|
ولنختم في أسرار الحجّ ما أشار إليه في الروايات
ولنختم في أسرار الحجّ
ما أشار إليه في الروايات أسرار الحجّ في الروايات عن هشام بن الحكم، قال: سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) فقلت له: ما العلّة التي من أجلها كلّف اللّه العباد الحجّ والطواف بالبيت؟ فقال: «إنّ اللّه عزّوجلّ خلق الخلق لا لعلّة، إلاّ أنّه شاء، ففعل فخلقهم إلى وقت مؤجّل، وأمرهم ونهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وتعرف أخباره، ويذكر ولا يسنى، ولو كان كلّ قوم إنّما يتكلّون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار، ولم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحجّ»[1]. عن الفضل بن شاذان، عن الرضا(عليه السلام) ـ في حديث طويل ـ قال: «إنّما أُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى اللّه عزّوجلّ وطلب الزيادة، والخروج من كلّ ما اقترف العبد تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذّات، شاخصاً في الحرّ والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلّل، مع ما في ذلك بجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر، ممّن يحجّ وممّن لم يحجّ، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة(عليهم السلام) إلى كلّ صقع وناحية، كما قال اللّه عزّوجلّ: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)»[2] و (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)»[3].[4] عن فضل بن يونس، قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ فقال: إنّ صاحبي كان مخلصاً، كان يقول طوراً بالقدر وطوراً بالجبر، وما أعلمه اعتقد مذهباً دام عليه. قال: ودخل مكّة تمرّداً وإنكاراً على من يحجّ، وكان يكره العلماء مسائلته إيّاهم ومجالسته لهم، لخبث لسانه وفساد سريرته، فأتى جعفر بن محمّد(عليهما السلام)فجلس إليه في جماعة من نظرائه، ثمّ قال له: يا أبا عبداللّه! إنّ المجالس أمانات، ولابدّ لكلّ من به سعال أن يسعل[5] أفتأذن لي في الكلام؟ فقال أبو عبداللّه(عليه السلام): تكلّم بما شئت. فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر؟ وتلوذون بهذا الحجر؟ وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر؟ وتهرولون هرولة البعير إذا نفر؟ إنّ من فكّر في هذا الأمر قد علم أنّ هذا فعل أسّسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل: فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك اُسّه ونظامه. فقال أبو عبداللّه(عليه السلام): إنّ من أضلّه اللّه وأعمى قلبه استوخم الحقّ، فلم يستعذ به وصار الشيطان وليّه، يورده مناهل الهلكة، ثمّ لايصدره، وهذا بيت استعبد اللّه عزّوجلّ به خلقه، ليختبر به طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محلّ أنبيائه وقبلة للمصلّين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدّي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال، خلقه اللّه عزّوجلّ قبل دحو الأرض بألفي عام، وأحقّ من أُطيع فيما أُمر وانتهى عمّا نهى عنه وزجر اللّه المنشىء للأرواح والصور»[6]. فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت يا أبا عبداللّه! فأحلت على غائب، فقال: ويلك كيف يكون غائباً من هو في خلقه شاهد وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم، ويعلم أسرارهم، وإنّما المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان، وخلا منه مكان فلا يدري في المكان الذي صار إليه، ما حدث في المكان الذي كان فيه، فأمّا اللّه العظيم الشأن، الملك الديان، فإنّه لا يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة وأيّده بنصره، واختاره لتبليغ رسالاته صدقنا قوله بأنّ ربّه بعثه وكلمه. فقام عنه ابن أبي العوجاء، فقال لأصحابه: من ألقاني في بحر هذا؟ سألتكم إن تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني إلى خمرة[7]. قالوا: ما كنت في مجلسه إلاّ حقيراً. قال: إنّه ابن من حلق رؤوس من ترون[8]. فتحصّل من جميع ما ذكرنا: إنّ الحجّ هو طريق العباد إلى اللّه، وهو آخر منازل القرب التي يمكنهم بلوغها في هذه الحياة الدنيويّة، فهو لا يعني مجرّد الذهاب إلى الحرم المكّي الشريف والأقفال منه راجعين، بل إنّ حقيقته بلوغ الأهداف والغايات التي وجب من أجلها. إنّ معنى الحجّ هو ترك الديار واللجوء إلى الديّار، وهو مقام الوصال الذي يمكن بلوغه من خلال تنقية الروح، وإضناء الجسد، وبذل المال. على الحاجّ ـ مضافاً إلى قيامه بمناسك الحجّ الظاهريّة ـ أن يكون مدركاً لحقيقة الحجّ، ومن هنا ينبغي أن يكون له سلوك روحانيّ لا جسمانيّ. يجب على الحاجّ أن يبتعد عن الشهوات ويتخلّق بالأخلاق الملكوتية، وعليه التحرر من جميع القيود، ولما كانت غاتيه بلوغ بيت اللّه، فعليه الانفصال من بيته وجسمه الأرضي; ليحلق في الملكوت الأعلى. وممَّا يجدر ذكره أنّه لا توجد هناك عبادة جوفاء خالية من الروح، بل إنّ كلّ شعيرة من شعائر الحجّ تزخر بالمعاني الكثيرة التي تؤلّف الهدف الأساس من الحجّ. -------------------------------------------------------------------------------- [1]. علل الشرائع 2: 124، وسائل الشيعة 11: 14، كتاب الحجّ، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب 1، الحديث 18. [2]. التوبة (9) : 122. [3]. الحج (22): 28 . [4]. علل الشرائع 2: 123، وسائل الشيعة 11: 12، كتاب الحجّ، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب 1، الحديث 15. [5]. السعال حركة للهواء تحدث في قصبة الرئة تدفع الأخلاط المؤذية عنها. [6]. الكافي 4: 198، الحديث 1، الفقيه 2: 162، الحديث 701، وسائل الشيعة 11: 10، كتاب الحجّ، أبواب وجوب الحجّ، الباب 1، الحديث 10. (ورد في وسائل الشيعة ذيل الرواية). [7]. الخمرة ـ بالفتح بمعنى الخمر، وبالضمّ ألمها وصداعها. ومراد اللعين: أنّي سألتكم أن تأتون إليّ من أجادله وألعب واستهزىء به وأضحك عليه، لا إلى من يحرقني ببلاغة بيانه وبرهانه. [8]. الفقيه 2: 251، الحديث 701، الأمالي: 716.
|