|
الحركة العلميّة في عصره
كانت الحركة العلمية في عهده في القمّة من الحركات العلمية التي امتاز بها القرن الثالث عشر الهجري في خصوص النجف الأشرف وكربلاء، حيث ابتدأت النهضة العلمية التجدّيدية في الفقه واُصوله ـ بعد الفتور العامّ الذي أصابها في القرن الثالث الحادي عشر وأكثر الثاني عشر ـ في كربلاء على يد المؤسّس العظيم الآغا محمّد باقر الوحيد البهبهاني المتوفى سنة (1208 هـ).
وأمّا النجف فقد بقيت بعد الوحيد البهبهاني تنازع كربلاء وتشاطرها الحركة العلمية بفضل تلميذيه العظيمين السيّد مهدي بحر العلوم المتوفّى سنة (1212 هـ) والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفّى سنة (1228 هـ). إذ تحوّل قسم من الاتجاه العلمي شطر النجف بسببهما، وإن كانت كربلاء بقيت محافظة على مركزها الأول حتى وفاة المربّي العظيم المعروف بشريف العلماء، وهو الشيخ محمّد شريف المازندراني المتوفّى سنة (1245 هـ) الذي قيل إنّ حضّار درسه كانوا يبلغون ألف طالب، ويكفيه أنّ أحد طـلاّبه وتلاميذه هو الشيخ الأنصاري. وبوفاة شريف العلماء فقدت كربلاء تلك المركزية العلمية حتى اتجهت الأنظار صوب النجف لوجود الشيخ صاحب الجواهر المترجم له الذي اجتذب إليه طـلاّب العلم بفضل براعته البيانية وحسن تدريسه وغزارة علمه وثاقب فكره الجوّال وبحثه الدؤوب وانكبابه على التدريس والتأليف، ولعلّ هناك أسباباً اُخرى لهذا التحوّل، ولا يبعد أنّ من أهمّها أنّ كربلاء بالخصوص كانت عرضة للغارات السعودية وضغط الحكومة العثمانية وتعدّياتها. وعلى كل حال، فقد شهد هذا القرن وهو القرن الثالث عشر حركة علمية واسعة في كربلاء والنجف مبتدئةً بالوحيد البهبهاني، وبلغت غاية ازدهارها في عصر المترجم له في خصوص النجف، فإنّ عصره ازدهر بكبار الفقهاء وفطاحل العلماء من أساتذته وأقرانه وتلاميذه مالم يشهده أيّ عصر مضى. ويكفي أن يكون من نتاج ذلك العصر حبر الاُمّة وإمام المحقّقين الشيخ مرتضى الأنصاري المتوفّى سنة (1281 هـ) الذي أنسى الأولين والآخرين; إذ تجدّد على يديه الفقه واُصوله التجدّد الأخير، وخطا بهما شوطاً بعيداً قلّب فيه المفاهيم العلميّة رأساً على عقب، ولا يزال أهل العلم إلى يومنا هذا يدرسون على مدرسته العلمية الدقيقة ويستقون من نمير تحقيقاته، ويتغذّون بآرائه، ويتخرّجون على كتبه البارعة الفاخرة. وكان الشيخ الأعظم الميرزا حسين النائيني المتوفى سنة (1355 هـ) يفتخر بأنه من تلامذة مدرسته، وأنّ كلّ ماعنده من تحقيق ومعرفة فهو فهم أسرار آراء الشيخ الأنصاري وتحقيقاته وعرضها عرضاً مبسّطاً، وكم صرّح بهذا المعنى على منبر الدرس معتزّاً بذلك. وفي الحقيقة كان الميرزا النائيني يعدّ فاتحاً مظفّراً ومجدّداً مكمّلاً لما انقطع ـ أو كاد ـ من المنهج البحثي للشيخ، وهو وتلاميذه يعتزّون بهذه الصلة والانتساب العلمي بالشيخ. أجل، لقد ازدهر عصر الشيخ صاحب الجواهر بالعلم والعلماء والطـلاّب، فازدحمت النجف يومئذ بروّاد العلم من كلّ حدب وصوب لاسيّما من إيران، وبلغت القمّة في رواج العلم فيها. ومردّ ذلك ـ فيما أعتقد ـ هو الاستقرار السياسي وفترة السلم التي سادت في البلاد الإسلاميّة يومئذ، لاسيّما بين الدولتين العثمانيّة والإيرانيّة اللتين كانتا يتطاحنان ويتصارعان للتغلّب على العراق مدّة قرنين تقريباً، انهكت فيها الاُمة العراقيّة أيّما إنهاك وتأخّرت تأخراً أفقدها كلّ حيوية، فسادها الوباء والجهل والفقر وأنواع الأمراض الفتّاكة. وابتدأت الهدنة بين الدولتين قبيل عصره، وذلك في اُخريات أيام الشيخ جعفر كاشف الغطاء; إذ سافر إلى إيران بقصد إطلاق سراح أسرى جيوش الحكومة العثمانيّة بعد موقعة حربية سنة 1221 هـ توغلت فيها إلى حدود إيران، ففشل الجيش العثماني واُسر أكثره، فاستطاع الشيخ كاشف الغطاء أن يقنع شاه إيران فتح علي شاه وابنه ميرزا محمّد علي قائد الجبهة بالعفو عن الأسرى وإرجاعهم إلى حكومتهم بعد أن فشلت كلّ الوسائط التي استعملتها الحكومة العثمانيّة. فكان الصلح بعد ذلك بين الدولتين على يد مصلح الدولتين العظيم الشيخ موسى نجل الشيخ كاشف الغطاء المتوفى سنة (1241 هـ)، وفتح الباب واسعاً أمام الهجرة الإيرانيّة إلى العتبات المقدّسة، وأمام الأموال التي كانت ترسل لتعمير العتبات وصيانتها وعلماء الدين ومراجع التقليد، فزاد ذلك في نشاط الحركة العلمية لاسيّما أنّها كانت تحظى بتشجيع شاه إيران بتقديره للعلماء تقديراً منقطع النظير، وكفى من تقديره الحفاوة البالغة التي لاقاها الشيخ كاشف الغطاء في إيران، وقبول وساطته في أعظم أمر كان يحرص عليه الشاه، وهو الاحتفاظ بأسرى الترك تأديباً للحكومة العثمانيّة، لاسيّما قائد الجيش كهيا سليمان باشا إبن أخ والي بغداد يومئذ علي باشا. وبلدة النجف ـ مع كلّ هذا ـ أصبحت في ذلك العهد في أمان من الغارات الوهّابيّة التي كانت لاتنقطع والتي كانت تهدّد النجف وكربلاء دائماً، بعد أن فشلت الغارة الأخيرة لهم سنة (1221 هـ) على النجف باُعجوبة ومعجزة وقد بيّتوها على حين غرّة. نعم، قد أصبحت النجف في أمان من الغارات بسببين: الأوّل: تسليح أهلها لاسيّما علماء الدين بأمر وإشراف الشيخ كاشف الغطاء، فإنه جلب لهم السلاح الكافي الرائج يومئذ وأمر بتدريبهم عليه، فكانوا يخرجون خارج البلد كلّ يوم للتدريب، وبسبب هذا قُتل خطأً شقيق صاحب الجواهر كما تقدّم. وكان حمل السلاح والتدريب عليه فرضاً دينياً للدفاع حتّى إنّه قد ألّف السيّد الجليل صاحب «مفتاح الكرامة» السيّد جواد العاملي المتوفّى سنة (1226 هـ) رسالة في وجوب الذبّ عن النجف، وهو أحد تلامذة كاشف الغطاء المبرّزين واُستاذ صاحب الجواهر، كما أنّ الشيخ كاشف الغطاء شجّع طـلاّب العلم على الرياضة الدارجة في ذلك العصر، وصنع (زورخانة) في نفس داره. وإن كان تسليح النجف قد اُسيء استعماله بعد ذلك بوقوع الفتن بينهم لاسيّما فتنة «الشمرت والزكرت» المعروفة التي امتدّت زمناً طويلاً مدّة قرن تقريباً، ولا تزال آثارها باقية في التحزّبات النجفيّة إلى اليوم وإن بدأت تتضاءل على مرّ الزمن. الثاني: بناية سورها الأخير والخندق حوله الذي أنفق عليه مبالغ خيالية طائلة في ذلك العصر الصدر الأعظم نظام الدولة جدّ اُسرة آل نظام النجفيّة. ويومئذ كان وزيراً لفتح علي شاه، وقد تمّ بناؤه سنة (1226 هـ) أي قبل وفاة الشيخ كاشف الغطاء بسنتين، فصارت النجف بسببه قلعة حصينة لاتستطيع أيّة قوّة في ذلك العصر أن تقتحمها، وبسببه استطاعت أن تقاوم الجيوش البريطانيّة أكثر من شهر في حصار النجف المعروف سنة (1336 هـ). وإذ اطمأنّت النجف على سلامتها من عادية الوهّابيّين من جهة وعادية الحكومة العثمانية من جهة اُخرى ـ لاسيما بعد وساطتها وتأثيرها لدى الحكومة الإيرانيّة كما سبق، ورعاية الحكومة الإيرانية لها ـ ابتدأت حياة الاستقرار والاطمئنان فيها تزدهر عند سكّانها والمهاجرين إليها، ونشطت فيها أيضاً ـ تبعاً لذلك ـ الحياة الاقتصادية، ونشط العمل لجلب المياه من الفرات إليها بشتّى الوسائل. إنّ كلّ تلكمُ الأسباب اجتمعت في عصر صاحب الجواهر بالذات أكثر من كلّ عهد مضى، فزادت الهجرة إليها من أهل العلم زيادة ملحوظة، وانصرف أهل العلم إلى التحصيل والجدّ والدرس والتدريس والتأليف. فلذلك كان نشاط الحركة العلمية في ذلك العهد في القمّة. وإلى جانب ذلك نشطت الحركة الأدبية أيضاً نشاطاً لم تعهده البلاد الإسلامية كلّها بعد القرن الخامس الهجري، فنبغ في القرن الثالث عشر في النجف والحلّة أيضاً شعراء هم في الدرجة الاُولى من الشعر العربي، وكانوا في الطليعة من شعراء كافّة العصور الإسلامية كشعراء آل الأعسم وآل محيي الدين وآل النحوي والشيخ عبّاس المـلاّ علي، ثم طبقة السيّد حيدر الحلّي والشيخ محسن الخضري والسيّد جعفر الحلّي ومن إليهم ممّن جاء تلوهم من طبقة المجاهد الحجّة السيّد محمّد سعيد الحبّوبي والسيّد إبراهيم بحر العلوم الذين كانوا من نوابغ القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ولا شكّ أنّ نشاط الحركة الأدبيّة كان من نتائج ازدهار النجف بالعلم والعلماء، واستقرارها من نواحي الأمان والحياة الاقتصاديّة، فكثرت محافلها ومجالسها، والمباريات الأدبيّة، وتوطّدت فيها البيوت العلميّة وتوطّنت. وجميع هذا ممّا ساعد على ظهور نوابغ في العلم هم في جبين الدهر غرّة بيضاء مشرقة وفي صفحات القرون صفحة مليئة بالمعرفة مرصوفة بالآثار العلميّة القيّمة. ونكرّر أنّه كان في القمّة من هذه الحركة العلمية صاحب الجواهر وكتابه، وكان عهده أيضاً كذلك، وذلك من ناحية إقبال الناس على تحصيل العلم وكثرة الطـلاّب، حتّى قيل: كان مجلس بحثه يضمّ أكثر من ستّين مجتهداً من المعترف لهم بالفضيلة. وقد تخرّج على يديه من أعلام الدين مايفوت الحصر، واستمرّ هذا الارتفاع في الأرقام العلميّة للمؤلّفات والعلماء حتّى القرن الرابع عشر الذي ورثنا فيه ذلك المجد العلمي والأدبي. ولولا الوباء الكاسح الذي كان ينتاب العراق والنجف بالخصوص بين آونة واُخرى، ولولا فتنة الشمرت والزكرت التي استفحلت بالنجف في تلك العهود وصارت سبباً لقلق السكّان الدائم وخطراً على الأرواح والأموال وكرامة الناس لكان للنجف شأن آخر لم يحلم به المقدّر.
|