|
1 ـ الآيات القرآنية
الآية الأولى: آية تجنب لهو الحديث
جرى التمسّك ـ في سياق أدلّة حرمة حفظ كتب الضلال ـ بالآية السادسة من سورة لقمان; حيث تقول: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)([29]). فقد جاءت هذه الآية في كلمات الشيخ الأنصاري بوصفها دليلا على الحرمة هنا، ولعلّه يمكن القول: إن عمدة الدليل، والدليل العمدة، على حرمة حفظ كتب الضلال هو هذه الآية الشريفة، مع الأخذ بعين الاعتبار شأن نزولها في ابن الحارث الذي سعى للسفر إلى إيران في عهد النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)لتهيئة كتب الأساطير وإعادة إنتاجها في الوسط العربي في الجزيرة العربية، هادفاً بذلك الوقوف بوجه هداية القرآن الكريم([30]). كيفية الاستدلال، وقفة نقدية تقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة ـ بصورة إجمالية ـ هو أنها جعلت شراء لهو الحديث والكلام الفارغ الخالي من الفائدة والأساس، لأجل الإضلال موجباً لاستحقاق العذاب، والشراء هنا يعني مطلق السلطة والاستيلاء المنجر إلى الضلالة، وفي نهاية المطاف، أي كتاب مشتمل على موضوعات باطلة، ويكتب بهدف إضلال الآخرين يستدعي عذاباً من هذا النوع، وحفظه حرام ومبغوض عند الله تعالى. ولتشريح الاستدلال هنا نحتاج لتفسير وتحليل بعض المفردات الواردة في الآية الشريفة: أ ـ «اشتراء»: وتعني الشراء، لكن لا شك أنه لا خصوصية للشراء هنا; لأن ملاك الذم هو مطلق السلطنة (الإضلال) التي تكون في جهة الضلال، والشاملة لكل نشاط يضع بين يدي الإنسان «لهو الحديث»، ولا أهمية ـ مع الغرض ـ لكيفية إدارة المضلّ لحركة الإضلال ووسائله. ب ـ «لهو الحديث»: تعني هذه الكلمة ـ كما جاء في التفاسير ـ الكلام الباطل، والغناء أيضاً، والمقصود منها هنا ـ مع الأخذ بعين الاعتبار أسباب النزول ـ هو الأساطير والكلام الذي لا أساس له([31]). ج ـ «ليضل»: وهي مضارع باب الإفعال، وهي ظاهرة في حصول الإضلال عن قصد وإرادة مسبقين، بمعنى أن يشتري شيئاً أو يوفر كلاماً باطلا بقصد إضلال الغير، واللام في (ليُضل) هي لام التعليل أو الغاية، وكلاهما يعنيان قصد الفاعل وإرادته. وعليه; فإذا صنّف شخص كتاباً لا بهدف الإضلال، بل بقصد الهداية، حتى لو التبس الأمر عليه في التحديد الميداني للقضية، فهو جاهل قاصر، وليس مشمولا لعنوان: «من يشتري لهو الحديث ليضل»; وبهذا القيد تخرج عن شمول التعليل الموجود في الآية تمام الكتب الاستدلالية التي ألّفت لتحكيم وتوثيق النظريات والأسس، ولم يكن غرض المؤلف منها الإضلال. بل إن ضرورة تحقق الإضلال ـ من جهة أخرى ـ ثابتة أيضاً هنا; إذ في غير هذه الحال لن يكون فعل الفاعل سوى تجرياً على المولى، الأمر الذي يدرجه في القبح الفاعلي لا الفعلي. د ـ «سبيل الله»: يرى العلامة الطباطبائي أن سياق الآية يستدعي أن يكون المراد من «سبيل الله» هو القرآن الكريم([32]). وتعبير «سبيل الله» في هذه الآية عند ملاحظة شأن النزول في مورد القرآن الكريم، يعني تلك الضلالة التي تواجه القرآن الكريم وتقابل طريق الأنبياء والنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) والإسلام، فهنا يجب مواجهة هذه الضلالة وإخراجها من حلبة الصراع; لأن تطهير العقول من صدأ الخرافات يظل أمراً ضرورياً للإرشاد إلى سبيل الله، برفع الحوائل التي يضعها المضلّون لمنع وصول إشعاعات النور القرآني وإشراقاته، وهذا هو ما تعطيه الآية الشريفة. إن ما يستبطنه هذا القيد في الآية يتناسب مع تبريرات وتفسيرات حكم العقل بلزوم قلع مادة الفساد، مما سنبيّنه لاحقاً بعون الله. هـ ـ «بغير علم»: توهّم بعضهم أن المقصود من «بغير علم» أن يصدر هذا الفعل من فاعله عن جهل، فتترتب عليه أحكام من يفعل الفعل عن علم، غافلا هذا البعض عن عدم إمكانية توجّه الخطاب للجاهل، أو أن الحرمة لا تكون منجزةً في مورده، ولا يقبل أن يرد عليه عنوان (عذاب مهين); لأن تكليف الجاهل تكليفٌ بما لا يطاق، ومعاقبته لا يمكن الجمع بينها وبين قبح العقاب بلا بيان، وهذا كلام برهاني لا يقاومه أي نصّ أو ظهور يقدّم مفهوماً آخر، وكما يقال: «النص لا يقاوم البرهان». من هنا، فلابدّ من البحث عن تفسير آخر; والذي يبدو لنا أن قيد «بغير علم» يعني بدون وعي، بل عن هوى وسفاهة، حيث يقدم الفاعل على إضلال الناس منطلقاً من سفاهته وهواه وميوله، بل إن هذا المعنى الذي قدّمناه أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية. و ـ «يتخذها هزواً»: المراد بهذه الكلمة، السخرية بسبيل الله; بحيث يكون هدف الفاعل من (لهو الحديث) الإنقاص من مكانة القرآن المجيد حتى يضعه إلى جانب كتب الأباطيل والأساطير والخرافات; ومثل هذا الشخص يستحق العذاب بلا نقاش، كما أن عمله هذا سيكون حراماً. ونستنتج مما تقدم أن هناك شرطاً آخر ـ غير كون الفعل مستهْدَفاً منه إضلال الآخرين ـ وهو أن يكون الغرض السخرية والاستهزاء بالقرآن الكريم ومنهج النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في هداية البشر. ز ـ «لهم عذاب مهين»: تعدّ هذه الجملة من القرائن الدالة على لزوم حصول القصد والدافع من الفاعل; فإن العقل عندما يرى في بعض الأفراد عدم وجود مسوّغ لمجازاتهم وإنزال العقاب بهم، فإن موقفه هذا سيجعل هذه الفقرة في آخر الآية قرينةً وشاهداً على خروج هؤلاء عن دائرة الدلالة حتى لو كانت الفقرات السابقة ـ بعمومها أو إطلاقها ـ تستوعب هؤلاء الأفراد، وهذا معناه أنه لو استظهر من بعض كلمات الآية الكريمة مثل: (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) شمول العذاب لكل من يشتري هذه الكتب، مهما كان هدفه وقصده، وسواء كان ذلك منه عن علم وإدراك لما يفعل أم لم يكن... إلاّ أن ملاحظة قاعدة قبح العقاب بلا بيان تعطينا حصراً للعذاب بمن يقدم على الفعل عن معرفة وقصد، فإذا لم يهدف بفعله هذا الإضلال والاستهزاء، وإنما أراد تقديم الفوائد من شرائه وبيعه وحفظه هذا النوع من الكتب... فمثل هذا الشخص لا يكون مشمولا للإطلاق أو العموم المختزن في الآية الشريفة. وبعد دراسة فقرات هذه الآية الشريفة، يظهر من مجموع ما تقدم أن القيود المذكورة في الآية ومناسبات الحكم والموضوع والمتفاهم العرفي منها ... تدلّ بأجمعها على حرمة حفظ «لهو الحديث» بأنواعه، وكذلك تعليمه، وتعلّمه، ونشره، وهو كل كتاب باطل أعدّ لإضلال الناس. وقد نقول: إنه لا خصوصية لعنوان «لهو الحديث»، لكن قيد (ليضلّ) يعدّ غايةً وتعليلا مسبباً لاستحقاق العذاب; من هنا فالكتب التي تتصف ـ فقط ـ بأنها من «لهو الحديث»، إلا أنها لم توضع في سياق الإضلال عن «سبيل الله»، لا يلحقها حكم الحرمة، تماماً كما يرى العلامة الحلي من أن كتب الأمثال والحكايات المشمولة لسبب نزول الآية، جائزةً وليست بحرام; حيث يقول: «لا بأس بالأمثال والحكايات وما وقع وضعه على ألسُن العجمات»([33]). يضاف إلى ذلك، أن الكاتب يجب أن يكون قصده من وراء الكتاب إضلال الناس; إذ لو كان الملاك هو الوقوع الخارجي للإضلال، دون أيّ تدخل لغرض حافظ الكتاب; فإن الكثير من الكتب الفلسفية المحتوية على مضامين عالية، ستندرج في دائرة كتب الضلال، إذ بعضها مضلّ فعلا، بل قد ندخل القرآن الكريم ـ نعوذ بالله ـ في هذه الدائرة أيضاً; لأنه يوجب الضلالة لمن يواجه مشكلةً في فهمه; مع أن القرآن جاء لهداية الإنسان، قال تعالى: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)([34])، لكن في بعض الأحيان قد يكون القارئ أو السامع ضعيفاً في الفهم والاستيعاب، إلى جانب وجود مناخ محيط به، قد يلعبان ـ ضعف الفهم ووجود المناخ ـ دوراً في حرف فكره; فيما مؤلّف الكتاب يعتبرها جزءاً من أغراضه الرئيسة، وعلى سبيل المثال، استند بعضهم إلى قوله تعالى: (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ...)([35]) للحكم بجواز اغتيال بعض الشخصيات، مثل شهداء المحراب، أو ما حصل في تاريخ الإسلام من التمسّك بآية: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِِ)([36])، في مقابل القرآن الناطق: علي(عليه السلام)، حيث قال(عليه السلام) حول هذه الآية: «كلمة حق يراد بها الباطل»([37])، كما أنه تم الأخذ بآية: (رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)([38])، للحكم بقتل شيعة علي(عليه السلام)، بل وممارسة ذلك; لأن الخوارج كانوا يعتبرون أن أتباع الإمام علي(عليه السلام)صاروا كفاراً بقبولهم التحكيم. الآية الثانية: آية اجتناب قول الزور قال سبحانه: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الاَْوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)([39]). استند الشيخ الأنصاري([40])، والمحقق النجفي([41])، وغيرهما، إلى هذه الآية; لإثبات حرمة كتب الضلال، وذلك باعتبار هذه الكتب من مصاديق قول الزور المأمورين بالاجتناب عنه. يقول صاحب الجواهر: «يستفاد حرمته أيضاً مما دلّ على وجوب اجتناب قول الزور». وحيث يرى الشيخ الأنصاري أن ترتب الإضلال خارجاً ركنٌ أساس في حرمة كتب الضلال، لم يرَ الاستدلال بهذه الآية الكريمة صحيحاً، وهي التي فسّرت بالقول الباطل والعادات الخرافية التي كانت بين العرب في الجزيرة، كما يقرّ بذلك المفسّرون([42])، من هنا اعتبر الأنصاري أن التمسك بهذه الآية لإثبات الحرمة هنا، تمسّـكٌ بدليل أخص من المدّعى، إذ حتى لو قبلنا بتفسير الزور بمعنى (الباطل)، وعنونة كتب الضلال بعنوان الباطل، إلا أن قول الزور عنوانٌ يشمل بعض الباطل، ولا يستوعب النصوص والمصنفات المكتوبة. وإذا رأينا أن الاجتناب عن «القول الباطل» يستوعب الاجتناب عن «المكتوب الباطل»، فإنه مع ذلك يظل الأمر مختصاً بإنتاج أثر فكري باطل أو قبوله والأخذ به، ولا يشمل حفظه ورعايته. أما على نظرية صاحب الجواهر في تفسير الضلال، فنحن ـ إضافة إلى الإشكالات المتقدمة ـ مضطرون لتوسعة دائرة الحرمة إلى حدّ لا يمكن لأيّ فقيه الالتزام به. الآية الثالثة: آية الافتراء والكذب على الله تعالى قال تعالى: (انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً)([43]). استدلّ صاحب الجواهر([44]) ـ فيما استدلّ هنا ـ بهذه الآية الكريمة، لكن طريقة الاستدلال غير واضحة; ولعلّ المراد أن كتب الضلال من مصاديق «الافتراء على الله» مما يعني أنه يجب اجتنابها. وفي هذه الحال يرد عليه: أن هذه الآية ـ كسابقتها ـ في مقام الحديث عن إيجاد القول الزور والافتراء على الله، أي هي نهي عن إحداث الكذب عليه سبحانه. أما لو وقع هذا الكذب أو الافتراء فماذا نفعل معه؟ هل نحرقه بالنار أم نحفظه عندنا؟ فهذا ما يسكت عنه هذا الدليل. الآية الرابعة: آية النهي عن النسبة إلى الله سبحانه قال تبارك وتعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ)([45]). استدلّ بهذه الآية أيضاً صاحب الجواهر منفرداً بذلك([46])، وكيفية الاستدلال هنا كحال الاستدلال بالآية السابقة، غير مبيّن ولا واضح، ولعلّ مقصوده أن الوعيد الذين جاء في الآية عذاباً لمن يكتب كتب الضلال، يدلّ على مبغوضية هذه الكتابات، الأمر الذي يؤدي ـ في نهاية المطاف ـ إلى تحريم حفظ هذه الكتب ورعايتها. والجواب عن هذا الاستدلال واضح أيضاً; لأن العذاب المتوعّد به من نصيب الكاتب الذي يكتب كتب الضلال ناسباً إياها إلى الله تعالى، مثل كتب التوراة والإنجيل المحرّفة، فإن المحرّفين ينسبون كلماتهم إلى الله سبحانه، ووفقاً لذلك نكون قد اتبعنا ـ في تحليلنا ـ نظريةَ صاحب الجواهر نفسه في تفسير الضلال والضلالة. أما في حالة عدم نسبة كاتب الكتاب هذا الكتاب إلى الله تعالى، فإن الآية لم توضح حكمه، بل هي ساكتة عن هذا الموضوع، وبتعبير آخر مصطلح: ليست الآية في مقام البيان من هذه الناحية; وبهذا اتضح ـ أيضاً ـ عدم إمكانية الأخذ بنظرية صاحب الجواهر في تفسير الضلال. الآية الخامسة: آية حرمة الإعانة على الإثم قال عزّ من قائل: (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ)([47]). يعدّ النهي عن التعاون على الإثم أحد الأدلّة الأخرى التي استند إليها لتحريم حفظ كتب الضلال، وذلك بتقريب أن معصية الإضلال تتحقق من خلال حفظ كتب الضلال; فهذا معناه أن حفظها حرام. وقد اعتمد صاحب الرياض على هذا الدليل، وقال: «مع أن فيه نوعُ إعانة على الإثم»([48])، لكن صاحب «المستند» اعتبر أن الاستناد إلى هذا الدليل استدلالٌ بما هو أخصّ من المدّعى، وقال: «والتمسك بحرمة المعاونة على الإثم غير مطرد»([49]). والذي يبدو أن الإعانة الفعلية مربوطة بالقصد، ومختصة بما إذا أقدم الشخص على مساعدة آخر بهدف تحقق المعصية، وفي مورد حفظ كتب الضلال لا يتم التحريم إلا إذا حفظ الإنسان هذا الكتاب قاصداً من ذلك إضلال الآخرين، وفي غير هذه الحال ـ كما إذا حفظه لترسيخ أفكاره الشخصية أو كَتَبَه لهداية الآخرين، وكان مخطئاً في فهمه، وقاصراً في اجتهاده ـ لا يكون مشمولا للإعانة، حيث لا تحقق للإثم حينئذ، حتى يكون حفظ هذه الكتب إعانةً على الإثم والمعصية. _________________________________________________ [29] . لقمان: 6. [30] . مجمع البيان 8: 76. [31] . الميزان 16: 209. [32] . المصدر نفسه: 208. [33] . تذكرة الفقهاء 2: 305. [34] . البقرة: 2. [35] . النساء: 95. [36] . يوسف: 40. [37] . نهج البلاغة 4: 45. [38] . نوح: 26. [39] . الحج: 30. [40] . المكاسب: 29. [41] . جواهر الكلام 22: 57. [42] . الميزان 1: 372. [43] . النساء: 50. [44] . جواهر الكلام 22: 57. [45] . البقرة: 79. [46] . جواهر الكلام 22: 56. [47] . المائدة: 2. [48] . رياض المسائل 1: 503. [49] . مستند الشيعة 14: 157.
|