|
المقدّمة
لابدّ لكلّ إنسان من دين إلهي، ولا دين كذلك سوى الإسلام، فإلإسلام هو الدين الوحيد الجامع النازل من جانب الحقّ، والمشتمل على تمام الكمالات الإنسانيّة للإسلام مبادي وأركان، ومن أركانه الحجّ، كما قال الإمام الباقر (عليه السلام):
«بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والولاية»[1]. وعليه، فمن لايقيم الحجّ عمداً، يكون قد ترك ركناً من أركان دينه الإلهي، ومن ثمّ يؤدّي ذلك إلى زمان الإسلام الكامل، من هنا عبّر اللّه تعالى عن الترك العمدي للحجّ بالكفر (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[2]. إنّ الحجّ أحد أبرز مظاهر البرامج الإسلاميّة العالميّة، من هنا يمكن إعتبار دوامه وشموليته شاهداً على دوام هذا الدين الإلهي. الحجّ هو قصد الكعبة وزيارتها، وإنجاز مناسك خاصّة. والكعبة أوّل بيت وضع لعامّة الناس، وهي المركز الأوّل الذي يجذب إليه العابدين. إنّ التعبير عن بناء الكعبة بـ «بكّة» التي تعني الازدحام يدلّل على أنّ الكعبة كانت محوراً عالمياً يرجع إليه من مختلف نواحي العالم عبر الزمن، وإنّه على إثر تعاظم حجم الوافدين إليه أطلق على هذا المكان بكّة. الحجّ عهد إلهي يُتشرّف به. من هنا، جاء التعبير عن وجوبه بلغة الميثاق، والعهد الإلهي الخاصّ، ولانجد مثل هذا العهد في سائر العبادات، عهدٌ جاءت فيه كلمة الجلالة. إنّ الحجّ تركيبة من عبادات متنوّعة، تشمل فضائل كثيرة، تحتويها تلك العبادات. يعدّ الحجّ من أهمّ مظاهر الإسلام; نظراً لاشتماله على الكثير من السنن والأسرار، ويكفي لإبراز أهميّة الحجّ مع أحكامه وحكمه الخاصّة، مطالعة ما جاء في طلب الحجّ في أدعية شهر رمضان المبارك، بحيث لانجازف إذا قلنا إنّ صيام هذا الشهر، وأدعيته الليليّة ومناجاته السحريّة، وأوراده اليوميّة، تهيّيء الإنسان للحجّ. وبناءً عليه، يكون شهر رمضان المبارك بداية الضيافة الإلهيّة فيما يكون ذوالحجّة منتهاها. إنّ الحجّ ضيافة اللّه، والحجّاج ـ كالصائمين ـ ضيوف الرحمن تماماً، كما قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ ضيف اللّه عزّوجلّ، رجل حجّ واعتمر، فهو ضيف اللّه حتّى يرجع إلى منزله[3]». فالضيافة الخاصّة بشهر رمضان المبارك توفّراً رضيّةً مناسبة لضيافة الحجّ، ففي شهر رمضان يقول المضيف لعباده الصائمين: اطلبوا من الحجّ. أمّا في الضيافة الثانية ـ أي في مراسم الحجّ ومناسكه ـ يكون عن العطاء، لا الطلب. وما من أيّام أزكى عند اللّه تعالى، ولا أعظم أجراً من خير في عشر الأضحى، وما من أيّام العمل الصالح فيما أحب إلى اللّه عزّوجلّ من أيّام العشر. ويغدوالحجّ سيراً نحو اللّه سبحانه، ورحلةً إلى لقائه، وسعياً للقرب منه. ومن الواضح أنّ العبد لا يقدر على التقرّب من مولاه، إلاّ بالتوحيد الدائم الأصيل. وعليه، فالحجّ توحيد مجسّم، وأنموذج من التوحيد الجامع، والتوحيد هو تلك الفطرة التي خلق اللّه الناس عليها. والحجّ مظهر لأصول الدين المتينة، ونجسّدُ للعقائد الثلاثة: التوحيد والنبويّ والعدل. وتلك الأصول التي تعدّ ثماراً لشجرة الإسلام الطيّبة. ولا يخفى ما في فريضة الحجّ والعمرة من الأهميّة البالغة لدى المسلمين وما فيها من المضامين العالية التي لايبلغ حدّها إلاّ من أعطى مقاماً شامخاً ومرتبة عالية من الإيمان والتقوى والورع. ومن المعلوم أنّ الحجّ ليس لنزهة ولإمضاء وقت، بل هو إنابة وتوبة، وإنّ المؤمن إذا انتهى من فريضة الحجّ عاد كيوم ولدته اُمّه. إنّ الحجّ من العبادات التي شرّعت قبل زمان ممارستها الفعليّة، وأنّها من العبادات المستقبلة المنظورة، فالحجّ من الفرائض التي تعدّ تجربة مستقبليّة وتقع دائماً في أفق الزمن المنظور للفرد والاُمّة على السواء. الحجّ تتجلّى فيه جميع أبعاد الدين، وتتبلور فيه حقائق الإسلام و الحجّ ميعاد اللّه تعالى للأُمّة المسلمة في معبد الحبّ، وميقات العرفان والشعور; لتعميق هويتها الأصليّة ومسيرتها الإنسانيّة. الحجّ ارتباط باللّه سبحانه، وتجاوز لعقبات الأهواء، وتطهير للنفس. والحجّ تبلور لقدرة الأُمّة المسلمة. الحجّ ساحة الصراع ضدّ الشيطان بكلّ أساليبه وأشكاله، وضدّ الشرك والأوثان، والحجّاج يتّجهون من بلدانهم ومدنهم من داني الأرض وقاصيها، ليتوجّهوا نحو الميعاد; لكي يطهروا قلوبهم بطوافهم حول حرم اللّه. إنّ الحجّ هو طريق العباد إلى اللّه، وهو آخر منازل القرب التي يمكنهم بلوغها في هذه الحياة الدنيويّة، فهو لا يعني مجرّد الذهاب إلى الحرم المكّي الشريف، بل إنّ حقيقته بلوغ الأهداف والغايات التي وجب من أجلها. إنّ معنى الحجّ هو ترك الديار، وهو مقام الوصال الذي يمكن بلوغه من خلال تنقيه الروح وبذل المال. ومن هنا فقد عبّر القرآن عن مناسك الحجّ بـ «الشعائر»، فيقوم الحاجّ بمحاكاة تلك الشعائر تقليداً رمزيّاً لما قامت به تلك الطليعة التوحيديّة. إنّ الحجّ وسيلة للتقرّب إلى اللّه، وملاذاً معنويّاً للإنسان، فإنّه حينما يردّد نداء «لبيك اللَّهم لبيك» يكون متضرّعاً إلى اللّه من صميم ذاته وعمق كيانه. وهو يبثه لو أعج نفسه . وعلى الحاجّ ـ مضافاً إلى قيامه بمناسك الحجّ الظاهريّة ـ أن يكون مدركاً لحقيقة الحجّ، ومن هنا ينبغي أن يكون له سلوك روحاني، لا جسماني. يجب على الحاجّ أن يبتعد عن الشهوات، ويتخلّق بالأخلاق الملكوتيّة، وعليه التحرر من جميع القيود، ولما كانت غايته بلوغ بيت اللّه، فعليه الانفصال من بيته وجسمه الأرضيّ; ليحلق في الملكوت الأعلى. وممّا يجدر ذكره: أنّه لا توجد هناك عبادة جوفاء خالية من الروح، بل إنّ كلّ شعيرة من شعائر الحجّ تزخر بالمعاني الكثيرة التي تؤلّف الهدف الأساس من الحجّ. وإنّ الكعبة هي أوّل بيت بني بأمر اللّه سبحانه وتعالى لهداية الإنسان. قال اللّه تبارك وتعالى: (اِنّ أوّل بيت وُضِعَ لِلنّاس لَلَّذي ببَكّةَ مبارَكاً وهدىً لِلعالِمينَ)[4]. وهي الكانون المقدّس الذي جعله اللّه قياماً للناس. قال اللّه تبارك وتعالى: (جَعَلَ اللّهُ الكَعبَة البَيتَ الحَرامَ قياماً لِلناس)[5]. وأنّ الحجّ ركن من الأركان الإسلاميّة، وقيام روحه ولبّه بمعرفة اللّه عزّ وجلّ. والغاية منه بعد توفّر الشرائط إثبات العبوديّة، والتحلّي ظاهراً وباطناً بالصبغة الإبراهيميّة. وأنّ الحجّ هو تعليم وتجربة مؤقنة ومظهر للمثل العليا، ويظلّ الإنسان ينهل من هذا التعليم طوال عمره، كما أنّ هذه الرؤية تتّضح أيضاً بوصفه مدرسة أخلاقيّة ومعنويّة. فالحجّ بتهذيبه للنفس وتزكيته للأخلاق، وإحيائه للروح، يطلق الإنسان، ويحرّره ممّا يكدّر صفاء روحه، من حرص وطمع وتكاثر وتفاخر، وينقذه من السقوط، ويعرج به إلى الأعلى والأوج. وهذا العروج الإنساني إلى الأوج، وإن كان أخلاقيّاً وعباديّاً وعرفانيّاً في جوهره، إلاّ أنّه أساس انتصار الإنسان على الصعيد السياسيّ والعسكريّ. وأنّ الحجّ يُعدّ إعداداً لتأسيس حكومة عالميّة موحّدة، وإزالة الحدود الجغرافيّة، وإدارة المجتمعات البشرّية من قبل حكومة عادلة عالمة. وأنّ الحجّ يسعى لوضع قضايا ومشاكل المجتمع الإسلامي الداخليّة والخارجيّة، اجتماعيّة كانت، أو سياسيّة، أو اقتصاديّة، ويخطّط لمواجهة الأعداء الذين نذروا أنفسهم لحرب الإسلام والمسلمين، ويحتضن كلّ أرباب الرأي والفكر، والمصلحين والمؤرخين، وعلماء الاجتماع، وعلماء الدين وزعماء المذاهب من كلّ أطراف الأرض، لتتجّدد روابط الإخوة الإسلاميّة، وتشيع المودّة والمحبّة بينهم، وليتعرف كلّ منهم على ما يحمله الآخرون من أخلاق وآداب وطبائع وأفكار. وأنّ الحجّ عبادة، وسياسة، وزيادة اقتصاد، وصحّة الحجّ فرد ومجتمع مادّة ومعنى دنيا وآخرة، وهو كهذا العالم وهذا الإنسان مركّب ثنائيّ من جسم وروح. ________________________________ [1]. الكافي 2: 18. [2]. آل عمران (3) : 97. [3]. الخصال: 127، وسائل الشيعة 14 : 586، أبواب المزار، الباب 97، الحديث 12. [4]. آل عمران (3) : 96. [5]. المائدة (5) : 97.
|