|
المقدمة
انّ الله تبارك وتعالي لم يدع شيئا يحتاج اليه الأمّة الاّ أنزله
في كتابه وبيّنه لرسوله (صلي الله عليه واله ) وجعل لكّل شيء حدّا وجعل عليه دليلا يدلُّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدَّ حدّاً».(1) الإمام محمد الباقر (عليه السلام) لا شكَّ في أنَّ الإسلام، كدين تُختم به الأديان، هو دين يفي بكل حاجات البشر الفردية والاجتماعية كما أوضحه الحديث الشريف أعلاه. والقرآن والسنَّة هما المنبعان الرئيسيَّان اللذان يفيان بإعداد إنسان مهتد ومجتمع سعيد. لكل شيء حكم وحدٌّ يعيّنه الكتاب والسنَّة، والله تعالى حينما جعل دينه يفي بحاجات البشر، عيَّن أيضاً الطريق إلى حدوده وأحكامه. وعلى هذا، فمن أعرض عن حدود الله وتجاهلها، حدَّدت له الشريعة الإلهية حكمه أيضاً. من هنا، ركَّز الفقهاء جهودهم ـ على مدى تاريخ الفقه ـ على رسم الحدود الإلهية والأحكام الشرعية والحقوق الإنسانية في إطار اُصول الاجتهاد والاستنباط. وتاريخ الفقه الشيعي الحافل بآلاف الكتب والرسائل الفقهية يشهد بحقيقة أنّ الفقهاء الشيعة ـ رضوان الله عليهم ـ قد شمّروا سواعدهم في إبلاغ الدين والشريعة في كل حقبة بحسب مقتضيات عصرها والعلاقات الاجتماعية الحاكمة فيها، وفي حدود مسؤوليتهم في إثراء الفقه، فأولوا البحث الفقهي بالغ الأهمية من بين علوم الدين الأُخرى، واتسعت لأجله كلُّ العلوم التي تمتُّ إليه بصلة، كأُصول الفقه والتراجم والرجال وعلم الحديث، فتأسَّست مئات الجامعات الإسلامية ودوّنت آلاف الكتب العلمية. ولقد جاء القسم الأعظم من مؤلفات الفقه إثر توالي الطلبات أو الاستفسارات التي قام بها المعنيون بعلوم الدين أو المقلّدون من الناس. فهناك المئات من مجاميع الأسئلة والأجوبة الشرعية من القرون الأولى من عهد الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي وإلى يومنا هذا، وهي حصيلة علاقات متينة شدَّت الجماهير المتديِّنة إلى المرجعية الشيعية والحوزات والجامعات الإسلامية وتكوّنت على أثر الرجوع المتواصل إلى العلماء. وفي العهود الأخيرة كان تدوين مجاميع ثمينة و قيّمة من المسائل من قبيل (جامع الشتات) للميرزا القمي و(مجمع المسائل) للميرزا الشيرازي استمراراً لتلك الآصرة العلمية بين المرجعية الشيعية والجماهير المتشرّعة، وهي لا زالت تتواصل إلى اليوم. هذا إلى جانب مئات الرسائل الصغيرة والكبيرة في شرح المسائل الشرعية والأحكام الفقهية التي كانت على الدوام موضع رجوع وحاجة المجتمع الإسلامي. ومن ناحية أخرى، كانت الحاجات المتعدّدة والمتنوّعة لجمهور المتديّنين ولمختلف شرائح المجتمع تستدعي بطبيعة الحال عرض المسائل الدينية والأحكام الشرعية بأساليب جديدة ومناسبة في الوقت ذاته، ولا سيما عندما اقتضت المسائل الجديدة، والّتي تسمى اليوم بـ (المسائل المستحدثة) إصدار فتاوى وآراء فقهية تتّسم بالحداثة والتجديد، أو عندما كان يتمخّض الاجتهاد الشيعي الفاعل ـ بقدر ما يسمح به السعي والجهد الفقهي ـ عن استحداث الفقيه المرجع ـ في نطاق الأُصول الفقهيه التي كانت ولا تزال موضع اهتمام الفقهاء الشيعة ـ لآراء أو في الواقع لفتاوى جديدة أو عدول وتبدّل في الرأي. ولا شكَّ في أنّ تبدّل الرأي والفتوى هو أمر شائع في دائرة الاجتهاد والفقه الشيعي منذ بداياته وإلى يومنا هذا، وأنّ المجتهد يجد نفسه أحياناً مضطرّاً إلى العدول والتبديل، لا من بعد تأليف عدة كتب في الفقه، بل حتى خلال تأليف كتاب فقهي واحد أحياناً، الأمر الذي يحكي بوضوح عن حركة تنبض بالحياة لدى الفقه والتفقّه الشيعي، وعن النشاط الفكري المتواصل لفقيه يرى نفسه ملزماً باستمرار باتباع الأدلّة لاستنباط الأحكام على أساس المعايير الفقهية، أي ما صار يُطلق عليه في السنوات الأخيرة بـ (الاجتهاد الجواهري) الذي يحكي عن اجتهاد صحيح، دقيق، شامل ومطابق للأُصول الموضوعة ومصادر الاستنباط الأصيلة. وكما يقال في تعريف الاجتهاد إنّه بذل الفقيه وسعه لاستنباط الحكم الشرعي من مجموع أدلّته التفصيلية، فإنّ من له أدنى إلمام بكتب الفقه الاستدلالي يعلم جيّداً أنّ وجود رأيين أو أكثر في مسألة فقهية ما لدى فقهاء كبار كالشيخ الطوسي والمحقق الحلي والشهيدين هو أمر طبيعي معتاد. فتصفُّح يسير لكتاب (مفتاح الكرامة) الذي يستعرض فتاوى وأقوال الفقهاء في كل مسألة، يكشف بوضوح عن هذه الحقيقة، حيث يعدُّ ذلك في الواقع من امتيازات الفقه الشيعي ومن مفاخره في الوقت ذاته. ومن الطبيعي أنْ يكون آخر هذه الآراء هو أدقّها وأكثرها بحثاً ودراسة. وحيث نتقدَّم إلى القارئ هنا بهذه المجموعة من المسائل الشرعية، نودُّ الإشارة إلى آخر آراء وفتاوى الفقيه الكبير سماحة آية الله العظمى الحاج الشيخ يوسف الصانعي. وهذه الفتاوى وإنْ كانت تغاير الفتاوى المشهورة بل والمجمع عليها أحياناً، إلاّ أنّها في الحقيقة حصيلة ساعات طويلة من الدراسة والبحث ومراجعة النصوص في إطار الأُصول والمعايير الفقهية والتأمّل بما من شأنه أنْ يثلم أو يجبر الشهرة. من جملة الفتاوى الملفتة التي تحكي عن تبدّل رأي الشيخ نشير إلى ما يلي: طهارة البشر جميعاً من المسلمين وغير المسلمين، أي أنَّ الناس جميعاً طاهرون، سوى المعاندين للدين ممَّن ليسوا إلاّ نزراً يسيراً. التفصيل في حكم الارتداد بين من يستوجب إنكاره للإسلام اقتراف جرم، كهتك حرمة الرسول (صلى الله عليه وآله) والمسلمين، ومن لا يستوجب ارتداده جرماً وإنما كان ارتداده عن قصور أو أنّه لا زال في حال دراسة وتفحُّص. جعل حرمة الموسيقى والغناء تدور على محور محتواهما، لا على محور اللحن والغناء نفسه. عدم حرمة الربا الاستثماري. تساوي المسلم والكافر في القصاص. تساوي دية المرأة والرجل فى الجناية سواء في القتل أو في غيره، وجريان القصاص والمقابلة بالمثل في قتل الرجل للمرأة من دون حاجة إلى رد التفاوت، كما هو الحال في عكس ذلك ومن دون تمييز وظلم. إرث غير المسلم (الذي ليس معانداً) من المسلم كما هو الحال في عكسه. عدم اشتراط الاجتهاد في القاضي وكفاية العلم بمسائل وقوانين القضاء وإنْ كان ذلك عن تقليد وعدم اشتراط الذكورة في القضاء والفقاهة والمرجعية وولاية الأمر. ولزوم اتباع النظم الاجتماعية القائمة على أساس العدل وبرأي أكثر الناس، لأجل الحفاظ على حقوق المجتمع كالضرائب والقوانين البلدية وتعليمات الوزارات وغيرها من قوانين إدارة المجتمع والمحافظة على الأمن الفكري والاقتصادي والروحي والمالي والعرضي وما إلى ذلك. لقد نشرت في الأعوام الأخيرة كتب ورسائل عديدة لآية الله العظمى الصانعي، حيث كان كلٌّ منها يلبّي جانباً من حاجات وطلبات المعنيين والمقلِّدين، فبالإضافة إلى كتاب (توضيح المسائل) الذي اُعيد طبعه مراراً، يعتبر كتاب (مجمع المسائل) مصدراً غنياً في الإجابة عن الاستفتاءات. والمجلّد الأوّل من هذا الكتاب ـ الذي احتوى على أكثر من ألفي استفتاء وأعيد طبعه مراراً ـ هو مجموعة كبيرة من أجوبة الشيخ انتخبت من بين آلاف الاستفتاءات ووضعت على ترتيب (توضيح المسائل). مرجعنا الكبير هو من التلامذة المبرّزين للسيد الإمام الخميني (قدس سره)(2)، وهو غالباً ما يشير في (مجمع المسائل) ـ وفقاً لطريقته المعهودة وبما يناسب الاستفتاء ـ إلى شيء من الأدلّة التي اعتمدها في الجواب لعلها تفتح الطريق أمام السائلين والمهتمّين، كما أنَّ ذكر تاريخ الإجابة عن الاستفتاء هو ميزة أخرى من ميزات هذه المجموعة. وعلى الرغم من ثراء (توضيح المسائل) و(مجمع المسائل) بصفحاتهما التي فاقت الألف والمأتين كمصدرين رئيسيين لفتاوى سماحة الشيخ، إلاّ أنَّهما لا يلبيان حاجة الكثير من الراغبين في اقتناء منتخب يسير لمسائل واستفتاءات هذين الكتابين. من هنا جاءت مجموعة (منتخب الأحكام) التي نضعها بين أيديكم تلبية لهذه الحاجة. هذه المجموعة اختارها أوّلا ثلة من أفاضل طلاب شيخنا الأستاذ ثم عُرضت عليه ليقوم هو بمراجعة بعض مسائلها، وبذلك احتوت على أحدث الآراء الفقهية والفتاوى الشرعية لمرجعنا الكبير والتي أشرنا إلى بعضها فيما مرَّ. نسأل المولى القدير دوام العزِّ والازدهار العلمي للحوزات العلمية والمرجعية الشيعية والصحة والسلامة لمرجعنا الكبير، ونأمل ـ بإذنه تعالى ـ أنْ يلبّي (منتخب الأحكام) حاجة الطالبين والراغبين في مختصر لأهم وأشمل فتاوى واستفتاءات سماحة الشيخ. _____________________________________________________ -------------------------------------------------------------------------------- (1) أصول الكافي 1: 59، باب الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ليس شيء من الحلال والحرام، الحديث2. (2) التعبير الذي استخدمه سماحة السيد الإمام في خصوص سماحة الشيخ يحكي عن تقدير خاص للمكانة العلمية التي عليها سماحته: «لقد ربيت الشيخ الصانعي كابن لي. عندما كان الشيخ الصانعي يحضر بحوثنا على مدى سنوات طويلة كان يقصدني بشكل خاص و يتحدّث معي، وكنت ألتذُّ بمعلوماته، و هو شخصية بارزة بين علماء الدين و رجل عالم» (صحيفة الإمام 17: 231). الناشر
|