٌ. وفي الثانية بأنّ الظاهر أنّ الباطل عنوان انتزاعيّ من العناوين المقابلة للتجارة التي هي حقّ، مثل القمار والسرقة والخيانة ونحوها. فأكل المال بالقمار حرام؛ لكونه أكل مال الغير بلا سببيّـة التجارة التي جعلها الشارع ـ ولو بإمضاء ما لدی العقلاء ـ سبباً للنقل، فلا يكون حراماً تارة بعنوان كونه مال الغير الذي لم ينتقل إليه بسبب شرعيّ، وأخرى بعنوان كونه باطلاً، بل الباطل عنوان مشير إلى العناوين الأخر. نعم، نفس عنوان القمار حرام مستقلّ، وأخذ الثمن في مقابل ما لا منفعة له، حرام من جهة كونه تصرّفاً فيه بلا سبب ناقل، لا لانطباق عنوان آخر عليه حتّى يكون محرّماً بعنوانين.([1182]) لا يخفى أنّ ما قاله سيّدنا الاُستاذ من عدم تمامیّـة التمسّك بالآية الشريفة: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾،([1183]) صحيحٌ؛ لأنّ الأكل في الآية الشريفة كناية عن التصرّفات الخارجيّـة، مثل الأكل والشرب واللبس وغیرها ممّا یکون مقصوداً بالذات ورائجاً بین الناس ومنصرفاً إلیه الکنایة، ولا يشمل التصرّفات الاعتباريّـة، مثل إنشاء البيع والصلح ونحوهما؛ قضاءً للانصراف عنه بعدم الرواج في الأسواق؛ لعدم کونه مقصوداً بالذات، کما مرّ. نعم، من الممكن التمسّك للحرمة بصحیحة زید الشحّام وموثّقة سماعة عن أبي عبدالله(علیه السلام)، ففیها: «أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: من کان عنده أمانة فلیؤدّها إلی من ائتمنه علیها، فإنّـه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله، إلّا بطيبة نفسه...»،([1184]) فإنّ المقدّر فيها ليس خصوص التصرّف، بل كلّ ما يرتبط بمال الغير لا يحلّ إلّا بطيبة نفس منه؛ سواء كان أكلاً وشرباً ونحوهما، أم عقداً وإنشاء بيع أو صلح أو إجارة ونحوها ممّا لا یکون مقصوداً بالذات، ولکن مرّ انصراف عدم الحلّ عنه مع وجهه. فلا تغفل. وبعبارةٍ أخرى، كلّ ما يكون بالنسبة إلى مال الغير ظلماً وقبيحاً عقلاً فهو محرّم شرعاً. قبح الظلم عقلاً وحرمته شرعاً من المسائل الواضحة عند القائلین بالملازمة العقلیّـة ولاکلام فیه، وإنّما الکلام في مصادیقها، ومن المعلوم عدم کون محض الإنشاء والعقد علی ما لیس فیه منفعة محلّلة من دون تصرّف خارجيّ ـ کما هو المفروض في البحث ـ ظلماً عند العقلاء، فضلاً عن قبحه وعن ترتّب الملازمة علیه، والقبیح عقلاً المحرّم شرعاً هو ما یستلزمه العقد من التصرّف الخارجيّ بالنقل والانتقال. هذا أوّلاً وفیه ثانیاً: إنّ مفروض البحث خارج عن الروایة تخصّصاً؛ لکون الإنشاء والعقد من الطرفین مع طیب النفس، فکیف یکون مورداً للروایة؟ فتأمّل. ویظهر من المقدّس الأردبیلي میله بل ذهابه إلی جواز البیع في مفروض البحث، وهو بیع ما لیس فیه المنفعة المحللّة المعتدّ بها عند العقلاء، حیث إنّـه بعد کلامه واستدلاله بنحو الاحتمال علی الحرمة فیما لا انتفاع فیه کالخنافس والدیدان وغیرهما ممّا مثّل به الإرشاد([1185])بالإجماع والإسراف، وبعد بحثه عن بیع المسوخ والقرد ونقله عن المنتهی([1186]) نظر الشافعي([1187])ونظر ابن إدریس([1188])بقوله: ونقل عن الشافعي عدم جواز بیعه، أي القرد؛ للإطافة واللعب دون بیعه لحفظ المتاع والدکّان ونحوه، وعن ابن إدریس جواز بیع السباع کلّها؛ سواء کان یصاد علیها، کالفهد والهِرّة والبازي أم لا، کالأسد والذئب والدُبّ وغیرها؛ للانتفاع بجلودها، قال ما لفظه: وهو حسنٌ، والأصل فیه أنّ المنع خلاف الأصل وعموم أدلّة البیع، فکلّ موضع منع بالإجماع ونحوه، وإلّا فالجواز متوجّه. فکلّ ما یتصوّر فیه نفع محلّل شرعاً مقصوداً للعقلاء ولو کان نادراً، مثل حفظ الدکّان من القرد، والانتفاع بعظم الفیل، بل بشعور الحیوانات، والاصطیاد بها، یجوز بیعه وشراؤه؛ لعدم الإجماع علی عدم جوازه، وعدم الإسراف، وعدم دلیل آخر، خصوصاً فیما یقبل التذکیة من الحیوانات؛ للانتفاع بجلودها.([1189]) ويمكن أن يستدلّ على حرمة بيع ما لامنفعة محلّلة معتدّاً بها عند العقلاء في الجملة ـ مضافاً إلى ما ذكره المقدّس الأردبيلي ـ بوجوهٍ کلّها موردٌ للمناقشة: أحدها: أنّ بيع ما لا منفعة محلّلة معتدّة بها مع علم البائع بذلك وجهل المشتري به خدعة وتدليس، فیحرم بحرمة الخدمة. فتأمّل، فإنّـه أخصّ ممّا ادّعاه الأصحاب، فالدلیل أخصّ من المدّعی. ثانيها: إنشاء بيع ما لا منفعة محلّلة مقصودة له، والمقاولة والمساومة عليه، تضييع للعمر من دون أن يترتّب عليه منفعة، وتضييع العمر حرامٌ شرعاً. فتأمّل، فإنّـه راجع إلی حرمة اللّهو بما هو لهو، ومن المعلوم قیام السیرة والأصل علی خلافه. ثالثها: أنّ الشارع المقدّس غير راضٍ بوجود مثل هذه المعاملات بين أبناء البشر؛ لأنّها منافية لكرامة الإنسان: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾،([1190]) لکنّ الآیة لیست إلّا بیاناً للفطرة. وقد تلخّص ممّا ذکرناه عدم الدلیل علی حرمة إنشاء البیع وعقده في مفروض البحث، فمقتضی الأصل، بل وعموم أدلّة البیع والتجارة، الجواز وأنّ الحرمة مخالفٌ لهما، ولافرق في هذا بین ما کان له منفعة محلّلة ولو نادراً، وبین ما لم یکن فیه إلّا المنافع المحرّمة، هذا کلّي في الحکم التکلیفيّ، وهو المقام الأوّل. --------------------------- [1181]. النساء (4): 29. [1182]. المكاسب المحرّمة 1: 237. [1183]. النساء (4): 29. [1184]. الكافي 7: 273، باب القتل، الحديث 12؛ من لا يحضره الفقيه 4: 66/195، باب تحريم الدماء والأموال...، الحديث 1. وفيه: «لا يحلّ له»؛ وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 3، الحديث 1. [1185]. إرشاد الأذهان 1: 357. [1186]. منتهی المطلب 15: 405. [1187]. راجع: الأُمّ 3: 12؛ المجموع 9: 240. [1188]. السرائر 2: 221. [1189]. مجمع الفائدة والبرهان 8: 53. [1190]. الإسراء (17): 70.
|