|
تمهيد في فضل الحجّ وأسراره
تمهيد
في فضل الحجّ وأسراره قبل الورود في مباحث فقه الحجّ رأينا من المناسب الاشارة إلى الجوانب غير الفقهية من الحجّ وهي فلسفة الحجّ وأسراره وفضله التي نحصل من خلالها على الأهداف السامية لشريعة الإسلام المقدّسة، فإننا حينئذ لن نسمح لأنفسنا بالإكتفاء في أداء مراسيم شكليّة وأعمال جافّة تنقصها المعنوية المطلوبة، فنشهد سنوياً هدر كثير من الطاقات والإمكانات دون النهل من المعطيات العظيمة التي تزودنا بها هذه المراسيم الجليلة. لم يتعرض جلّ الفقهاء لهذه الجوانب في رسالاتهم الفقهية وذلك رعاية لجانب الاختصاص في الكتابة، إلاَّ أنا وجدنا المناسب الاشارة إليها ولو إجمالاً في هذه الرسالة الملحقة للاستفاضة والنهل منها تمهيداً للدخول في البحث، راجين من اللّه القبول. لجنة التحقيق إعلم أنّ الحجّ هو أكبر الفرائض الإسلاميّة، وأعظم شعار للدين، وهو ركن من أركان الإسلام، وأفضل ما يتقرّب به الأنام إلى الملك العـلاّم. لما فيه من إذلال النفس وإتعاب البدن، وهجران الأهل والتغرّب عن الوطن، ورفض العادات وترك اللذات والشهوات، والمنافرات والمكروهات، وإنفاق المال وشدّ الرحال، وتحمّل مشاقّ الحلِّ والإرتحال ومقاساة الأهوال، والابتلاء بمعاشرة السفلة والأنذال، فهو حينئذ رياضة نفسانيّة وطاعة ماليّة، وعبادة بدنيّة، قوليّة وفعليّة، وجوديّة وعدميّة، وهذا الجمع من خواص الحجّ من العبادات التي ليس فيها أجمع من الصلاة، وهي لم تجتمع فيها ما اجتمع في الحجّ من فنون الطاعات. الحجّ هو زيارة بيت اللّه الحرام، البيت الذي يبدو وكأنّه يُعبد كما تلوح به الأعمال في الحجّ، ومثابة للنّاس وأمناً وقبلةً يتوجّه نحوها الجميع في عباداتهم. فالحجّ شعبة من جنّة الرضوان، والطريق المؤديّ إلى غفران اللّه، ومجمع عظمته وجلاله، وأوّل بقعة خلقت في الأرض. عن الصادق(عليه السلام) قال: الحاجّ والمعتمر وفد اللّه، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن شفعوا شفّعهم، وإن سكتوا ابتدأهم، ويعوّضون بالدرهم ألف درهم([5]). وعن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: الحاجّ إذا دخل مكّة وكّل اللّه به ملكين يحفظان عليه طوافه وصلاته وسعيه، فإذا وقف بعرفة ضر ب أعلى منكبه الأيمن، ثمّ قال: أمّا مامضى فقد كفيته، فانظر كيف تكون فيما تستقبل([6]). ومن الأخبار أيضاً: «إنّ الحجّ المبرور لايعدله شيء ولا جزاء له إلاّ الجنّة»([7]) و«أنه أفضل من عتق سبعين رقبة»([8])، بل قال أبو الحسن(عليه السلام) في خبر محمّد بن مسلم: «من قدم حاجاً حتى إذا دخل مكّة دخل متواضعاً، فإذا دخل المسجد قصّر خطأه من مخافة اللّه عزّ وجل فطاف بالبيت طوافاً وصلّى ركعتين كتب اللّه له سبعين ألف حسنة، وحطّ عنه سبعين ألف سيئة، ورفع له سبعين ألف درجة، وشفّعه في سبعين ألف حاجة، وحسب له عتق سبعين ألف رقبة، قيمة كلّ رقبة عشرة آلاف درهم»([9]). وفي خبر معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام): «إنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لقيه، أعرابي فقال له: يارسول اللّه إني خرجت أُريد الحج ففاتني وأنا رجل ميّل([10])، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاجّ، فالتفت إليه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) فقال: أُنظر إلى أبي قبيس، فلو أنّ أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل اللّه مابلغت مايبلغ الحاجّ، ثم قال: إنّ الحاجّ إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلاّ كتب اللّه له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفّاً ولم يضعه إلاّ كتب اللّه له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، قال: فعدّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاجّ خرج من ذنوبه، ثم قال: أنّى لك أن تبلغ مايبلغ الحاجّ، قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر وتكتب له الحسنات إلاّ أن يأتي بكبيرة»([11])، وقال الصادق(عليه السلام): درهم في الحجّ أفضل من ألفي درهم فيما سوى ذلك في سبيل اللّه([12]). وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «أما إنّه ليس شيء أفضل من الحجّ إلاّ الصلاة، وفي الحجّ ههنا صلاة، وليس في الصلاة قبلكم حجّ»([13])، بل روي: «أنّ الحجّ أفضل من الصلاة والصيام; لأنّ المصلّي إنمّا يشتغل عن أهله ساعة، وإنّ الصائم يشتغل عن أهله بياض يوم، وإنّ الحاجّ يشخص بدنه، ويضحّي نفسه وينفق ماله، ويطيل الغيبة عن أهله لا في مال يرجوه ولا إلى تجارة»([14])، وقد تطابق العقل والنقل([15]) على أنّ أفضل الأعمال أحمزها([16])، وأنّ الأجر على قدر المشقة، بل يستحب إدمان الحج([17]) والإكثار منه وإحجاج العيال ولو بالاستدانة([18]) أو تقليل النفقة كما دلت عليه المعتبرة المستفيضة وليس ذلك إلاّ لعظم هذه العبادة، ويكفي لفاعلها إنّه يكون كيوم ولدته اُمّه في عدم الذنب([19]). نعم ينبغي المحافظة على صحّة هذه العبادة المعظّمة أوّلاً بتصحيح النيّة. لأنّ الحجّ موضوع على الإعلان، ومعدود في هذه الأعصار من اسباب الرفعة والافتخار والأُبّهة والاعتبار، بل هو ممّا يتوصّل به إلى التجارة والانتشار ومشاهدة البلدان والأمصار، والاطلاع على أحوال الأماكن والديار، فيخشى عليه من تطرّق هذه الدواعي الفاسدة المبطلة للعمل في بعض الأحوال، ولا خلاص من ذلك إلاّ بالاخلاص، ولا إخلاص إلاّ بالخلوص من شوائب العجب والرياء، والتجرّد عن حبّ المدح والثناء، وتطهير العبادات الدينيّة عن التلويث بالمقاصد الدنيويّة، ولا يكون ذلك إلاّ بإخراج حبّ الدنيا من القلب، وقصر حبّه على حبّ اللّه تعالى، ويكون ذلك هو الداعي إلى العمل، وهو ملاك الأمر ومدار الفضل، والطريق العلمي إليه واضح مكشوف، ولكن عند العمل تسكب العبرات وتكثر العثرات، ولاستدامة الفكر في أحوال الدنيا ومآلها ومزاولة علم الأخلاق الذي هو طبّ النفس وعلاجها نفع بيّن في ذلك وتأثير ظاهر. كما أنّه ينبغي التفقّه في الحجّ، فإنه كثير الأجزاء جمّ المطالب وافر المقاصد، وهو مع ذلك غير مأنوس وغير متكرّر، وأكثر الناس يأتونه على ضجر وملالة سفر، وضيق وقت وإشتغال قلب، مع أنّ الناس لايحسنون العبادات المتكرّرة اليوميّة مثل الطهارة والصلاة مع الفهم لها ومداومتهم عليها وكثرة العارفين بها، حتى أنّ الرجل منهم يمضي عليه الخمسون سنة وأكثر ولا يحسن الوضوء فضلاً عن الصلاة، فكيف بالحجّ الذي هو عبادة غريبة غير مألوفة، لاعهد للمكلف بها مع كثرة مسائلها وتشعب أحكامها وكونها أطولها ذيلاً، وخصوصاً مع انضمام الطهارة والصلاة إليها; لشرطيّة الأولى وجزئيّة الثانية، فإن الخطب بذلك يعظم، قال زرارة: «قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): جعلني اللّه فداك، أسألك في الحجّ منذ أربعين عاماً فتفتيني، فقال: يازرارة، بيت حُجّ إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تفني مسائله في أربعين عاماً»([20])، إلاّ أنه يلوح من الخبر المزبور عدم اعتبار استقصاء مسائله، بل هو غير مقدور، ولكن لابد من معرفة فروض المناسك. -------------------------------------------------------------------------------- ([5]) الكافي 4: 255، ح 14، التهذيب 5: 24، ح71، الوسائل 11: 99، أبواب وجوبه وشرائطه، ب38، ح 14. ([6]) ثواب الأعمال 71: 6، المحاسن 63: 112، الوسائل 11: 103، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب 38، ح32. ([7]) مستدرك الوسائل 8: 41، ح24. ([8]) وهو مضمون مارواه في الكافي 4: 260، ح31، الوسائل 11: 120، أبواب وجوب الحج وشرائطه 43، ح3. ([9]) ثواب الأعمال 72: 12، الوسائل 11: 121، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب 43، ح6. ([10]) الميّل: الرجل الكثير المال (القاموس المحيط ـ مول ـ 4/52). ([11]) التهذيب 5: 19، ح 56، المقنعة: 61، الوسائل 11: 113، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب 42، ح1. ([12]) التهذيب 5: 22، ح62، الوسائل 11: 114، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب 42، ح 3 و6. ([13]) الكافي 4: 253، ح7، الوسائل 11: 110، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب41، ح2. ([14]) الفقيه 2: 143، ح626، الوسائل 11: 112، أبواب وجوبه وشرائطه، ب 41، ح5. ([15]) النهاية لابن الأثير في مادّة «حمز» وفي الكافي 4: 199، في خطبة لأمير المؤمنين(عليه السلام)قال: «وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل». ([16]) عوالي اللئالي 1: 320، بحار الأنوار 67: 191. ([17]) الكافي 4: 542، ح9، الوسائل 11: 125، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب 45، ح9 و10 و13. ([18]) التهذيب 5: 441/1532، الاستبصار 2: 329/1168، الوسائل 11: 140، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب 50، ح1 و3 و9. ([19]) الكافي 4: 253/6، التهذيب 5: 21/59، الوسائل 11: 93، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب 38، ح2. ([20]) الفقيه 2: 306، ح 1519، الوسائل 11: 12، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب1، ح12.
|