|
الوجه الأول: موثقة عمار الساباطي
محمد بن الحسن، بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن الحسن بن علي، عن عمرو بن سعيد، عن مصدّق بن صدقة، عن عمار الساباطي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ قال: «إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة; فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك; فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم»(23).
ودلالة هذه الرواية تامة، لا مشكلة فيها إطلاقاً، بل ليست بحاجة إلى بيان ولا تقريب; ذلك أن ذيل الرواية نصٌّ صريح وواضح على اعتبار الثلاث عشرة سنة سنَّ البلوغ عند البنات، كما أنها من ناحية السند تامة، صرّح بكونها موثقة كلٌّ من صاحب (الجواهر)(24) وصاحب (الحدائق)(25)، كما لم يناقش في سندها وكونها موثقة أيٌّ من الذين تعرّضوا لها، بل يكتب السيد أحمد الخوانساري في كتاب (جامع المدارك) ـ بعد نقله موثقة عمار وعدداً من الروايات الأخرى ـ فيقول: «وهذه الأخبار مع اعتبارها من حيث السند، والصراحة بحسب الدلالة، لم يعمل بها المشهور»(26). والذي قيل إشكالاً على هذا الدليل أو يمكن أن يُقال، أمور أربعة نذكرها ثم نقدّم نقداً عليها، وهي: 1 ـ إعراض المشهور عن صدر الرواية والإفتاء بأنّ سن بلوغ الصبي هو إتمام خمس عشرة سنة قمرية، وحيث كان ذيل الرواية مرتبطاً بصدرها، على نحو الإشارة إليه «كذلك»، عنى ذلك ارتباط الذيل، فيسقط هو الآخر عن الحجية، نظير العلاقة بين الدلالة الالتزامية والدلالة المطابقية اللفظية، فإن عدم حجية الدلالة المطابقية يعدّ سبباً لعدم حجية الدلالة الالتزامية. وفي مقام الجواب عن هذا الإشكال، لابدَّ من القول: أولاً: كيف ثبت إعراض المشهور عن صدر الرواية مع أنَّ صاحب (الجواهر)(27) في كتابه القيّم يشير إلى وجود ستة أقوال(28) في المسألة، حتى لو ذكر في نهاية بحثه أنَّ التحقيق عدم وجود أكثر من قولين. من جهة أخرى، لا بد في الإعراض أن يكون بحيث يدلّل على أنّ المضمون كان من وجهة نظرهم غير صحيح، أما هنا فإنَّ إحراز أمر من هذا القبيل صعب وشاق، ذلك أنَّ إعراضهم عن صدر الرواية إنما كان من جهة كثرة روايات سنّ بلوغ الصبي بخمس عشرة سنة. ثانياً: لا يضرّ سقوط صدر الرواية عن الحجية في حجية ذيلها; ذلك أنّ الذيل مطلب مستقل، جرى تبيانه بجمل مستقلّة، وأما لفظ الإشارة «كذلك» فإنما جاء لتبيين مشابهة سنّ البلوغ عند البنات معه عند الصبيان، وعليه فكلمة «كذلك»، حتى مع فرض عدم حجية الصدر، يكون وجودها كالعدم، ولا ربط لها بحجية الذيل. 2 ـ إنّ ذيل الحديث هو الآخر قد وقع موقع الإعراض عنه; لذا لم يكن حجةً، ذلك أنّ أحداً من الفقهاء لم يفتِ ببلوغ البنت في الثالثة عشرة. ويجاب عن هذا الإشكال: أولاً: لقد عمل شيخ الطائفة (الطوسي) في كتابي: (التهذيب) و(الاستبصار) بهذه الرواية، وعبارته ـ سيما في (الاستبصار) ـ كالنصّ على العمل والفتوى بها وعلى أساسها. ثانياً: تعود شهرة القول ببلوغ البنت في سنّ التسع إلى ما بعد زمان الشيخ الطوسي، ومثل هذه الشهرات لا يمكن الاعتماد عليها من جهتين: الأولى: أنّ هذه الشهرة ليست شهرة قدماء الأصحاب، ولا تحسب من الأصول المتلقاة(29). الثانية: أنَّ هذا النوع من الشهرات يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى فتاوى شيخ الطائفة، لا إلى اجتهادات مختلفة أو إلى نقض الأدلّة وإبرامها. 3 ـ أنَّ عمار الساباطي ـ رغم كونه موثقاً ـ إلاّ أنَّه لا يمكن الاستناد إلى الروايات التي يتفرّد بنقلها; لأنه فطحي(30). من جهة أخرى، قيل: إنَّ في رواياته من حيث اللفظ والمعنى اضطراباً وتشويشاً، فلا يصحُّ الأخذ بها، وهو ما ينقل عن الفيض الكاشاني والعلامة المجلسي. وللجواب عن هذا الإشكال نقول: أولاً: أنَّ الشيخ الطوسي نفسه بعد ذكره الإشكال المتقدّم يقول: «غير أنّا لا نطعن عليه بهذه الطريقة; لأنه وإن كان كذلك فهو ثقة في النقل لا يطعن عليه فيه». كما يذكر في «الفهرست» أنه فطحي، وأنّ له كتاباً كبيراً وقيّماً يمكن الاعتماد عليه(31)، كما أنّه وثَّقه في النقل في كتاب (الاستبصار) في باب بيع الذهب والفضة، مصرّحاً بأنه لا طعن فيه(32). ثانياً: يمكن بالغور والتتبّع في الكتب الرجالية والفقهية الاطمئنان وتحصيل العلم العادي بعدم تمامية ما نقل عن بعضهم هنا،كيف لا والنجاشي ـ وهو أحد العلماء الرجاليين البارزين ـ اعتبره وجماعة آخرين ثقات في الرواية(33)، كما جعل الكشّي رواياته مرجّحة(34). ويقول المحقق الحلّي في (المعتبر): «عمل الأصحاب على رواية عمار الثقة، حتى أنّ الشيخ(رحمه الله)ادّعى في (العدّة) إجماع الإمامية على العمل بروايته، ورواية أمثاله ممّن عدّهم»(35). كما اعتبره العلامة الحلي في (خلاصة الأقوال) صاحب كتاب كبير وقيّم، يمكن الاعتماد عليه(36)، ويقول في كتاب (تذكرة الفقهاء): «وعمار وإن كان فطحياً، إلاّ أنه ثقة، اعتمد الشيخ(رحمه الله) على روايته في مواضع»(37). أما السيد بحر العلوم في (الفوائد الرجالية)، فبعد نقله كلام الشيخ والمحقق في وثاقة عمار، يقول: «وهذا القول الذي اختاره الشيخ والمحقق: من كونه فطحياً ثقة في النقل، هو أعدل الأقوال وأشهرها، وبه قال البهائي والمجلسيّان وغيرهم»(38). ثالثاً: أنَّ هذا الإشكال ضعيف غير تام، بل هو أضعف من الإشكال الأوّل; إذ كيف يمكن الأخذ بما نقله الفيض الكاشاني والمجلسي(قدس سرهما)، وصرف النظر عن كلمات كل أولئك الكبار من أساطين الفقه والحديث والرجال، ومن ثم رفع اليد عن تمام روايات عمار على كثرتها وكونها مورداً للعمل في الفقه؟! من ناحية أخرى، إنَّ الاضطراب الذي ينسب إلى الساباطي ليس بأكثر من الاضطراب الموجود في نقل سائر الأصحاب فيما يقتضيه الطبع الإنساني وما يستدعيه نقل الكلام والحديث، وعليه فلا يكون مانعاً عن الاعتماد والوثوق بنقله. 4 ـ أنَّ رواية عمار تعارض روايات التسع سنوات، فتقدّم روايات التسع لكثرتها; ذلك أنَّ كثرة الروايات تعدّ من المرجِّحات والمزايا في باب التعارض، إضافةً إلى أنّ روايات التسع مطابقة للمشهور أيضاً ممّا يقدّمها على رواية الساباطي. ويناقش أولاً: تقدم أنّ هذه الروايات لا تدلّ على البلوغ بسنّ التسع، فلا تصل بها النوبة لمعارضة خبر عمار. ثانياً: لو تحقَّق التعارض بين موثقة عمار وتلك الروايات على فرض تمامية دلالتها، فهو من باب تعارض النصّ مع الظاهر، ومن الواضح البديهي أنه لا تعارض بين النصّ والظاهر، إذ النصّ مقدّم عليه. ولا يفوتنا أنَّ روايات التسع سنوات لا تزيد على أربعة أحاديث، ثلاثة منها تدل على التسع مع ضمّ علائم أخرى، لتجعل المجموع هو علامية البلوغ والنمو والرشد، أي أنَّ السنوات التسع تجعل البنت ـ غالباً ـ ذات رشد فكري وبدني مرافق لعلائم أخرى كالحيض، وأما الرواية المتبقية فلم يكن فيها مثل هذه العلامات المنضمّة، وهي مرسلة ابن أبي عمير، والتي عيّنت الحدّ الأدنى لسنّ البلوغ. __________________________________________ (23) وسائل الشيعة 1: 45، باب 4، ح12. (24) النجفي، جواهر الكلام 26: 34. (25) البحراني، الحدائق الناضرة 13: 184. (26) الخوانساري، جامع المدارك 3: 366. (27) النجفي، جواهر الكلام 26: 28. (28) الخمس عشر دخولاً وكمالاً، وكذا الأربع عشر، وكمال الثلاث عشر، والعشر. (29) يستفاد من عبارة صاحب (المعالم)، والشهيد الثاني في (الرعاية)، والشيخ محمود الحمصي المعاصر لشيخ الطائفة.. أن الفتاوى التي اشتهرت بعد عصر الشيخ الطوسي إنما صارت كذلك على أساس حسن ظنّهم بشيخ الطائفة، حيث قبلوا أدلّة الشيخ، ولم يجيزوا لأنفسهم الإشكال عليه، من هنا كان اجتهادهم كاجتهادات الشيخ الطوسي، وفقط ابن إدريس فتح باب الإشكال على كلام الشيخ، مقدّماً خدمةً كبيرة للشيعة بذلك. (30) تهذيب الأحكام 7: 101. (31) الطوسي، الفهرست: 525. (32) الطوسي، الاستبصار 3: 95، ح325. (33) رجال النجاشي: 290. (34) اختيار معرفة الرجال: 406، ح763. (35) الحلي، المعتبر 1: 60. (36) العلامة الحلي، خلاصة الأقوال: 381. (37) العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 1: 267. (38) رجال السيد بحر العلوم 8: 169.
|