|
المناقشة في حجّیّـة الروایات علی کون الغیبة من الکبائر
والمناقشة في الروايات الواردة في حرمة الغيبة وكونها من الكبائر، بأنّها بأجمعها ضعيفة سنداً، ولا تكون حجّة عليها إلّا من باب التواتر الإجمالي؛ بمعنى أنّـه من المتيقّن صدور بعضها عن المعصومين(علیهم السلام) من غير تعيين، والقاعدة فيه هو الأخذ بما هو أخصّ مضموناً، والأخصّ مضموناً من هذه الروايات ما يدلّ على أنّ إدمان الغيبة والاستمرار عليها من المعاصي الكبيرة، لا مطلق مجرّد صدور الغيبة ولو مرّة واحدة؛ وذلك لأنّ بعض هذه الروايات، وإن دلّ على كون مطلق الغيبة من الكبائر، إلّا أنّ بعضها الأخرى يدلّ على أنّ الاستمرار بالغيبة والإدمان بها من الكبائر؛ لمجيئها بصيغة المضارع الدالّة على الاستمرار، مدفوعةٌ بکون روایة هشام صحیحة،([1225]) ومرسلة ابن أبي عمیر([1226]) لیست بأدون من الصحیحة، ومعهما لا تصل النوبة إلی البحث عن التواتر الإجمالي. هذا، مع ما مرّ([1227])من دلالة آیة الغیبة علی کونها کبیرة. رابعها:([1228])ما استدلّ به الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) من أنّ الغيبة من الخيانة، حیث قال: وعدّ في غير واحدٍ من الأخبار([1229]) من الكبائر الخيانة، ويمكن إرجاع الغيبة إليها،([1230]) فأيّ خيانة أعظم من التفكّه بلحم الأخ على غفلة منه وعدم شعور؟([1231]) واستشكل عليه المحقّق الإيرواني تارة بعدم كون الغيبة من الخيانة، وأخرى بعدم الدليل من الروايات على أنّ الخيانة من المعاصي الكبيرة.([1232]) ويرد على الأوّل منهما أنّ الشيخ(قدس سره) أشار إلی الاستدلال عليه بما يرجع حاصله کون الغيبة من أفراد الخيانة، لکن باعتبار الخيانة في العرض، فإنّ الخيانة أعمّ من الخيانة في المال والعرض ولا اختصاص للخيانة بالمال؛ لعدم الدليل عليه: أنّـه لم يأت بدليل على عدم كون الغيبة من الخيانة، فکیف ادّعی الجزم بعدم کونها منها؟ وعلى الثاني منهما: بأنّ الروايات يدلّ على أنّ الخيانة من الكبائر: منهـا: کرواية فضل بن شـاذان، عن الرضا(علیه السلام) في كتـابه إلى المأمون، قال: «... واجتناب الكبائر، وهي قتل النفس التي حرّم الله تعالى، والزنا، والسرقة...، والخيانة، والاستخفاف بالحجّ، والمحاربة لأولياء الله، والاشتغال بالمعاصي، والإصرار على الذنوب».([1233]) ورواية الأعمش، عن جعفر بن محمّد(علیهما السلام) في حديث شرائع الدين، قال: «والكبائر محرّمة، وهي الشرك بالله عزّوجلّ، وقتل النفس التي حرّم الله...، والخيانة، والاستخفاف بالحجّ...».([1234]) هذا، ولكن يمكن المناقشة فيما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) في أنّ الغيبة من الخیانة، بأنّها ليست من الخيانة أوّلاً؛ لتغايرهما مفهوماً ومصداقاً، فإنّ الخيانة منوطة بوجود الأمانة، والغيبة منوطة بالانتقاص بظهر الغيب، وعرض الغير لا يكون أمانة عند المغتاب بالکسر عرفاً ولا شرعاً، لا حقيقة ولا ادّعاءً، لا موضوعاً ولا حكماً. وأنّ الخيانة في بعض الأخبار قد عدّ قسيماً للغيبة، والقسيم لا يكون قسماً لها ثانیاً. کرواية سليمان بن خالد، عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «ألا أنبّئكم بالمؤمن؟ من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم، ألا أنبّئكم بالمسلم؟ من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السيّئات وترك ما حرّم الله، والمؤمن حرامٌ على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة».([1235]) ورواية الحرث بن المغيرة، قال: قال أبوعبدالله(علیه السلام): «المسلم أخو المسلم، هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه».([1236]) خامسها:([1237]) ما روي عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)بعدّة طرق؛ منها ما عن أبي ذر: «إنّ الغيبة أشدّ من الزنا»، عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)في وصيّـة له، قال: «يا أباذر؛ إيّاك والغيبة، فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا»، قلت: يا رسول الله؛ وما ذاك بأبي أنت واُمّي؟ قال: «لأنّ الرجل يزني فيتوب إلى الله، فيتوب الله عليه، والغيبة لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها، يا أباذر؛ سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله، وحرمة ماله كحرمة دمه»، قلت: يا رسول الله؛ ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكرهه»، قلت: يا رسول الله؛ فإن كان فيه ذاك الذي يذكر به، قال: «إعلم إذا ذكرتـه بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيـه فقد بهتّه».([1238]) والزنا معصية كبيرة، فكذلك الغيبة التي أشدّ من الزنا. وفيه: أنّ الغيبة، كما بيّن في نفس الرواية، أشدّ من الزنا من جهة التوبة؛ حيث إنّ الرجل يزني فيتوب إلی الله، فيتوب الله عليه من غير احتياج إلى رضا أحد من الناس؛ لأنّها من حقوق الله تعالى، والغيبة بما أنّها من حقوق الناس، لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها، وأین هذا من الدلالة على كون الغيبة أشدّ من الزنا من جهة العذاب حتّى تدلّ على كونها كبيرة ؟ سادسها:([1239]) أنّ الغيبة ظلمٌ؛ لأنّها تعرّض وتنقيص لعرض الآخرين وهتك لحرمتهم، والظلم قبيحٌ عقلاً، وحرامٌ شرعاً؛ لقاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع، وبما أنّ حرمتها تکون من جهة أنّها ظلمٌ، والظلم کبیرة، فکذلك الغیبة التي مصداقاً له. وفيه أوّلاً: أنّ قاعدة الملازمة وإن کان تدلّ على أصل الحرمة، وأمّا كون أنواع الظلم كبيرة فلا تدلّ عليه العقل ولا الشرع، فإنّ العقل يفرّق بين أنواع الظلم، فيحكم بكونه كبيرة في بعض الموارد، وعدم كونه من الكبائر في بعضها الآخر، فربّ غيبة يوجب هتك المغتاب (بالفتح) على نحو يكون كبيرة، وغيبة أخرى لا يوجب تلك الدرجة من الهتك. وثانياً: أنّ الغيبة في بعض الأخبار قد عدّ قسيماً للظلم، والقسيم لا يكون قسماً له، مثل رواية سليمان بن خالد، عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «ألا أنبّئكم بالمؤمن من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم، ألا أنبّئكم بالمسلم؟ من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السيّئات وترك ما حرّم الله، والمؤمن حرامٌ على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة».([1240]) ورواية الحرث بن المغيرة، قال: قال أبوعبدالله(علیه السلام): «المسلم أخو المسلم، هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه».([1241]) سابعها:([1242]) قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَة لُّمَزَة * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ﴾.([1243]) وفيه: أنّـه قد مـرّ([1244]) أنّ الآيات الشريفة لا تـدلّ على حرمة الغيبة، فضلاً عن دلالتها على كونها من المعاصي الكبيرة؛ لأنّ الهمز واللمز بمعنى كثير الطعن على الغير بغير حقّ، والطعن مبائن للغيبة مفهوماً ومصداقاً، ولا أقلّ من أن يكون بين العنوانين عمومٌ وخصوصٌ من وجه، فلا تدلّ حرمة الهمز واللمز على حرمة الغيبة إلّا في المصاديق التي صدق عليه عنوان الهمز واللمز. وثانياً: أنّ الحرمة في الآية الشريفة تعلّقت بالطعن الخاصّ، وهو طعن الأغنياء للفقراء فيما يرجـع إلى طغيـان الغنيّ وتحقير الفقير وتمسخره، ويشهـد عليـه الآيـات اللاحقة عليها. هذا، ولکنّـه من آیة ﴿الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾([1245])بضمیمة الأخبار الواردة في ذیلها، کون الغیبة من الکبائر. نعم، الاستدلال کذلك، استدلالٌ بالروایة لا بالآیة، لکنّ الأمر فیه سهلٌ. والاستدلال برواية جابر علی عدم کونها کبیرة؛ لما فیها من عدم کونها کذلك، وإن کان یعذّب المغتاب، قال: كنّا مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في مسير، فأتي على قبرين يعذّب صاحبهما، فقال: «إنّهما لا يعذّبان في كبيرة، أمّا أحدهما فكان يغتاب الناس».([1246]) فمخدوشٌ أوّلاً: بالضعف في السند. وثانياً: بإعراض الأصحاب عنها، حيث إنّها كان بمرآء ومنظر المتأخّرين ولم يصدر الفتوى من أحد منهم على طبقها. وثالثاً: بعدم قابلیّتها للمعارضة مع ما دلّ من الأخبار في ذیل آیة حبّ إشاعة الفحشاء. ------------------- [1225]. البرهان في تفسير القرآن 3: 128؛ تفسير القمّي 2: 100. [1226]. الكافي 2: 357، باب الغيبة والبهت، الحديث 2؛ وسائل الشيعة 12: 280، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 152، الحديث 6. [1227]. مرّ في الصفحة 417 ـ 418. [1228]. من الوجوه المستدلّ بها علي حرمة الغيبة من الکبائر التي مرّ في الصفحة 417. [1229]. راجع: وسائل الشيعة 15: 329 و331، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 46، الحديث 33 و36. [1230]. فإنّ الخيانة مأخوذٌ في مفهومها الغدر والخديعة، ومن الواضح عدم التفات من يخان به بالخيانة وعدم شعوره والتفاته بها، وهذه النکتة بعينها موجودة في الغيبة کما أشار إليها الشيخ الأعظم في عبارته. (منه (قدس سره)). [1231]. المكاسب 1: 318 ـ 319. [1232]. لم نعثر علي الإشکال الذي نسبه الأُستاذ(قدس سره) إلي الإيرواني. [1233]. عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 133ـ 134، باب ما کتبه الرضا(عليه السلام) للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدين، الحديث 1؛ وسائل الشيعة 15: 329، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 46، الحديث 33. [1234]. الخصال: 669، أبواب الواحد إلى المائة، الحديث 9؛ وسائل الشيعة 15: 331، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 46، الحديث 36. [1235]. تقدّمت الرواية في الصفحة 408؛ وراجع أيضاً: الكافي 2: 235، باب المؤمن وعلاماته، الحديث 19؛ ووسائل الشيعة 12: 278، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 152، الحديث 1. [1236]. تقدّمت الرواية في الصفحة 408؛ وراجع أيضاً: الكافي 2: 166، باب إخوة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 5؛ ووسائل الشيعة 12: 279، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 152، الحديث 3. [1237]. من الوجوه المستدلّ بها علي حرمة الغيبة من الکبائر. [1238]. تقدّمت الرواية في الصفحة 409؛ وراجع: الأمالي (للطوسي): 537، المجلس التاسع عشر، الحديث 1؛ ووسائل الشيعة 12: 280، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 152، الحديث 9. [1239]. من الوجوه المستدلّ بها علي حرمة الغيبة من الکبائر. [1240]. تقدّمت آنفاً في الصفحة 426 وفي الصفحة 408. [1241]. تقدّمت آنفاً في الصفحة 408 وفي الصفحة 426. [1242]. من الوجوه المستدلّ بها علي حرمة الغيبة من الکبائر. [1243]. الهمزة (104): 1ـ 7. [1244]. مرّ في الصفحة 403 ـ 405. [1245]. النور (24): 19. [1246]. مجموعة ورّام 1: 116، باب الغيبة؛ مستدرك الوسائل 9: 120، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 132، الحديث 26.
|