|
ومن لطائف ودقائق أسرار الحجّ
ومن لطائف ودقائق
أسرار الحجّ ما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) «إذا أردت الحجّ، فجرّد قلبك للّه تعالى من كلّ شاغل وحجاب كلّ حاجب، وفوّض أمورك كلّها إلى خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، وأخرج من حقوق يلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوّتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالا، فإنّ من ادّعى رضا اللّه واعتمد على ما سواه، صيّره عليه وبالا وعدوّاً، ليعلم أنّه ليس له قوّة وحيلة، ولا لأحد إلاّ بعصمة اللّه وتوفيقه. فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض اللّه وسنن نبيّه، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاوة، وإيثار الزاد على دوام الأوقات، ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، وألبس كسوة الصدق والصفا والخضوع والخشوع، وأحرم من كلّ شيء يمنعك عن ذكر اللّه ويحجبك عن طاعته، ولبّ بمعنى إجابة صادقة صافية خالصة زاكية للّه تعالى في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقى، وطفّ بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت، وهرول هرولة من هواك، وتبرّا من حولك وقوّتك، واخرج من غفلتك وزلاّتك بخروجك إلى منى، ولا تتمّن ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه، واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند اللّه تعالى بوحدانيّته، وتقرّب إليه، واتّقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملا الأعلى بصعودك على الجبل، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة، وارم الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان اللّه وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم، ودُر حول البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه، واستلم الحجر رضاً بقسمته وخضوعاً لعزّته، وودّع ما سواه بطواف الوداع، واصف روحك وسرّك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا، وكن بمرأىً من اللّه نقيّاً أوصافك عند المروة، واستقم على شرط حجّتك هذه، ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربّك، وأوجبته له إلى يوم القيامة. واعلم بأنّ اللّه تعالى لم يفرض الحجّ، ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى:(وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)[1]. ولا شرع نبيّه ستّة من خلال المناسك على ترتيب ماشرعه، إلاّ للاستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفضل بيان السبق من الدخول في الجنّة أهلها، ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أوّلها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النهي»[2]. ومن جملة مباحث أسرار الحجّ الوظائف القلبيّة عند كلّ عمل من أعمال الحجّ. اعلم، أنّ أوّل الحجّ فهم موقع الحجّ في الدين، ثمّ الشوق إليه، ثمّ العزم عليه، ثمّ قطع العلائق المانعة عنه، ثمّ تهيّئة أسباب الوصول إليه من الزاد والراحلة، ثمّ السير، ثمّ الإحرام من الميقات بالتلبية، ثمّ دخول مكّة، ثمّ استتمام الأفعال المشهورة. وفي كلّ حالة من هذه الحالات تذكرةٌ للمتذكّر، وعبرة للمتعبر، ونيّةٌ للمريد الصادق، وإشارةٌ للفطن الحاذق، إلى أسرار يقف عليها بصفاء قلبه وطهارة باطنه إن ساعده التوفيق. أمّا الفهم: فاعلم، أنّه لاوصول إلى اللّه إلاّ بتنحية ما عداه عن القصد من المشتهيات البدنيّة واللذّات الدنيويّة، والتجريد في جميع الحالات، والاقتصار على الضروريّات، ولهذا انفرد الرهبان في الأعصار السالفة عن الخلق في قلل الجبال، توحّشاً من الخلق، وطلباً للأنس بالخالق، وأعرضوا عن جميع ما سواه، ولذلك مدحهم بقوله:(ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)[3]. نشرّف البيت العتيق بإضافته إلى نفسه ونصبه مقصداً لعباده، وجعل ما حوله حرماً لبيته، تفخيماً لأمره، وتعظيماً لشأنه، وجعل عرفات كالميدان على باب حرمه، وأكّد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك بقصده الزوّار من كلّ فجّ عميق، شعثاً غبراً متواضعين لربّ البيت، مستكينين له خضوعاً بجلاله واستكانةً لعزّته، مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحومه مكان، ليكون ذلك أبلغ في رقّهم وعبوديّتهم. ولذلك وظّف عليهم فيها أعمالا لاتأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتردّد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرقّ والعبوديّة، بخلاف سائر العبادات، كالزكاة التي هي عدوّ اللّه وتفرغ للعبادة بالكفّ عن الشواغل، وكالركوع والسجود في الصلاة الذي هو تواضع للّه سبحانه بأفعال على هيئات التواضع وللنفوس أسّس بتعظيم اللّه تعالى. وأمّا أمثال هذه الأعمال، فإنّه لاإهتداء للعقل إلى أسرارها، فلا يكون للإقدام عليها باعث إلاّ الأمر المجرّد وقصد إمتثاله من حيث هو واجب الاتّباع فقط، وفيه عزل للعقل عن تصرّفه وصرف النفس والطبع عن محلّ أنسه، المعين على الفعل من حيث هو، فإنّ كلّ ما أدرك العقل وجه الحكمة في فعله مال الطبع إليه تامّاً، فيكون ذلك الميل معيّناً للأمر، وباعثاً على الفعل، فلا يكاد يظهر به كمال الرقّ والانقياد، ولذلك قال الرسول(صلى الله عليه وآله)في الحجّ على الخصوص: لا لبّيك بحجّة حقّاً تعبّداً ورقّاً. ولم يقل ذلك في الصلاة وغيرها. وإذا اقتضت حكمة اللّه سبحانه ربط نجاة الخلق بكون أعمالهم على خلاف أهويّة طباعهم، وأن تكون أزمتها بيد الشارع فيتردّدون في أعمالهم على سنن الانقياد، ومقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدي إلى معانيه أبلغ أنواع التعبّدات، وصرفاً عن مقتضى الطبع إلى مقتضى الاسترقاق، ولهذا كان مصدر تعجّب النفوس من الأفعال العجيّبة هو الذهول عن أسرار التعبّدات. وأمّا الشوق: فباعثه الفهم أنّ البيت بيت اللّه، وأنّه وضع على مثال حضرة الملوك، فقاصده قاصدٌ للّه تعالى، ومن قصد حضرة اللّه تعالى بالمثال المحسوس، فجدير أن يترقّى منه بحسب سوق شوقه إلى الحضرة العلويّة والكعبة الحقيقة التي هي في السماء، وقد بني هذا البيت على قصدها، فيشاهد وجه ربّه الأعلى بحكم وعده الكريم. وأمّا العزم: فليستحضر في ذهنه أنّه لعزمه مفارق للأهل والولد، هاجر للشهوات واللذّات، مهاجرٌ إلى ربّه متوجّهٌ إلى زيارة بيته. وليعظّم قدر البيت لقدر ربّ البيت، وليخلص عزمه للّه، ويبعده عن شوائب الرياء والسمعة، أفن ذلك شرك خفيّ، وليتحقّق أنّه لا يقبل من عمله وقصده إلاّ الخالص، وأنّ من أقبح المقابح أن يقصد بيت الملك وحَرَمَهُ مع اطّـلاع ذلك الملك على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويكون قصده غيره، فإنّ ذلك استبدال للذي هو أدنى بالَذي هو خير. أمّا قطع العلائق: فحذف جميع الخواطر عن قلبه غير قصد عبادة اللّه، والتوبة الخالصة له عن الظلم و أنواع المعاصي، فكلّ مظلمة علاقة، وكلّ علاقة خصمٌ حاضرٌ متعلّق به، ينادي عليه ويقول: أتقصد بيت الملوك وهو مطّلع على تضييع أمره لك في منزلك هذا، وتستهين به، ولا تلتفت إلى نواهيه وزواجره، ولا تستحي أن تقدّم عليه قدوم العبد العاصي، فيغلق دونك أبواب رحمته، ويلقيك في مهاوي نقمته، فإن كنت راغباً في قبول زيارتك فأبرز إليه من جميع معاصيك، واقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك، لتتوجّه إليه بوجه قلبك، كما أنت متوجّهٌ إلى بيته بوجه ظاهرك، وليذكر عند قطعه العلائق لسفر الحجّ قطع العلائق لسفر الآخرة، فإنّ كلّ هذه أمثلة قريبة يترقّي منها إلى أسرارها. وأمّا الزاد: فليطلبه من موضع حلال، فإذا أحسّ من نفسه بالحرص على استكثاره وطيّبه وطلب ما يبقي منه على طول السفر، ولايتغيّر قبل بلوغ المقصد، فليذكر أنّ سفر الآخرة أطول من هذا السفر، وأن زاده التقوى. وأمّا ما عداه لايصلح زاداً ولا يبقي معه إلاّ ريثماً هو في هذا المنزل. وليحذر أن يفسد أعماله التي هي زاده إلى الآخرة بشوائب الرياء وكدورات التقصير، فيدخل في قوله تعالى: (هَلْ نُنَبّئكُمْ بالاْخسرينَ اَعمالا الَّذين ضَلّ سَعيُهُمْ في الحَيَاةِ الدُّنيا وهُمْ يَحْسَبُونّ أَنَّهُمْ يُحسِنُونَ صُنعَا)[4]. وكذلك فليلاحظ عند ركوب دابّته تسخير الحيوان له، وحمله عنه الأذى، ويتذكّر منّته تعالى; لشمول عنايته ورأفته حيث يقول: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَد لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الاَْنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[5]. فيشكره سبحانه على جزيل هذه النعمة، وعظيم هذه المنّة. ويستحضر نقلته من مركبه إلى منازل الآخرة، التي لاشكّ فيه، ولعلّه أقرب من ركوبه الحاضر، فيحتاط في أمره. وليعلم أنّ هذه أمثلة محسوسة يترقّي منها إلى مراكب النجاة من الشقّة الكبرى، وهي عذاب اللّه سبحانه. وأمّا ثوب الإحرام وشراؤه ولبسه: فليتذكّر معه الكفن ودرجه فيه، ولعلّه أقرب إليه. وليتذكّر منها التسريل بأنوار اللّه الّتي لامخلص من عذابه إلاّ بها فيجهد في تحصيلها بقدر امكانه. وأمّا الخروج من البلد: فليستحضر عنده أنّه يفارق الأهل والولد متوجّهاً إلى اللّه سبحانه في سفر غير أسفار الدنيا. ويستحضر أيضاً غايته من ذلك السفر، وأنه متوجّه إلى ملك الملوك وجبّار الجبابرة في جملة الزائرين، الذين نودوا فأجابوا، وشوّقوا ما اشتاقوا، وقطعوا العلائق، وفارقوا الخلائق، وأقبلوا على بيت اللّه طلباً لرضي اللّه، وطمعاً في النظر إلى وجه الكريم. وليحضر أيضاً في قلبه رجاء الوصول إلى الملك، والقبول له بسعة فضله، وليعتقد أنّه إن مات دون الوصول إلى البيت لقي اللّه وافداً عليه، لقوله تعالى: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ)[6]. وليتذكّر في أثناء طريقه من مشاهدة عقبات الطريق عقبات الآخرة، ومن السباع والحيّات حشرات القبر، ومن وحشة البراري وحشة القبر وإنفراده عن الأنس، فإنّ كلّ هذه الأمور جاذبة إلى اللّه سبحانه ومذكّرة له أمر معاده. وأمّا الإحرام والتلبية من الميقات: فليستحضر أنّه إجابة نداء اللّه تعالى، وليكن في قبول إجابته بين خوف ورجاء مفوّضاً أمره إلى اللّه متوكّلا على فضله. قال سفيان بن عيينة: حجّ زين العابدين عليّ بن الحسين(عليه السلام)، فلمّا أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه، ووقعت عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبّى، فقيل له: ألا تلبّيِ، فقال: «أخشي أن يقول: لا لبّيك ولا سعديك»، فلمّا لبّى غشي عليه وسقط عن راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتّى قضى حجّه[7]. فانظر رحمك اللّه إلى هذه النفس الطاهرة، حيث بلغ بها الاستعداد لإفاضة أنوار اللّه لم تزل الغواشي الإلهيّة، والنفحات الربّانيّة تغشاها، فيغيب عن كلّ شيء سوى جلال اللّه وعظمته. وليتذكّر عند إجابته نداء اللّه سبحانه إجابة ندائه بالنفخ في الصور، وحشر الخلق من القبور وازدحامهم في عرصات القيامة، مجيبين لندائه، منقسمين إلى مقرّبين، وممقوتين ومقبولين ومردودين، ومردّدين في أوّل الأمر بين الخوف والرجاء، تردّد الحاجّ في الميقات، حيث لا يدرون أيتيسّر لهم إتمام الحجّ أم لا. أمّا دخول مكّة: فليستحضر عنده أنّه قد انتهى إلى حرم اللّه الآمن، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب اللّه، وليخش أن لا يكون من أهل القرب، وليكن رجاؤه أغلب، فإنّ الكريم عميم، وشرف البيت عظيم، وحقّ الزائر مرعى، وذمام اللائذ المستجير غير مضيّع، خصوصاً عند أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. ويستحضر أنّ هذا الحرم مثال للحرم الحقيقي لترقّي من الشوق إلى دخول هذا الحرم والأمن بدخوله من العقاب إلى الشوق إلى دخول ذلك الحرم والمقام الأمين. وإذا وقع بصره على البيت فليستحضر عظمته في قلبه، وليترقّ بفكره إلى مشاهدة حضرة ربّ البيت في جوار الملائكة المقرّبين، وليتشوّق أن يرزقه النظر إلى وجهه الكريم، كما رزقه الوصول إلى بيته العظيم، وليتكثّر من الذكر والشكر على تبليغ اللّه إيّاه هذه المرتبة. وبالجملة، فلا يغفل عن تذكير أحوال الآخرة في كلّ ما يراه، فإنّ كلّ أحوال الحجّ ومنازله دليل يترقّي منه إلى مشاهدة أحوال الآخرة. وأمّا الطواف بالبيت: فليستحضر في قلبه التعظيم والخوف والخشية والمحبّة، وليعلم أنّه بذلك متشبّه بالملائكة المقرّبين الحافّين حول العرش، الطائفين حوله. ولا تظنّن أنّ المقصود طواف جسمك بالبيت، بل طواف قلبك بذكر ربّ البيت مثال ظاهر في عالم الشهادة لتلك الحضرة التي هي عالم الغيب، كما أنّ الإنسان الظاهر مثال الظاهر في عالم الشهادة للإنسان الباطن الذي لا يشاهد بالبصر، وهو في عالم الغيب، وأنّ عالم الملك والشهادة مرقاة ومدرج إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح له باب الرحمة، وأخذت العناية الإلهيّة بيده لسلوك الصراط المستقيم. وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة الإلهيّة: بأنّ البيت المعمور في السماء بإزاء الكعبة وأنّ طواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت[8]. ولمّا قصرت مرتبة أكثر الخلق عن مثل الطواف أمروا بالتشبّه بهم بحسب الإمكان، ووعدوا بأنّ من تشبّه بقوم فهو منهم. ثمّ كثيراً ما يزداد ذلك التشبيه إلى أن يصير في قوّة المشبّه به، والّذي يبلغ تلك المرتبة، فهو الذي يقال: إنّ الكعبة تزوره وتطوف به على ما رواه بعض المكاشفين لبعض أولياء اللّه. وأمّا الاستلام: فليس تحضر عنده أنّه مبايع للّه على طاعته، ومصمّم عزيمته على الوفاء ببيعته، (فَمَن نَكَثَ فَاِنّما يَنكُثُ على نفسِه وَ مَن أوفي بِما عاهَدَ عَلَيه اللّه فَسَيؤتيه أجراً عظيماً)[9]، ولذلك قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض، يصافح بها خلقه كما يصافح الرجل أخاه»[10]. ولمّا قبّله عمر قال: إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولو لا أنّي رأيت رسول اللّه يقبّلك لما قبّلتك، فقال له عليّ(عليه السلام): «مه يا عمر، بل يضرّ وينفع، فإنّ اللّه سبحانه لمّا أخذ الميثاق على بني آدم حيث يقول: (وَاِذ أخَذَ ربُّك من بَني آدَمَ من ظُهُورِهِم ذُرّيَتَهم وَ أشهَدَهُم على انفُسِهِم)[11]. ألقمه هذا الحجر ليكون شاهداً عليهم بأداء أمانتهم، وذلك معنى قول الإنسان عند استلامه، أمانتي أدّيتها، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي عند ربّك بالموافاة[12]. وأمّا التعلّق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم: فليستحضر فيه طلب القرب حبّاً للّه، وشوقاً إلى لقائه تبرّكاً بالمماسة، ورجاءً للتحصّن من النار في كلّ جزء من البيت. ولتكن النيّة في التعلّق بالستر الإلحاج في طلب الرحمة، وتوجيه الذهن إلى الواحد الحقّ، وسؤال الأمان من عذابه، كالمذنب المتعلّق بأذيال من عصاه، المتفرّغ إليه في عفوه عنه، المتعرّف له بأنّه لا ملجأ إلاّ إليه، ولا مفزع له إلاّ عفوه وكرمه، وأنّه لا يفارق ذيله إلاّ بالعفو وبذل الطاعة في المستقبل. وأمّا السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت: فمثال لتردّد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً، مرّةً بعد أُخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاءً لملاحظته بعين الرحمة، كالّذي دخل على الملك، وخرج وهو لا يدري ما الّذي يقضي الملك في حقّه من قبول، أو ردّ، فيكون تردّده رجاء أن يرحمه في الثانية إن لم يكن رحمه في الأولى. وليتذكّر عند تردّده بين الصفا والمروة تردّده بين كفّتي الميزان في عرصة القيامة، وليمثل الصفا بكفّة الحسنات، والمروة بكفّة السيّئات، وليتذكّر تردّده بين الكفّتين ملاحظاً للرجحان والنقصان متردّداً بين العذاب والغفران. وأمّا الوقوف بعرفة: فليتذكّر بما يرى من ازدحام الناس، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، واتّباع الفرق أئمّتهم في التردّدات على المشاعر ـ اقتفاءً لهم وسيراً بسيرتهم ـ عرصات القيامة واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمّة، واقتفاء كلّ اُمّة أثر نبيّها، وطمعهم في شفاعتهم، وتجرّدهم في ذلك الصعيد الواحد بين الردّ والقبول. وإذا تذكّر ذلك، فيلزم قلبه الضراعة والابتهال إلى اللّه أن يحشره في زمرة الفائزين المرحومين، ولكن رجاؤه أغلب، فإنّ الموقف شريف، والرحمة إنّما تصل من حضرة الجلال إلى كافّة الخلائق بواسطة النفوس الكاملة من أوتاد الأرض، ولا يخلو الموقف عن طائفة من الأبدال والأوتاد، وطوائف من الصالحين وأرباب القلوب. فإن اجتمعت هممهم، وتجرّدت للضراعة نفوسهم، وارتفعت إلى اللّه أيديهم، وامتدّت إليه أعناقهم، يرمقون بأبصارهم جهة الرحمة، طالبين لها، فلا تظنّن أنّه يخيب سعيهم من رحمة تغمرهم. ويلوح لك من اجتماعهم الأمم بعرفات، والاستظهار بمجاورة الأبدال والأوتاد المجتمعين من أقطار البلاد، وهو السرّ الأعظم من الحجّ ومقاصده، فلا طريق إلى استنزال رحمة اللّه، واستدرارها أعظم من اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد على صعيد واحد. وأمّا رمي الجمار: فليقصد به الانقياد لأمر اللّه، وإظهار الرقّ والعبوديّة. ثمّ ليقصد به التشبّه بإبراهيم(عليه السلام)، حيث عرض له إبليس في ذلك الموضع، ليدخل على حجّه شبهة، أو يفتنه بمعصية، فأمره اللّه تعالى أن يرميه بالحجارة; طرداً وقطعاً لأمله. فإن خطر له أنّ الشيطان عرض لإبراهيم(عليه السلام)، ولم يعرض له، فليعلم أنّ هذا الخاطر من الشيطان، وهو الذي ألقاه على قلبه، ليخيّل إليه أنّه لا فائدة في الرمي، وأنّه يشبّه اللعب، وليطرده عن نفسه بالجدّ والتشمير في الرمي فيه، يرغم فيه أنف الشيطان، فإنّه وإن كان في الظاهر رمياً للعقبة بالحصى، فهو في الحقيقة رمي لوجه إبليس، وقصّم لظهره، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلاّ بإمتثال أمر اللّه;، تعظيماً لمجرّد الأمر. وأمّا ذبح الهدي: فليعلم أنّه تقرّب إلى اللّه تعالى بحكم الإمتثال، فليكمل الهدي وأجزاءه، وليرج أن يعتق اللّه بكلّ جزء منه جزءاً من النار، هكذا ورد الوعد، فكلّما كان الهدي أكثر وأوفر كان الفداء به من النار أتمّ وأعمّ، وهو يشبه التقرّب إلى الملك بالذبح له وإتمام الضيافة والقري، والغاية منه تذكّر المعبود الأوّل سبحانه عنه النيّة في الذبح، واعتقاد أنّه متقرّب به بأجزائه إلى اللّه. فهذه هي الإشارة إلى أسرار الحجّ، وأعماله الباطنة[13]. -------------------------------------------------------------------------------- [1]. آل عمران (3): 97 . [2]. مصباح الشريعة: 48، مستدرك الوسائل 10: 172، المحجّة البيضاء 2: 207 . [3]. المائدة (5) : 81 . [4]. الكهف (18) : 103 و 104 . [5]. النحل (16) : 7 . [6]. النساء (4) : 100 . [7]. عوالى اللئالي 4: 35. [8]. علل الشرائع 2: 125، الحديث 7، وسائل الشيعة 13: 296، كتاب الحجّ، أبواب الطواف، الباب 1، الحديث 12. [9]. الفتح (48) : 10 . [10]. المحاسن: 65، البحار 99: 225، الحديث 22. [11]. الأعراف (7) : 172. [12]. الكافي 4: 402/1، التهذيب 5: 101/329، وسائل الشيعة 13: 313، كتاب الحجّ، أبواب الطواف، الباب 12، الحديث1. [13]. شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني. 2: 229.
|